الاثنين، 6 فبراير 2012

التكافل والإغاثة في الخلافة الأموية

يقوم التكافل الاجتماعي في الإسلام على بناء فكري متكامل له أساسه من العقيدة ومن المنظومة الأخلاقية الإسلامية، فلم يكن تقرير هذا الحق للإنسان وليد تجارب بشرية فرضته فرضا، كما هو الشأن في نظم الضمان الاجتماعي التي تسود العالم الحديث؛ فالتكافل في الإسلام يمثل فكرة متقدمة تتجاوز مجرد التعاون بين الناس أو تقديم أوجه المساعدة وقت الضعف والحاجة.
ومبناه ليس الحاجة الاجتماعية التي تفرض نفسها في وقت معين أو مكان بعينه وإنما يستمد التكافل الاجتماعي في الإسلام مبناه من مبدأ مقرر في الشريعة، وهو مبدأ الولاية المتبادلة بين المؤمنين في المجتمع، يقول الله تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[1]}
فالإنسان في التصور الإسلامي لا يعيش مستقلا بنفسه منعزلا عن غيره، وإنما يتبادل مع أفراد المجتمع الآخرين الولاية، بما تعنيه من الإشراف والتساند والتكافل في أمور الحياة، وفي شؤون المجتمع[2].
وفي الحضارة الإسلامية اهتم خلفاء المسلمين بالتكافل الاجتماعي لبناء مجتمع يتعاون فيه الجميع ويُغاث فيه المكروب والملهوف والمحتاج، مسلمًا كان أم غير مسلم، عملاً بسنة رسول الله r، وسيرًا على منهج الإسلام في التكافل والإغاثة؛ حتى رأينا الأوقاف الإسلامية التي تُعد بحق ابتكار إسلامي أصيل عرف أهميته المجتمع الغربي في العصور المتأخرة.
وهذه سلسلة من المقالات نتتبع فيها ضروب التكافل في حضارة الإسلام ودوله، نبدأ فيها بالدولة الأموية (41 – 132هـ) لنتعرف عن قرب كيف تعاملت الدولة مع  الأفراد في هذا الشأن منذ فجر التاريخ الإسلامي؛ وقد حرصتُ ألا أتدخل كثيرًا في النصوص المختارة؛ فهي وحدها دليل على جمال الحضارة الإسلامية مقارنة بحضارات العالم القديم.
***
لقد تعددت صور التكافل والإغاثة في الخلافة الأموية، تبعًا لكل عهد وسياسة كل أمير، ولكنها اجتمعت - مع ما بينها من تباين - على قدر كبير من إرساء مبدأ التكافل والاهتمام بالمحتاجين، وإغاثة كل من احتاج الغوث.
ولقد حرص معاوية بن أبي سفيان t على تهدئة أوضاع الخلافة الأموية والاستقرار منذ اليوم الأول من اتفاق الأمة عليه؛ وكانت وجهته في الإصلاح الاجتماعي على رأس الأمور التي أولاها عناية خاصة؛ فقد كانت النفقات تُعطى للفقراء في صورة عينية، حيث ورد أن الفقراء في إقليمي الحجاز والعراق خلال الفترة (45 ـ 53هـ)كانوا يحملون بطاقات محدد لهم فيها الكمية المخصصة لكل فرد منهم من المعونة العينية[3].
وكان بالجزيرة مكان الروضة في مصر في عهد معاوية - خمسمائة عامل مستعد لأي حريق يكون في البلاد أو هدم للإعانة في الكوارث وتقديم الخدمات الاجتماعية لأهل البلد[4].
 ومن التكافل الاجتماعي في عهد معاوية أيضًا رعايته لأبناء الشهداء في إدارة شئونهم ورعاية أحوالهم والفرض لهم[5]، فقد كان يقول لجلسائه: يا هؤلاء، إنما سميتم أشرافًا لأنكم شرفتم على من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا إلينا حوائج من لا يصل إلينا. فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول: أفرضوا لولده[6].
وعندما دخل عبد الله بن صفوان بن أمية على معاوية t وطلب منه أن يفرض للمنقطعين من ديوان العطاء، وذكَّره بأن لا يغفل عن قواعد قريش والبرِّ إليهم، وأن يقدم لهم الخدمات الاقتصادية والاجتماعية التي تكفل لهم الحياة الرغدة[7]، كانت الاستجابة العاجلة منه t.
وأما في المجاعة فكانت الدولة تخرج من بيت المال وتطعم الناس، وقد أصابت المجاعة في خلافة معاوية t مدينة رسول الله r فأطعمهم الوالي حتى أنفق ما في بيت المال وأدان.
ولأهل البادية على بيت المال حق المغوثة والمواساة في المجاعة أيضًا، فقد أصابت المجاعة بادية البصرة، وتحمَّل أهلها إلى البصرة؛ فقال يزيد بن أبيه لأهل البصرة: إن عشائركم قد وردت علينا، فاختاروا أن تأخذوا أنصاف أَعطياتكم وأرزاقكم؛ فنقويهم بها مع ما لهم عندنا، أو تكفينا كل عشيرة من فيها. فمنهم من ضم عشيرته، ومنهم من طابت نفسه بنصف عطائه ورزقه وأرزاق عياله، وكان لكل عيال جريبات ومائة درهم، ومعونة الفطر خمسون درهمًا، ومعونة الأضحى خمسون درهمًا، وكان زياد يعهدهم كل يوم، ويشرف على رعايتهم بنفسه[8].
وسار عبد الملك بن مروان على ذات السنة التي تركتها الأسرة السفيانية من قبله وحرص ولاته على إعانة الرعية ودعمهم العيني والمالي والتمويني فقد كان والي مصر من قِبَل عبد الملك بن مروان أخيه عبد العزيز بن مروان مهتمًا بحفر الخلجان بها لإعانة الناس على الشرب والسقيا والزراعة، كما كانت له ألف جفنة كل يوم تنصب حول داره، ومائة جفنة يُطاف بها على القبائل، تُحمل على عجل من أجل الإطعام[9].
وكان الوليد بن عبد الملك أول من أسَّسَ مستشفًى خاصًّا بالمجذومين (بيمارستان)[10] في دمشق وذلك سنة 88 هـ، وجعل فيه أطباء مهرة، وأجرى عليهم الرواتب، وأَمَرَ بعزل المرضى عن الأصحاء كي لا تنتقل العدوى، وهذا ما يعرف في التاريخ بدور المجذومين[11].
 وتُعد "مجذمة" الوليد بن عبد الملك هي الأولى على مستوى العالم، ثم تعددت الملاجئ/المعازل بعد ذلك في مختلف البلاد الإسلامية لبذل العناية الإنسانية لهؤلاء المرضى؛ وتعدُّ المجاذم الإسلامية أول أماكن مخصصة عولج فيها المصابون بالجذام معالجة فنية متخصصة[12].
وقد أعطى الوليد المجذومين حتى أغناهم عن السؤال، وجعل لكل مُقْعَدٍ خادمًا، ولكل ضرير قائدًا، وأجرى النفقة عليهم، واهتمَّ باليتامى ورتب لهم المؤدبين والمعلمين، ورزق الفقراء والضعفاء وحرم عليهم سؤال الناس، وبالغ في الإحسان إلى الزَّمْنَى؛ وأفردت الدولة ديوانًا خاصًّا بالزَّمْنى أطلق عليه اسم "ديوان الزَّمْنَى"[13].
كما اهتم الوليد بن عبد الملك أيضًا بتخصيص الأرزاق والرواتب للفقهاء والضعفاء والفقراء، وحرَّم عليهم سؤال الناس، وفرض لهم ما يكفيهم كما فرض للعميان والمجذومين[14]، فقد أعطى المجذومين وقال: لا تسألوا الناس[15].
ويُعد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - ~ - أحد أبرز رموز البر والخير والإغاثة في الدولة الأموية بأكملها، وهو نموذج ينبغي الاقتداء به، والسير على منواله، فقد كانت السياسة الحكيمة التي اتبعها - ~ - في الأمور المالية خلال الفترة الوجيزة التي تولى فيها خلافة المسلمين كفيلة بتوفير الرخاء الاجتماعي والاكتفاء والغنى، بل والثراء للمجتمع الإسلامي في تلك الحقبة من تاريخ المسلمين.
وقد تنوعت وسائله ~ في تحقيق التكافل الاجتماعي بين الرعية ما بين سنّ القوانين ومتابعة الولاة والإشراف بنفسه على أمور الأموال وما يتعلق بها نظرًا لحساسية الأمر وأهميته في حياة الأمة.
لقد كتب ~ إلى عماله يقول: اقضوا عن الغارمين، فكُتب إليه: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم، وله الفرس، وله الأثاث في بيته. فكتب عمر: لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، ومع ذلك فهو غارم، فاقضوا عنه ما عليه من الدين[16]. ففي هذا الخبر يأمر عمر بقضاء الديون عن الغارمين وإن كانوا يملكون المسكن والأثاث والخادم والفرس، وهو مظهر عظيم من مظاهر الرحمة والمواساة، والاهتمام بشئون الرعية، وهكذا يتصرف الأئمة العادلون بأموال الأمة، حيث يغنون بها فقيرها، ويجبرون بها كسيرها، ويفكون بها أسيرها، ويقضون بها عن معسرها، ويسدون بها خَلَّة مُعوزِها[17].
وأما عن افتكاك الأسرى فقد أرسل عمر بن عبد العزيز إلى صاحب الروم رسولاً، فأتاه وخرج من عنده يبحث، "فمرّ بموضع فسمع فيه رجلاً يقرأ القرآن ويطحن، فأتاه فسلم عليه فلم يرد u - مرتين أو ثلاثًا - ثم سلم عليه فقال له: وأنَّى بالسلام في هذا البلد! فأعلمه أنه رسول عمر إلى صاحب الروم، فقال له: ما شأنك؟ فقال: أسرت في موضع كذا وكذا، فأُتي بي إلى صاحب الروم، فعرض عليَّ النصرانية فأبيت، وقال لي: إن لم تفعل سملت[18] عينيك، فاخترت ديني على بصري، فسمل عيني وصيرني إلى هذا الموضع، يرسل إليَّ كل يوم بحنطة أطحنها وبخبزة آكلها. فسار الرسول إلى عمر بن عبد العزيز فأخبره خبر الرجل، قال: فما فرغت من الخبر حتى رأيت دموع عمر قد بلّت ما بين يديه، ثم أمر فكتب إلى صاحب الروم: أما بعد، فقد بلغني خبر فلان ابن فلان فوصف له صفته، وأنا أقسم بالله لئن لم ترسله إليَّ لأبعثنَّ إليك من الجنود جنودًا، يكون أولها عندك وآخرها عندي. ولما رجع إليه الرسول قال: ما أسرع ما رجعت! فدفع إليه كتاب عمر بن عبد العزيز، فلما قرأه قال: ما كنا لنحمل الرجل الصالح على هذا، بل نبعث إليه به. قال: فأقمت أنتظر متى يخرج به، فأتيته ذات يومٍ فإذا هو قاعد قد نزل عن سريره أعرف في وجهه الكآبة، فقال: تدري لم فعلت هذا؟ فقلت: لا. وقد أنكرت ما رأيت، فقال: إنه قد أتاني من بعض أطرافي أن الرجل الصالح قد مات، ولذلك فعلت ما فعلت. ثم قال: إن الرجل الصالح إذا كان بين القوم السوء لم يترك بينهم إلا قليلاً حتى يخرج من بين أظهرهم. فقلت له: أتأذن لي أن أنصرف؟ وأيست من بعثه الرجل معي، فقال: ما كنا لنجيبه إلى ما أمر في حياته ثم نرجع فيه بعد مماته، فأرسل معه الرجل"[19].
واهتمّ رحمه الله بأداء مهور الزواج من بيت المال لمن لم يستطع توفير ذلك، فقد قال أحد وجوه مدينة الكوفة زمن عمر بن عبد العزيز: قُرِئَ كتاب عمر بن عبد العزيز ~ في مسجد الكوفة وأنا أسمع: من كانت عليه أمانة لا يقدر على أدائها فأعطوه من مال الله، ومن تزوج امرأة لا يقدر أن يسوق إليها صداقها فأعطوه من مال الله[20]. وهذا قرار مهم في إصلاح المجتمع، لأن صلاحه يتوقف على تحصين أبنائه بالزواج وظفرهم بالسعادة الزوجية، وقد يكون المهر عائقًا لبعض الفقراء دون الزواج، خصوصًا في حال غلاء المهور، فإذا كانت الدولة توفر ذلك لمن لا يستطيع ذلك فإنها تسهم في تكوين المجتمع الصالح، وحفظه من أسباب الفساد والاضطراب[21].
ولما قدم على عمر بن عبد العزيز بعض أهل المدينة المنورة جعل يسألهم عن أهل المدينة، يقول: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ فيقولون: قد قاموا منه يا أمير المؤمنين. فيقول: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ فيقولون: قد قاموا منه وأغناهم الله. فيقول: وكان من أولئك المساكين من يبيع الخبط[22] للمسافرين، فالتمس ذلك منهم بعد. فقالوا: قد أغنانا الله عن بيعه بما يعطينا عمر بن عبد العزيز[23].
وهذا من نتائج المنهج العادل الذي سلكه ~ في توزيع أموال المسلمين، حيث حُرِمَت القلة المتمكّنة من الإسراف، وأصبح ما يصرف لفرد من هذه الفئة يصرف لعشرات المسلمين، فوصل المال العام إلى فئات لم يكن يصل إليها قبل، فاستغنوا به عن بعض الأعمال الشاقة التي كانت تُدِرُّ عليهم مبالغ زهيدة[24].
وفي العهد المتأخر للدولة الأموية مثَّلَت نفقات التكافل الاجتماعي بندًا محددًا من بنود النفقات العامة للدولة، ومثال ذلك ما رواه الماوردي أنه كان يوجد ضمن بنود النفقات العامة السنوية في إقليم العراق خلال الفترة (120 ـ 126هـ) مبلغ عشرة آلاف درهم، مخصصًا لبيوت رعاية الأحداث، والعواتق[25] [26].
وبهذه الأمثلة السريعة التي مرّت بنا نستطيع أن نلمح أبرز طرائق التكافل ونماذجه في العصر الأموي، وهي أمثلة تُجلي جانبًا لعله يغفله كثير من القراء أو ممن نالوا في الدولة الأموية بقصد أو دونه؛ وهي – أي هذه الدولة – وإن كانت تتحمل بعض الأوزار السياسية فلها أياد بيضاء في الفتوحات الإسلامية؛ فضلاً عن هذا الجانب الإصلاحي التكافلي الذي نلمس من خلاله الطبيعة الحقيقية للحياة الاجتماعية في تلك القرون الهجرية الأولى.


[1] (التوبة: 71).
[2] بدر عبد الحميد هميسة: الإسلام والتكافل الاجتماعي، مقال بموقع صيد الفوائد.
[3] نجدة خماش: الإدارة في العصر الأموي ص335.
[4] السيوطي: حسن المحاضرة 2/378.
[5] المسعودي: مروج الذهب 3/39.
[6] السابق 3/74.
[7] مصعب الزبيري: نسب قريش ص389.
[8] محمد ضيف بطانية: دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين ص350 وما بعدها.
[9] الكندي: الولاة ص313.
[10] أصل الكلمة بيمارستان، وهي لفظة فارسية مركبة من كلمتين "بيمار" ومعناها مريض، و"ستان" ومعناها مكان، ومعنى اللفظة الإجمالي "مكان المرضى".
[11] عبد الله السعيد: المستشفيات الإسلامية ص80.
[12] السابق: الصفحة نفسها.
[13] محمد ضيف بطانية: دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين ص350 وما بعدها.
[14] عبد الشافي عبد اللطيف: العالم الإسلامي في العصر الأموي ص158.
[15] ابن كثير: البداية والنهاية 12/609.
[16] ابن عبد الحكم: سيرة عمر ص163، 164.
[17] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي 15/77.
[18] السَّمْل: فَقْءُ العين أو فتقها.
[19] ابن عبد الحكم: سيرة عمر بن عبد العزيز ص168.
[20] ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/374.
[21] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي 15/139.
[22] الخبط: نوع من ورق الشجر تأكله الإبل.
[23] عمر بن محمد الخضر الملاء: الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز 1/151.
[24] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي 15/138.
[25] العواتق: جمع عاتق، وقيل: هي البكر التي لم تَبِنْ عن أهلها. وقيل: هي التي بين التي أدركت وبين التي عَنست.
[26] الماوردي: الأحكام السلطانية ص175، 176.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق