عرف الأوربيون من
الأندلسيين معنى الحضارة والمدنية والانضباط والفكر، فضلاً عن الإدارة والصناعة
والتجارة والزراعة، ثم تعاملهم الراقي مع بيئتهم، ولقد تمتعت الأندلس بموارد بيئية
هائلة استثمرتها بطرق رائعة قلما وجدناها في أمة من الأمم.
فالمياه في الأندلس
كانت – ولا تزال – من الكثرة بمكان؛ وقد كانت هذه المياه العذبة متوفرة في الأنهر
الكبيرة والصغيرة والعيون والآبار فضلاً عن مياه الأمطار التي تنعم بها الأندلس
طيلة العام تقريبًا، ولذلك فإنها مكسوة بالخضرة من أشجار وثمار وبرك وأزهار فواحة؛
من أجل ذلك تأثر الأندلسيون بهذه الطبيعة الرائعة؛ حتى لا يكاد أن يخلو الشعر
الأندلسي من التغني بهذه البيئة النضرة، مثل ما قاله ابن خفاجة الأندلسي:
خلعت على بها الأراكة ظلها ** والغصن يصغي والحمام يحدث
والشمس تجنح للغروب مريضة ** والرعد يرقي والغمامة تنفث[1]
ومثل ذلك ما ذكره
الفيلسوف والطبيب المغربي محمد بن شعيب الكرياني فقد نظم لشيخه أبي جعفر بن صفوان
أبياتًا رائعة، وقد نشأت بينهما صداقة أوجبها القدر المشترك من الولوع بالصنعة،
يتشوق إلى جهة كانوا يخلون بها للشيخ فيها ضيعة بخارج مالقة بالأندلس؛ فكان مما
نظمه وصفه لتلك المنطقة الخلابة بقوله:
رعى الله وادي شنياية
... وتلك الغدايا وتلك الليال
ومسرحنا بين خضر الغصون ... وودق المياه وسحر الظلال
ومرتعنا تحت أدواحه ... ومكرعنا في النمير الزلال[2]
وإن كتاب الحميري
"صفة جزيرة الأندلس" ليؤكد لنا على تلك الثروات الهائلة التي تمتعت بها
الأندلس، فما من مدينة يذكرها إلا ويعدد مواردها الهائلة، واستثمارات الأندلسيين
لها، فقد كان أهل إلبيرة يستغلون منطقة سهلية تنبت فيها الأشجار المثمرة تُسمى
بفحص إلبيرة، يصرفون فيه مياه الأنهار كيف شاءوا كل أوان، ومن جميع الأزمان، وأدى
الاستثمار الجيد لهذا الفحص إلى أن أصبح أطيب البقاع نفعةً، وأكرم الأرضين تربة،
ولا يعدل به مكان غير غوطة دمشق وشارحة الفيوم، ولا تعلم شجرة تستعمل وتستغل إلا
وهي أنجب شيء في هذا الفحص، وما من فاكهةٍ توصف وتستظرف إلا وما هناك من الفاكهة
فوقها، ويجود فيها من ذلك ما لا يجود إلا بالساحل من اللوز وقصب السكر وما أشبهما.
وحرير فحص إلبيرة هو الذي ينتشر في البلاد، ويعم الآفاق، وكتان هذا الفحص يربو
جيده على كتان النيل، ويكثر حتى يصل إلى أقاصي بلاد المسلمين[3].
وأبدع الأندلسيون في استثمار المياه؛ فقد عرفوا نظام النفورات؛ وحفلت كتب
التاريخ الأندلسي بوصف هذه النفورات البديعة، واستخداماتها المتنوعة التي لم تكن
تقتصر على الرفاهية أو جمال المنظر فحسب؛ فقد كانت المياه المتدفقة من النافورات
-في جنة العريف بغرناطة- توجه بمهارة فائقة حول حافة حوض المياه، فينتج الماء المتدفق
تموجات نصف دائرية عندما يتساقط على الحوض المائي، وهذا الأسلوب هو إضافة إسلامية
لم تكن موجودة من قبل[4]. ولقد كانت الأحواض المائية تحتوي أحيانًا على أسماك أو أنواع من الطيور
كالبط، فكانت النافورات على جوانب هذه الأحواض تمنع وجود الحشرات على سطح الماء، كما
استخدمت النافورات أيضًا لإطلاق الرذاذ المائي؛ لتلطيف وترطيب الأجواء بأقل كمية
ممكنة من الماء[5].
وحماية لهذه المياه الهائلة والمتدفقة بغزارة؛ فقد بنى أمراء بني أمية في
الأندلس السدود والخزانات والأبراج لحفظ مياه الأمطار، والزائد عن الحاجة ليعم
النفع بها أوقات الانحسار والضيق مثل برج الأسد الذي انهدم جزء منه جراء الأمطار
والسيول الغزيرة في عام 334هـ، وأعيد بناؤه مرة أخرى[6].
ومن أعظم وسائل الحماية التي قامت بها الحضارة الأندلسية ما أحدثه الخليفة
الأموي عبد الرحمن الناصر؛ فقد أنشأ ما يُسمى بمحكمة المياه عام 318هـ، وأحدث
وظيفة وكالة الساقية، وهى عبارة عن ممثل يقوم بتمثيل الأراضي التي تسقى من ساقية
معينة كقاض في محكمة المياه، والغريب أن هذه المحكمة تعمل إلى اليوم بنفس نظامها
القديم[7]،
وتتكون هذه المحكمة من ثمانية وكلاء لثماني سواقي[8].
وتسقي هذه السواقي مساحة مقدارها 9227 هكتاراً، وتجر مياهها من نهر توريا
عبر سدود Azad، ووكلاء السواقي ينتخبون من قبل ملاك الأراضي لمدة
سنتين أو ثلاث سنوات، هؤلاء الوكلاء يحق لهم تقاضي رواتب لعدة أسباب تتجلى في
حفزهم إلى الاهتمام بالعمل، وتعويضهم عن كل يوم عمل يشتغلونه في خدمة الجماعة، ورسوم
حقوق الري، فضلاً عن نسبة من الغرامات التي تقررها المحكمة، إضافة إلى نفقات
تنقلاتهم. وتنص لوائح المحكمة أنه على الوكيل (القاضي) التوجه إلى المحكمة كل يوم
خميس من الساعة العاشرة إلى الساعة الحادية عشرة صباحاً، لكي يستمع مع باقي القضاة
إلى مظالم السقاة ليحل المشاكل المتعلقة بالساقية التي هو وكيل عليها، وتجتمع هذه
المحكمة قبل النظر وبعد النظر في القضايا المعروضة عليها، بصفتها هيئة إدارية،
ويحضر هذا الاجتماع النواطير الموكول إليهم حراسة السواقي، وتنتخب محكمة المياه،
الرئيس ونائب الرئيس بالتصويت، وجرت العادة على انتخابه من بين القضاة[9].
ومع استثمار المياه
وحمايتها على ما رأينا؛ فقد انتشرت الحدائق الغناء في أصقاع الأندلس؛ إذ زُينت
بالأشجار الباسقة، والحيوانات النادرة؛ ففي قرطبة أنشأ عبد الرحمن الداخل (ت
172هـ) الرصافة، والتي تُعَدُّ من كبرى الحدائق في الإسلام، وكان قد أنشأها
على غرار الرصافة التي كانت بالشام، وأسَّسها جدُّه هشام بن عبد الملك، وقد أتى
لها بالنباتات العجيبة من كل بلاد العالم؛ إذ "نقل إليها غرائب الغروس وأكارم
الشجر من كل ناحية، وأودعها ما كان استجلبه يزيد، وسفر رسولاه إلى الشام من النوى المختار
والحبوب الغريبة حتى نمت بيمن الجد وحسن التربية في المدة القريبة أشجارًا معتمة، أثمرت
بغرائب من الفواكه انتشرت عما قليل بأرض الأندلس، فاعترف بفضلها على أنواعها"[10].
وفي غرناطة[11] كان يلتفُّ حول سورها بساتين وحدائق حتى لكأنها سور آخر[12]، هذا في خارج المدينة، أما القصور؛ فتعتبر حدائق قصر الحمراء أفضل مثال
يمكن أن يقدم لحدائق الحضارة الإسلامية، وفي غرناطة نجد (جنـة العريف) التي أقيمت
على سفح ربوة رائعة، وقد صمَّمها المسلمون على هيئة مدرَّجات لا يتعدَّى عرضُ
أوسعها ثلاثة عشر مترًا، ولا يزيد عددها على ستَّة مستويات، ويلعب الماء دورًا
أساسيًّا فيها؛ إذ ينهمر من أعلى الحديقة من عيون تصبُّ في قنوات تمرُّ عَبْرَ
الأشجار، بما يدل دلالةً واضحة على التأثُّر بآية }وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ[13]{[14].
وحتى لما انتهى العصر
الذهبي لقرطبة وبدأ عصر ملوك الطوائف، فإن الحدئق قد كثرت تبعا لكثرة هؤلاء
الملوك، تصف إكسبيراثيون سانشيز[15] المشهد عن الحدائق في الأندلس في تلك الحقبة فتقول: "عقب تفسخ
الخلافة ونشوء ممالك الطوائف لم يتأخر الحكام الجدد في تقليد عادات الخلفاء
المخلوعين، فكثرت تلك الحدائق "التجريبية" في كل قصر من قصور الحكم
الجديدة... وكان لكل واحد من تلك البساتين عالِم في الفلاحة يشرف عليها"[16].
وفي الأندلس كانت
الحدائق بعدد البيوت، إذ كان في كل بيت حتى الصغير منها حدائق، ويعترف جيمس دكي[17] حين حديثه عن الدُّور الصغيرة في غرناطة بأنه "مع أن أغلب تلك الدور
صغير إلا أن فيها جميعًا مياهًا جارية وزهورًا وورودًا عبقة وشجيراتٍ ووسائلَ راحة
كاملة، تبرهن على أن هذه الأرض عندما كانت في يد الموريين (المسلمين) كانت أكثر
جمالاً مما هي عليه اليوم"[18].
وقد كان ملوك الأندلس وأمرائها يهتمون باستثمار ما لديهم
من موارد في عمارة الأرض وبما يصلح من شأن الرعية؛ فقد كان الأمير الأموي الناصر
لدين الله عبد الرحمن بن محمد (ت 350هـ) مهتمًا بعمارة الأرض وإقامة معالمها
وانبساط مياهها واستجلابها من أبعد بقاعها، وقد بنى مدينة الزهراء؛ فاستفرغ وسعه
في تنجيدها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها[19].
وقد اهتمت الحضارة الإسلامية في الأندلس
اهتماماً واسعًا بالعلوم النباتية والغذائية والزراعية وألفت العديد من المؤلفات،
وكُتبت الكثير من المخطوطات التي تتعلق بالزراعة والغذاء وصناعة الطعام وفوائده
الصحية، وقد حقق عدد من هذه الكتب والمخطوطات إلا أن الكثير منها لم يحقق ولم ينشر
حتى الآن بدراسة علمية منهجية.
ومن أهم هذه المؤلفات نذكر: كتاب الفلاحة لابن
بصال الطليطلي (القرن الخامس الهجري)، وكتاب المقنع في الفلاحة لابن الحجاج
الإشبيلي (القرن الخامس الهجري)، وكتاب زهرة البستان ونزهة الأذهان لمحمد بن مالك
الغرناطي (القرن الخامس الهجري)، وكتاب الفلاحة الأندلسية لابن العوام الإشبيلي
(القرن السادس الهجري)...
ولذلك كان للتطور الحضاري في الأندلس الأثر
البارز في نمو الصناعات الغذائية وتنوعها فضلاً عن استخداماتها المختلفة، الأمر
الذي يعني أن الحضارة الإسلامية هناك كانت تملك الخبرة التجريبية الواسعة في هذا
المجال؛ وقد تناول علماء الزراعة في الأندلس الصناعات الغذائية وطرق عملها وأساليب
اتخاذها والأدوات والآلات التي تستعمل في هذه الصناعات.
فمن أبرز الزراعات التي طورها المسلمون في
الأندلس إدخالهم لزراعة الزيتون مع بداية الفتوحات الإسلامية؛ وقد وانتشرت أشجار
الزيتون بكثرة على مساحات واسعة[20]،
ومن العجيب أن أسبانيا في يومنا هذا
تتنافس على صدارة إنتاج الزيتون واستخراج زيته في العالم!!
ومهما يكن؛ فإن الحضارة الإسلامية في الأندلس
قد بلغت من الرقي والتقدم ما جعل ملوك وأمراء وزعماء أوربا يأتون إليها زرافات
ووحدانًا لتلقي علومها، ومشاهدة استثمار أهليها لبيئتهم؛ ولذلك فإن من الأسباب
الرئيسة التي جعلت الأندلسيين في مصاف الأمم المتقدمة، ما قاموا به من استثمار
لموارد البيئة وحماية لها كما رأينا منذ قليل؛ ونحن في هذا المقام الضيق لا نستطيع
أن نحصر كل ما قام به الأندلسيون في هذا الجانب إذ إن ذلك مما لا يُستطاع فعله
هنا!
[4] سلمى الخضراء الجيوسي: الحضارة
العربية الإسلامية في الأندلس، من مبحث: جيمس دكي بعنوان "الحديقة الأندلسية:
دراسة في مدلولاتها الرمزية" 2/1433.
[6] ابن عذارى: البيان المغرب في
أخبار الأندلس والمغرب ص235.
[7] سيمون الحايك: محكـمة المـياه فـي بلنـسية، ص 214
ــ ساقية قوارت Cuart.
ــ ساقية مصلاتة Mislata.
ــ ساقية ترمس Tormas.
ــ ساقية مستليا Mestalla.
ــ ساقية فبارة Fabara.
ــ ساقية رأس كانيا Ras
cana.
ــ ساقية روبية
Robe.
ــ ساقية بيناشير و فيتمار Benacher
Faitamar.
ولمحكمة المياه مأمور قضائي اسمه الغواسيل Alguacil، وهي كلمة عربية مشتقة من الوكيل، وتكمن وظيفته
في استدعاء المدعى عليه للمرة الأولى
والثانية شفهياً، فإذا لم يحضر، يستدعى في المرة الثالثة بواسطة مذكرة إحضار، وإذا
لم يحضر يحاكم غيابياً. ومن الوظائف الأخرى المرتبطة بالمحكمة وظيفة الجابي الذي
يتكلف بتحصيل الغرامات. كما أن للمحكمة أمين سر، وهو يدون في استمارة بعد انتهاء
المحاكمة، ما صدر عن الجلسة من أحكام.
[9] تتميز محكمة المياه بما يلي :
ــ
أنها مشكلة من قضاة ليسوا بمحامين.
ــ
انتخابهم يتم لوقت معين.
ــ
أحدهم يدرس الموضوع ويعرضه ويملي التدابير.
ــ
النظر في القضية يجري أمام الجميع.
ــ
لا يشترك في التصويت ولا في اتخاذ القرار القاضي الوكيل المنتسب إلى الساقية صاحبة
العلاقة في القضية.
ــ
يقع تنفيذ الحكم الصادر عن هذه المحكمة على عاتق القاضي الوكيل التابع للساقية
صاحبة العلاقة.
[13] (الواقعة: 31).
[15] إكسبيراثيون سانشيز: أستاذة
التاريخ الإسلامي في جامعة غرناطة، وباحثة في قسم اللغة العربية في المجلس الأعلى
للبحوث العلمية في مدريد.
[16] سلمى الخضراء الجيوسي: الحضارة العربية
والإسلامية في الأندلس، مبحث إكسبيراثيون
جارثيا سانشيز: الزراعة في إسبانيا المسلمة 2/1370.
[17] جيمس ديكي: أكاديمي متخصص في تاريخ إسبانيا
الإسلامية والشريعة الإسلامية بجامعات مانشستر ولانكستر وهارفارد.
[18] سلمى الخضراء الجيوسي: الحضارة العربية
الإسلامية في الأندلس، مبحث يعقوب دكي بعنوان "غرناطة.. مثال من المدينة
العربية في الأندلس" 1/176.
[20] تحدث الإمام ابن حزم عن انتشار
الزيتون الإشبيلي بصفة خاصة والأندلسي بصفة عامة، وكان مما قاله: "أي شرف قد
حاز ما شاء من الشرف إذ عم أقطار الأرض خيره وسفر ما يعصر من زيتونه من الزيت حتى
بلغ الإسكندرية وتزيد قراه على غيرها من القرى بانتخاب مبانيها..". ابن حزم:
فضائل الأندلس وأهلها ص51.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق