أثناء كتابتي لهذا
المقال أشعر بألم كبير على فراق محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب ومحمد
الغزالي ومحمد جلال كشك وعادل حسين وعبد الوهاب المسيري وغيرهم ممن كانوا دعاة
للحرية بقلوبهم وأقلامهم وأفكارهم وحيواتهم، فلو أن أحدهم عاصر وشارك في هذه
الثورة ورآها رأي العين لما رضي أن تُسحب إلى وجهة غير وجهتها، أو أن تُساق
كالبعير لا شأن لها بمن يسوقها، لكن حسبنا أن أفكار هؤلاء وجدت صداها عند جيل جديد
ينطلق نحو الحرية ويؤمن بها كما يؤمن بالإسلام دينًا!
من المفترض أن تنتهي
المرحلة الأولى للثورة المصرية بتنصيب رئيس للجمهورية في يونيو القادم أي بعد
ثمانية عشر شهرًا كاملة من خلع "بعض" رؤوس الفساد، ممن يُحاكمون محاكمات
هزلية كوميدية قد يأخذون بعدها براءة أو أحكام مخففة!
وبرغم ما مر ويمر
وسيمر بنا من فخاخ ومؤامرات تحاك باسم الوطن والدفاع عنه والذب عن حرمه، إلا أن
هذه أمورًا متوقعة في ظل فكرين متناقضين، وجيلين متفاوتين، ورؤيتيْن تضاد كل منهما
الأخرى، فالجيل الأول لا يريد أن يُسلم بلادًا تربع على قمتها منذ مجيء محمد علي
باشا قبل 200 سنة، وجيل جديد لا يرى إلا محمد علي باشا وإصلاحاته المزعومة وأفكاره
التي وجدت وتناغمت مع الفكر الاستعماري ثم من أتوا من بعده من رؤساء ظلوا "مماليك"
للغرب لا يرى هؤلاء إلا سُرّاقًا للأوطان، بل هم أشد لصوصية من السارق للأفراد؛ فلقد
جرّفوا العقول، وسفهّوا الأجيال، وخربوا الأوطان، وجعلونا لمدة لا بأس بها عبيدًا للمال
والطعام والشهوات، لا وسع ولا طاقة لنا في تحقيق "الاستخلاف" الذي لا
يمكن أن يحدث في ظل مجتمع مكبل بالظلم، ومقيد بالعدوان.
وفي ظل هذا التصارع
بين من يريد الضحك علينا بحرية منقوصة ومن يريدها كاملة بيضاء، في ظل هذا ينقسم
المجتمع على نفسه إلى فريقين: الأول ويأتي على رأسهم نخبة من قادة التيار الإسلامي
لا يزال يخاف من الدولة المركزية المتغولة بأجهزتها الأمنية وأذرعها الحديدية ولا
يرى الثورة إلا خلطا وهزلا ويرضى منها بالاتفاقات التي تحدث في الغرف المغلقة أو
غير المغلقة، ثم يسعى إلى تغليف ذلك بحجج واهية وعلى رأسها الخوف من إحداث البلبلة
والانشقاقات وتدمير البلد وإحداث الفتن والأزمات فيها بفعل هذه الأجهزة الأمنية
فلابد عنده أن يشاركهم في الحكم ويقبل منهم ويقبلوا منه، ثم يضحك على نفسه بمسرحية
هزلية سخيفة لا تزال تردد قولهم القديم: سنعمل على الإصلاح التدريجي. والفريق الثاني فيرى
هذه الأحداث أمام عينه في وضوح تام لا ريبة فيه، ويتأكد عنده أن انحسار المشهد
الثوري بين هؤلاء الأقوياء والضعفاء لن يؤدي إلا إلى العهد البائد، بل وأخطر منه!
وأمام هذه المعادلة
الصعبة، يتطور الموقف في ظل أغلبية نيابية ويخرجون علينا بحجة التوافق ويختارون رئيسًا
لمجلس الشعب، لا يراه شباب الثورة من الإسلاميين والوطنيين إلا رجلاً تقليديًا قَبل
أن يتناقش مع عمر سليمان ويجلس معه والناس تقتل في التحرير، بل لم يُعرض على الناس
بل ولا على شباب الجماعة المنتمي إليها وما أكثر الحانقين من هؤلاء الشباب على هذا
الاختيار لعلمهم أن هناك من هو أكفأ وأكثر توافقًا منه!
ومن منطلق التوافق
ذاته لا يرضى هؤلاء الإسلاميون أن يكونوا أغلبية نيابية باتحادهم في كتلة واحدة
بحجة أن هذا أفضل للبرلمان، وهل كان الشقاق والفرقة والتكالب على الفريق العلماني
واستئثاره في الاتحاد والتنسيق إلا انشقاقًا وتفسخًا وهدرًا للوحدة والاعتصام الذي
أمرنا القرآن صراحة بالعمل بمقتضاه؟! ولم لا تقولون الحقيقة وتخبرون الجميع بأنكم
تتعرضون لضغوط تحول دون هذا الاتحاد؟! ولم تقبلون بهذه الضغوط أصلاً؟ أليس هذا
القبول وتفويت أمر لمن يضغط عليكم لأجل الحصول على منفعة منه ما هو بصريح العبارة إلا
صفقة لا تحسب للثورة ومن ماتوا في سبيلها أي حساب؟!
منذ أيام خرج اللواء
الفنجري وقال بأن باب الترشح لانتخابات الرئاسة سيكون في منتصف إبريل وربط هذا
البدء بالانتهاء من كتابة الدستور، ومن قبله أكد وزير مجلسي الشعب والشورى على هذا
الأمر، ثم خرج محمد الكتاتني ومحمد مرسي في مؤتمر صحفي عقب جلوسهما مع الجنزوري،
وقال الأول الذي من المفترض أنه سيكون رئيسًا لمجلس الشعب إن الخريطة تتمثل أن
الانتهاء من انتخابات مجلس الشعب أولا ثم الشورى ثم الدستور ثم الرئاسة مؤكدا على
ما قاله وزير مجلسي الشعب والشورى واللواء الفنجري ضاربًا بذلك عرض الحائط للإعلان
الدستوري وراضيًا بوثيقة الأحزاب عنان التي وقّع عليها محمد مرسي رئيس حزب الحرية
والعدالة، هذا بخلاف الدستور التوافقي، ومجلس الدفاع الوطني وما خفي غير ذلك!
والآن تتوارد الأنباء
والأحاديث عن رئيس توافقي قد يقبله الإسلاميون في مقابل البرلمان وبعض الوزارات
غير السيادية ولو صحت هذه الأنباء التي تتردد منذ شهر، والتي لا يجب أن نتغافلها
أو نسهو عنها بحجة عدم التأكد منها، فإن المشهد العام، والمحصلة النهائية لهذه
التنازلات "الفنجرية" من الإسلاميين أو فريق منهم تساوي في نهاية المطاف
ثورة بلهاء لا قيمة لها!
***
في كتابه القيّم
"دراسات تحليلية للثورات" قام الأمريكي كرين برنتون بتحليل البنية
التاريخية والفكرية والسياسية والاقتصادية لأبرز الثورات في العصر الحديث: وهي
الفرنسية والروسية والانجليزية والأمريكية، وتتبع مبدأ الثورات ومنتهاها وحصيلتها
النهائية، ثم تطرق لأسباب فشلها وعوامل نجاحها.
وبالقطع فإن أهم ما
يجب أن نتابعه في هذا الكتاب وغيره هذا السؤال الذي يُلح علينا جميعًا وهو: ما
أسباب فشل الثورات؟
بالرغم من أن برنتون يعتبر
من وصلوا للحكم وانقلبوا على المعتدلين في ثلاثة من البلدان التي قامت فيها تلك
الثورات وتناولها في كتابه ذاك، إلا أننا يمكن أن نستفيد بتحليله العام، ونماذجه
التفسيرية للإجابة على سؤالنا وبغض النظر عن دلالة المصطلحات التي يتناولها بناء
على استنباطه لها، إن الفصل الذي يعنون له بـ"استيلاء المتطرفين على الحكم"
نجد أنه يُحدد عدّة أسباب رئيسة جعلت "المتطرفين" يصلون للحكم وهي تتمثل
في: السُّلطة الثانية بين النظامين القديم والجديد، والانقلاب، وتنظيم
المتطرفين، وكفاية المتطرفين واستقلالهم المالي والعسكري وغيره، جهاز الديكتاتورية
الذي أنشأوه وجعلوا كل شيء تابع لهم من خلاله!
فهل خصوم ثورتنا لا
يمتلكون هذه العناصر لإفساد وإفشال والضغط على الثورة والعناصر الفاعلة بها؟! بالقطع
لا، فهم يملكون هذه العناصر ووراءهم من يملك مثلها!
إنه يقول بمنتهى
الوضوح والقطع: "إن المتطرفين يكسبون لأنهم يضمنون سيطرتهم على الحكومة غير
الشرعية، ويستعينون بها في القيام بانقلاب حاسم ضد الحكومة الشرعية .. وإن
المعتدلين كانوا قد شاركوهم في وقت ما الإشراف على التنظيمات التي انقلبت على
الحكومة. إن مفتاح نجاح المتطرفين يكمن في احتكارهم لإدارة هذه التنظيمات التالية:
الجيش النموذجي الجديد، ودور العبادة وممثليهم، والجهاز الإداري للدولة. وهم إنما
يحصلون على هذا الاحتكار بطرد كل خصومهم النشطين من هذه التنظيمات". (برنتون:
دراسات تحليلية للثورات، بتصرف ص157 وما بعدها).
فهل دعاة التوافق مع
النظام القديم - وإن كان خطابهم للناس بأن توافقهم مع عناصر أخرى التي هي في حقيقة
الأمر صورة جديدة للنظام القديم – هل يفهمون أن مشاركة أو القبول بإملاءات بعض من
رؤوس النظام القديم هي في حقيقة الأمر مدخل لسلسة من التنازلات، يبدءون فيها
بالتوافق، وينتهون بعدها إلى السجون والإقصاء والتهميش ومحاولة إعادة الكرة من جديد؟!
إن الثورة لن تنجح إلا
بتطهير حقيقي للنظام القديم والدولة كلها، وإن الظن بأن هذا التطهير لن يكون إلا
في ظل من التدرج الذي يحتاج إلى الوقت لهو ظن باطل، وفكر عقيم أصبح من المسلّمات التي
يلقيها إليك هؤلاء الطيبون على أنها الحق الذي لا حق بعده، وينسون أنهم ظلوا عشرات
من السنين لم ينفعهم هذا التدريج شيئًا في ظل سلطة مركزية تحققت فيها شروط برنتون
الآنفة، وقد فشلوا في تحقيق أي تغيير حقيقي، بل لم يصلوا إلى الغاية التي كوّنوا
من خلالها تنظيماتهم وشبه تنظيماتهم، حتى إذا طال عليهم الأمد في ظل السلطة
المستبدة كان الحرص على التنظيم هو الأولوية، فتحولت الوسيلة إلى غاية، ولم توصلهم
هذه التنظيمات إلى معشار الحرية التي أوصلتهم إياها الثورة، وإن من يدخل من هؤلاء في
شراكة مع النظام القديم بحجة الخوف من بطشه، ويقبل منه إملاءاته وضغوطه لا يمكن أن
يكون إسلامياً حقيقيًا، أو حتى سياسيًا محنكًا، وإن التطهير والحرية والنمو
الاقتصادي والمعيشي الذي يُبشروننا به عما قريب، لن يحدث وهم لا يملكون من السلطة
إلا اسمها، بل ويقبلون بدور الممثل المساعد في مسرحية هزلية تُشرف عليها أمريكا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق