السبت، 28 يناير 2012

الخائفون من السلطة!


في لقائه مع "قناة العربية" تحدث الدكتور أحمد هيكل رئيس مجلس إدارة شركة القلعة للاستثمارات المالية من الملتقى العالمي لرجال السياسة والاقتصاد في "دافوس" عن أسباب عجز الموازنة المصرية وماهية الإجراءات العاجلة لحل هذه الإشكالية الخطيرة، وقد ركز الرجل على قضية مهمة جدا وقال: لو أني مكان المجلس العسكري لذهبت إلى الدكتور محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة وقلت له عليك أن تشكل الحكومة سريعًا؛ لأن هذا سيعطي استقرارًا للأوضاع السياسية في البلد، وسيعمل على جلب استثمارات عاجلة، وسيطمئن رجال الأعمال والاقتصاد في الداخل!!
لكن الدكتور مرسي يأبى هو والمجلس العسكري أن يشكلوا حكومة من الأغلبية بحجة أن هذا قد يخالف الدستور والإعلان الدستور، ولا أفهم كيف لا نضع نصب أعيننا المصلحة العليا للبلد وأي دستور هذا تُعارض روحه ومقاصدُه مصالح المصريين!!
إشكالية المجلس العسكري جلية واضحة تتمثل منذ اليوم الأول لتسلمه مقاليد السلطة في البلاد في أنه "مثل الفريك لا يحب الشريك" وهو ما يحرص ويؤكد عليه حتى في أوقات الأزمات وخاصة أزمة محمد محمود وإتيانه بالدكتور الجنزوري وإعطائه صلاحيات صورية، ثم سمى حكومته "حكومة الإنقاذ الوطني"!!
وهذه الإشكالية مفهومة من سلطة عسكرية تحكم مصر منذ قرون ولا تريد أن تخرج من قيادة البلاد إلا بأقل خسائر ممكنة في مقدراتها ومصالحها الاقتصادية والسيادية في البلد، فهي طبقة مثل طبقة "إقطاعيي العصور الوسطى" من العسكريين الذين كانوا يملكون الأرض ومن عليها، مستمتعين بمزايا ومقدرات رائقة رائعة ظريفة!
لكن إشكالية التيار الإسلامي الذي أصبح أغلبية مجلس الشعب، والممثل الشرعي الوحيد للمصريين هي التي تظل عائقة عن الفهم والتصور والتقدير؛ فزهدهم الواضح في تسلم السلطة والسعي لها، وهو سعي شرعي تؤيده الأمة كلها لا يمكن أن يكون إلا ضربًا للثورة وإجهاضًا لها من حيث يحسبون أنه أقل نوع من الخسائر الممكنة بينهم وبين العسكر.
إن النموذج الكامن في أعماق هذه الثورة والثورات عمومًا هو الصراع الجدلي بين الحق والباطل، بين عموم الناس من المصريين والإسلاميين الحقيقيين والوطنيين المخلصين وبين من سرقوا مقدرات البلاد، وتحكموا في مصائر العباد عبر قرون طويلة من الاستخفاف والتنكيل، وهي قوى تقف من خلفها الولايات المتحدة والغرب الذي يأبى أن تهدر مصالحه أو تنتكس في دولة محورية ومركزية مثل مصر وتصبح ذات استقلالية في القرار السياسي والاستراتيجي على المدى القريب والبعيد، وهذا مفهوم ومعلوم بالضرورة!
ومن هذا المنطلق المنطقي البسيط كيف يمكن أن يتصور عاقل أن تنجح الثورة بإعادة تشكيل العلائق والوشائج بين الجانبين ونقول للجميع بأن الثورة قد نجحت وحققت أغراضها؟! كيف يمكن أن يستأنس النظامُ الجديدُ القديمَ أو العكس؟!
إن تجارب التاريخ لا نرى فيها مثل هذه المسرحية الهزلية بين الغالب والمغلوب، فطالما كان المغلوب تبعًا للغالب، وطالما أنتج الصراع أو الثورات نموذجًا أو قوة واحدة متمكنة من مقاليد الأمور، حتى إن ابن خلدون (ت808هـ)  عنون في مقدمته الخالدة فصلاً جاء فيه: "في أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه"، فأين ابن خلدون الذي توفي منذ ستة قرون خلت مما نحن فيه اليوم ممن يريدون عكس قاعدته الاجتماعية لتصبح "في أن الغالب مولع بالطاعة للمغلوب والانقياد له واستئناسه والخوف منه"!!!.
إن القضية ليست بالقطع في تشكيل حكومة الآن أو غدًا القضية أعمق من هذا وأكثر جدية، إنها تتكثف حول كيف يُنحى العسكر من المشهد السياسي؟! كيف يتم قصر أيديهم، وتحييد قوتهم، وضبط غايتهم، وتعريفهم أولويتهم؟! وهل سيتم هذا بالإذعان والخوف والمساومة أم بالتطويع والتوجيه والإلزام؟!!
إذا كان الإسلاميون طوال تاريخهم منذ محمد عبده بل قل منذ عمر مكرم إلى اليوم يجاهدون لإحقاق مبدأ سيادة الأمة، وأن يكون الشعب هو مناط الفعل السياسي ومقصده، فكيف سيحقق أحفادهم اليوم هذه الغاية وأيديهم مرتعشة لا تقوى على تحمل المسئولية والتبعة، وكأن السلطة نار جهنم كلما اقتربوا منها كلما لاحت لهم نارها وشررها المستطير، وهل كان نضالهم طوال العقود الماضية إلا لأجل هذه اللحظة؟ وهل إحقاق العدل والقسطاس بين الناس يتم تحقيقه بدون قوة تدفعه، وسلطة تؤيده؟!
وقديما قال الشيخ الأندلسي أبو عبد الله بن الأزرق (ت 896هـ) في كتابه "بدائع السلك في طبائع الملك" وهو من المصادر الأساسية في السياسة وتدبير شئون الرعية في الأدبيات التراثية الإسلامية ما نصُّه: "إن الرئاسة والسلطان تنزل من الدين منزلة الأخ المعين، والعماد الرافع لفسطاطه (أي خيمته). فقديما قيل: الدين والسلطان توأمان. وعن أزدشير الفارسي أنه قال لابنه: يا بني إن الملك والدين إخوان، لا غنى بأحدهما عن الآخر، فالدين أسٌّ والملك حارس، وما لم تكن له أسس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع.
وقال الشاعر:
لا يُصلح الناس الفوضى لا سَراة لهم ... ولا سَراة إذا جُهّالهم سادوا
والبيت لا يُبتني إلا على عُمد ... ولا عِماد إذا لم تُرسَ أوتاد
فإن تجمع أوتادًا وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
وإن السّلطان يدفع بتخويفه وتهديده مالا يُدفع بالقرآن بتكرير وعظه وترديده، في الأثر: إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن؛ وذلك لما في الطباع البشرية من العدوان والاستعصاء عن الطاعة".
ومن المفارقات أن ابن الأزرق هذا كان قاضي غرناطة وقد شهد سقوط الأندلس بالكلية في زمنه ويهرب الرجل إلى المشرق ليكون قاضي بيت المقدس تحت ظل الدولة المملوكية، ولم ينتفع بنو الأحمر سلاطين غرناطة بما كتبه لهم هذا القاضي الحصيف، في مشهد دراماتيكي يصور لنا العلاقة الجدلية المستمرة حتى الآن بين السياسي والمثقف الأمين!
إن ما ذكره ابن الأزرق هو ترديد لذات الفكرة القديمة التي تواكبت مع النظم الإنسانية منذ فجر الحضارة وحتى الآن وهي تتمثل في أن التخلي عن الرئاسة والحكم الرشيد وتحييد أية قوة من شأنها أن تعيق تقدم الدولة بين الدول، وتعرقل من نهضتها بين الأمم، هو الجهل عينه. وفي التصور الإسلامي فإن السلطة والدين أخوان لا ينفصمان، ولا إقامة لأحدهما دون سند من الآخر، وهي القاعدة الاجتماعية والتاريخية بل والإنسانية الواضحة التي من يتجاهلها بحجة التوافق أو القبول بدور المراقب والمشرّع فقط لا يعدو أن يكون مضادًا لتاريخ التجربة الإنسانية عمومًا في هذا السياق.
أيها الإسلاميون يا من نلتم ثقة الناس: كيف في هذه اللحظة الفارقة تقبلون بدور الشراكة مع من حاربكم وضيق عليكم وعمل على إجهاض مشروعكم منذ عقود؟ هل تظنون أن السلطة الثنائية بين النظامين القديم والجديد هي الحل لهذه الإشكالية التي وضعتم أنفسكم فيها، وهي إشكالية نفسية في المقام الأول؟ وكيف لا تسعون للسيطرة الشرعية على زمام الأمور المفصلية في الدولة وقد اختاركم الناس؟! أليس زهدكم هذا دليل على خيانتكم للناس؟! أليس هذا خوف وارتباك في موضع الإقدام وتحمل المسئولية؟!!
 * راجع في ذات السياق مقالات الباحث في التاريخ والحضارة محمد إلهامي

هناك تعليقان (2):

  1. لا أستطيع أن أفسره بالزهد.. صبحي صالح قالها لي بشكل شخصي في مارس الماضي.. بإنها جمرة ملتهبة ومن يمسك بها وحده سينتهز الآخرين الفرصة لطعنه حتى الموت

    تسليم السلطة للإخوان فخ هينتج عنه إما الإنقلاب عليهم. أو تحويلهم لوحوش تحارب أي شيء لأجل السلطة

    فإن لم تأتي السلطة بشكل شرعي لا يجوز الطعن عليه *وحتى الآن بيتم الطعن في البرلمان ومدى مصداقيته وتمثيله للشعب..وبشكل مريض* فلا استلام للسلطة لأنها بكل بساطة تفاحة فاسدة ستصيب أصحاب النوايا الحسنة بالتسمم

    ردحذف
  2. هذا ما يصوره العسكر لقيادات الإخوان عن طريق الترغيب والترهيب، يخوفهم من السلطة ويصورها لهم بأنها تفاحة فاسدة؛ ليزهدوا فيها، ويتركوها ظنا منهم أن أوانها لم يحن بعد، وكأن السلطة هدية وتفاحة ظريفة تأتي على طبق من ذهب، وكأن جماعة الإخوان والسلفيون وكل داع للإصلاح نسي وظيفته الأولى وهي "الإصلاح" .. أينما كان وحيثما كان ، وعلى رأسه "السلطة" التي تتحكم في مصائر البلاد والعباد في دولة مركزية مثل مصر، وكأنك بهذا المنطق تُصور لي السلطة وكأنها تشريف لم يحن أوانه!!

    ردحذف