ثمة من ينظر للحركة
الإسلامية بمعناها الواسع في مصر على سبيل المثال فيرى أن الثورة كانت بالنسبة لها
نجدة من السماء لترتفع بها هذه الحركة التي قاومت ودافعت عن مشروعها وأفكارها
ودعوتها في أول الأمر ثم عن بقائها وحياة تنظيماتها/شبه تنظيماتها في آخره!
لكن ثمة آخرين يرون –
وأنا منهم – أن الثورة قد فضحت منهاجية الحركة الإسلامية – برغم تقدمها في
الانتخابات النيابية – وأبانت عن العوار والخلل والعطب الذي أصابها؛ وأول وأخطر ما
يصيب هذه الحركة الآن هو ابتعاد هذه المنهاجية عن المنبع الزكي الذي قامت عليه في
مبدأ أمرها، وهو استقاء الفكر والسلوك والمعاملات من القرآن الكريم والسنة الشريفة.
وقد يعترض على هذه الإشكالية
البينة آلاف من المنتمين لهذه الحركة أو جلهم؛ لكن لا بأس في ذلك؛ إذا علموا أن
المقصود بابتعاد كثير من قيادات الحركة الإسلامية عن الكتاب والسنة إنما كان آفته
في "المصالح والمفاسد" و "فقه السياسة الشرعية" التي كلما
فعلوا أمرًا لا يليق بإسلامي أن يفعله كان ردهم المعلّب والجاهز يتمثل في أن "السياسة
الشرعية" و "المصالح والمفاسد" المترتبة على أي عمل يقومون به؛ تُحتّم
عليهم فعل ذلك الفعل أو نفيه؛ بل ويُغلفون ذلك بغلاف من الشريعة أو اجترار ولي لأحداث
من السيرة النبوية الشريفة تتجلى لكل ذي عينين فيها مدى بُعد الاستدلال بها عن
القضية التي يتكلمون فيها، ويدافعون عن أنفسهم بها!
والتفاصيل على ذلك
أكثر من أن يحصيها مقال، منها بعد الثورة: رفضهم الدفاع عن أعراض المنتهكات
والمسحولات في واقعة القصر العيني بحجة مآلات ذلك الفعل عليهم، ومنها مطالبة بعضهم
بالتنازل عن القصاص بغية إنجاح التحول الديمقراطي، ومنها مشاركة النظام القديم في
حكم البلاد من خلال مجلس للدفاع الوطني، ومنها طغيان أمريكا وإسرائيل في الحسبان
والتصورات والأفكار دائمًا، وضرورة وضع استراتيجياتهم بناء على هذا الاحتمال
المؤكد؛ ومن ثم فلا مشاحة أن يأتي رئيس توافقي وبرلمان توافقي ورئيس حكومة توافقية
وسلطة توافقية يحكم فيها النظام القديم مع الجديد وفقًا لهذه المعادلة، وقد أظهرتُ
من قبل أن التوافقية التي ينادي بها فريق من التيار الإسلامي تعني التنازل ولا شيء
غيره!
ولسنا في هذا المقال
بصدد تفنيد مزاعمهم، وتفكيك أدلتهم على تلك القضايا التفصيلية وغيرها، بقدر ما
يهمنا الوقوف مع المنهاجية التي باتوا فيها، وحل هذه الإشكالية الخطيرة التي تهدد
الثورة المصرية، والتيار الإسلامي في مصر عمومًا!
إن الأمور
المصلحية التي يستمسكون بها، ويردون على منتقديهم من خلالها هي أول
ما يجب أن ينبهوا لخطره؛ إذ الأصل أن يُحرّروا هذا المصطلح، ويعودوا إلى أصوله
وضوابطه ومحدداته بل فهم المعيار الذي تُحدد من خلاله المصلحة من المفسدة؛ فإذا
كانت المصلحة تتمثل في جلب المنفعة ودفع المضرة؛ فإن هذه المنفعة لا يجب أن تُترك
دون ضابط شرعي أخلاقي يُقومها ويهديها سواء السبيل؛ وإلا لانصرفت المصلحة إلى
الدلالة المتفق عليها عند "البراجماتيين" من كونها كل ما ينفع الفرد أو
المؤسسة أو الفصيل بغض النظر عن مآلات ووسائل هذا النفع على صاحبه أو جماعته،
ولذلك قال العلامة الغزالي: "نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع"[1]
فهذه هي غاية المصلحة في الإسلام أن تراعي الله أولاً وأخيرًا، وهي بهذا الربط
الإلهي مرتبطة بارتباط ثابت وثيق لا نسبية فيه؛ لكن أن تكون المصلحة مجرد رأي
سياسي يتعارض أخلاقيًا أو حتى سياسيًا ومصلحيًا مع الحقيقة والواقع ومفهوم الشرع فهذا
هو الاجترار والاجتراء الذي نتحدث عنه، وهذا هو التغليف الفاسد الذي ننبذه ونذمه!
لكن على أية حال،
طالما أن الحركيين يسيطرون على مقاليد الأمور في الحركة الإسلامية، ثم يُنحّى رجال
التخصص من علماء الشريعة والمفكرين والمؤرخين والسياسيين الإسلاميين جانبًا فإن
المنطق "الحركي/البراجماتي" الذي ظاهره اتباع الشرع وباطنه الاستدلال
الفاسد بهذا الشرع سيظل موجودًا للأسف، دون مقوم له، أو رادع لفساده!
على أن سبب بروز هؤلاء
"المصلحيين" على رأس الحركة الإسلامية في مصر لا يجب أن ينفك عن الواقع
العالمي الذي أصاب الثقافة الإنسانية، والمجتمعات الإسلامية في مقتل منذ القرن
التاسع عشر وحتى الآن، ونقصد بذلك سيطرة العلمانية على الأفكار والأشخاص بكافة
صورها ومن خلال سلطة مركزية رهيبة استولت على مؤسسات الدولة كلها وعلى رأسها
الثقافة والإعلام والأمن؛ هذه السيطرة كان لها نتائجها وتجلياتها الوخيمة على
الفرد والمجتمع، وأهمها عملية التنميط والترشيد التي بتنا نراها داخل أبناء الحركة
الإسلامية أنفسهم؛ حتى أصبحت هذه الحركة بتنظيماتها وأفرادها مجتمعًا مغلقًا
موازيًا للمجتمع الحقيقي، يُراد من خلاله جرجرة المجتمع الأم إلى رحابه الضيق؛
الأمر الذي يُسبب يوميًا تصادمًا بين أبناء هذه الحركة وبين إسلاميين آخرين يرون
الإسلام من منظور الأمة الأعمق والأشد تنوعًا والأكثر تحررًا من هذه القولبة المضادة
للفطرة الإنسانية!
وهذه المعاني يؤكدها
الدكتور والمفكر الرائع عبد الوهاب المسيري رحمه الله بقوله: " لعل أهم أسباب
التنميط هو ظهور الدولة العلمانية المركزية التي لا تتعامل إلا مع وحدات إدارية
ضخمة، والتي تحاول قدر طاقتها ترشيد الواقع الاجتماعي والإنساني حتى يمكنها التحكم
فيه و التخطيط له و توجيهه وتوظيفه لصالحها، أي حوسلته، و عملية الترشيد هذه هي في
جوهرها عملية تنميط، إذ بدونها سيصبح الواقع الإنساني والاجتماعي متنوعا مركبًا
غير متجانس، فلا يمكن التنبؤ بسلوك الإنسان، و من ثم لا يمكن إخضاعه لعمليات الحوسلة.."[2]!
إن عدم توقع الفعل
البشري هو أمر طبيعي لابد أن يعود لأصله الذي جبل الله الإنسان عليه؛ لأنه مكون
مركب من مادة وروح، ولأن أصول معرفته تتكئ على السمع والبصر والفؤاد وهي نسبية تتفاوت
من إنسان لآخر؛ ولأن الله أكد على أفضلية البشر على بعضهم في المادي والمعنوي؛
ولأن المنهج الذي يعتمد عليه المسلم الحقيقي هو منهج متجاوز للبشر متاح للجميع لا
وساطة وكهنوت ولا قداسة فيه لبشر أو شرح إلا نبينا المعصوم صلى الله عليه وسلم،
لكن أن يُعمل على مسخ الإنسان وقولبته في تنظيمات/هياكل شبه منظّمة كان في بادئ
أمرها خيرًا ثم انحرفت عن جادة الطريق، وأصبحت تتعامل مع الأنصار والمؤيدين من
مبدأ الحوسلة والتنميط ليسهل السيطرة عليهم، ويتحول التنظيم/شبه التنظيم من أداة
تناضل لإحقاق الحق إلى وسيلة سياسية صرفة يتحكم فيها مجموعة من الأشخاص يمكن
بدورهم التحكم فيهم وإغرائهم أو إرهابهم أو إجماعهم على أمر فيه ضرر ومفسدة فنحن
إذن في مجتمع مادي لا يختلف في بنيته الفكرية المركزية عن المؤسسات العلمانية وتجلياتها
الرهيبة!
ومن هنا: كان سؤال هذا
المقال الأصلي: هل نحن بحاجة إلى تيار إسلامي جديد؟! إلى تيار نقي يخرج من هذه التبعات
الفكرية والسيكولوجية والثقافية التي بات الإسلاميون التقليديون يؤمنون بها
ويتخذونها نهجًا وسبيلاً بل وغاية؟!
إن الإجابة على هذا
السؤال هي بالإيجاب قطعًا؛ بل إن هذا الأمر يتفق مع السنة الإلهية المتمثلة في "التجديد"
و "التداول"؛ فالمنهج الإسلامي عالج هذه الإشكالية، وأظهر أن المجتمع
مثل بركة المياه التي إن لم تتحرك وتتدفق برؤى واجتهادات وحركات وتيارات جديدة
فإنها تُصبح آسنة غير طاهرة ولا مطهرة؛ ولذلك كانت رحمة الله بهذه الأمة أن جعل
أمر تجديدها في كل قرن بإذنه سبحانه وتعالى، بل جعله سُنة ثابتة ما بقي المسلمون
الموحدون على الأرض!
وقد قال نبينا صلى
الله عليه وسلم في حديثه الذي يرويه أبو داود بسنده: "إن الله يبعث لهذه
الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"[3]،
وقد علّق العلامة ابن حجر العسقلاني على هذا الحديث بقوله الرائع: "إنه لا
يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة
وهو متجه؛ فان اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير
ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد
العزيز فأنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير
وتقدمه فيها، وإما من جاء بعده فالشافعي وان كان متصفا بالصفات الجميلة إلا انه لم
يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل فعلى هذا كل من كان متصفا بشيء من ذلك عند
رأس المائة هو المراد سواء تعدد أم لا"[4]،
فأثبت رحمه الله أن الموكل بأمر تجديد هذه الأمة لا يلزم أن يكون فردًا أو شخصًا
واحدًا وهذا هو الأقرب للمنطق والعقل واتساع رقعة المسلمين وتشتت أقطارهم ولغاتهم
ومشاربهم!
غير أن سبب تجديد
الدين للأمة وهو أعظم الأمور وأولاها للمسلمين يُجليه المباركفوري بقوله: "المراد
من تجديد الدين للأمة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما،
وإماتة البدع والمحدثات، وكسر أهلها باللسان، أو تصنيف الكتب، أو التدريس أو غير
ذلك، ولا يعلم ذلك المجدد إلا بغلبة الظن ممن عاصره من العلماء بقرائن أحواله
والانتفاع بعلمه، إذ المجدد للدين لا بد أن يكون عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة
والباطنة، ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة، وأن يعم علمه أهل زمانه، وإنما كان
التجديد على رأس كل مائة سنة؛ لانخرام العلماء فيه غالباً، واندراس السنن، وظهور
البدع، فيحتاج حينئذٍ إلى تجديد"[5].
ومهما يكن من شروحات
رجال الحديث لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الآنف؛ فإنها في مجملها تصب في معين
واحد وهو تجديد الدين بمفهومه العام والشامل، بما في ذلك الحركات والمنظمات
العاملة لدين الله وأفكارها ورؤاها التي باتت – مع مرور الزمن، وتوالي الخطوب – في
حاجة ماسة إلى التجديد والإحياء؛ فهي اليوم تدور حول ديباجات تتخلف عن فهم الواقع،
بل ولا تعمل على تأسيس منطلقات فكرية وحضارية وثقافية ونهضوية جديدة ترفع به الإصر
الذي عليها، وتنقي من خلاله شوائب وأكدار العلمانية المتوحشة التي ابتُليت وابتُلي
بها كثير من أتباعها ومؤيديها!
وفي نهاية هذا المقال
أختم حديثي بكلام الدكتور محمد عمارة القوي والمهم عن ماهية التيار التجديدي الإحيائي
المراد إيجاده بقوله: "الإحياء لأصول الإسلام وثوابته تعني العودة به إلى
المنابع الجوهرية والنقية لهذا الدين الحنيف، والنظر فيها بعقل معاصر؛ يفقه
أحكامها، كما يفقه الواقع الذي يعيش فيه؛ عاقدًا القران بين "فقه
الواقع" و "وفقه الأحكام"؛ ليصل إلى التجديد في الفروع الذي هو
مبدع للأحكام الفقهية الجديدة التي تستجيب للمصالح الشرعية المعتبرة التي طرحتها
وتطرحها مستجدات الواقع الجديد والمعيش؛ ففي هذا التيار – الإحيائي والتجديدي –
تتوازن "الثوابت" الدائمة الثبات، والضامنة دوام إسلامية النسق الفكري
على امتداد الزمان والمكان، مع "التجديد" في الفروع التي تطرحها متغيرات
الواقع ومستجداته؛ الأمر الذي ينفي القطيعة، قطيعة "الجديد والتجديد" مع
"الثوابت والثبات"، كما ينفي "الجمود والتقليد" الذي يحدث
فراغًا فكريًا، سُرعان ما تملؤه الفكرية الحدثية الغربية، التي مثلت منذ نشأتها في
عصر النهضة الأوربية قطيعة معرفية مع الموروث الديني على وجه الخصوص"[6].
فما أصدقه من كلام لا ينطبق
على التيار الإسلامي التقليدي، بل ويؤكد على ضرورة وجود تيار إسلامي جديد ينتشل
الحالة الثورية والسياسية والفكرية والاجتماعية من براثن التقليدية إلى رحاب
الانطلاق في آفاق جديدة تفتح الباب واسعًا أمام الإبداع والعطاء وأستاذية العالم
بحق!
مصطلح الحوسلة ما معناه؟
ردحذف