الثلاثاء، 7 فبراير 2012

سقوط الأسوة والرمز!


أكد القرآن الكريم على أن أعظم أسوة وقدوة لنا هو نبيّنا صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، وحينما كنا في دار العلوم في محاضرة مع أستاذ لغوي رائع وهو شيخنا الدكتور إبراهيم ضوّة حفظه الله سألنا عن جمع كلمة "أسوة" فظللنا نفكر فيها مليًا حتى توصلنا لها بصعوبة بالغة، ثم قال: لعل جمع هذه الكلمة غير مطروق سماعه لأن الأسوة بطبعه لا يكون إلا فردًا واحدًا في مجتمع مليء بالملايين، وهو تحليل لا زلت أتذكره وأراه عبقريًا بكل المقاييس لأنه يربط بصورة فذة بين ألفاظ اللغة العربية ومدلولاتها في الواقع بدقة بالغة!
ولا زلت كذلك أتذكر قول مسئولي في جماعة الإخوان المسلمين – حينما كنت فيها – وتكراره في جلسات متعددة قول رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما: "إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة" في تشبيه بليغ يصف حقيقة الناس كل الناس في هذه الدنيا!
إن أشد ما يصيب المتابع لأحداث هذه الأيام وقبل الثورة هو إنزال هذه المعاني القاطعة بتفرد الأسوة، وندرة وجوده؛ والتأكد من ذلك على وجه اليقين في هذا الواقع؛ وإننا إذا قلبنا لنسمع أشياخ الفضائيات أو القيادات الحزبية والدعوية لا نراهم في مجملهم – إلا من عصم الله - إلا ممن يرون الواقع بصورة مرعبة لا يترتب عليها إلا حكمًا "شرعيًا" غير صحيح أو تطبيقًا شائهًا لا يحقق ما نرجوه، ولا يوصلنا لغايتنا، ولست في هذه الخاطرة السريعة بصدد الرد على سقطات هؤلاء وأولئك؛ فقد لا أكون خيرًا منهم وهم عند الله أجل وأعلى.
لكن هذه الإشكالية قديمة قدم هذه الحضارة، وقد رآها بعض عظماء العلماء في التاريخ الإسلامي سبب شقائنا وتخلفنا؛ فمثلا نرى الإمام ابن رشد الحفيد في كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" ينعى مقلدي عصره من الفقهاء الذين يُضيقون واسعًا، ولا يميلون عن قول الأقدمين، أو يُسقطون الأدلة الشرعية في غير موضعها لأنهم لا يفهمون الواقع ومستجداته؛ أو لأنهم يرونه ولقلة بضاعتهم في العلم لا يملكون الأدوات الاجتهادية والعلمية للوصول إلى الحكم الشرعي الذي يتواءم مع نوازل الواقع ومستجداته ويصلون لحله، وهذا ما نراه في هذه الثورة التي كشفت لنا عن معدن وعلم عشرات من الدعاة والقيادات والرموز المحسوبة على التيار الإسلامي.
 إننا نرى ابن رشد الحفيد (ت 595هـ) رحمه الله قائلا عن سبب تأليفه لكتابه الآنف الذكر، وتشبيهه لفقهاء عصره بصانع الأحذية البليد: "إن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد إذا حصل ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة وصناعة أصول الفقه ويكفي من ذلك ما هو مساو لجرم هذا الكتاب أو أقل، وبهذه الرتبة يسمى فقيهًا لا بحفظ مسائل الفقه ولو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان كما نجد متفقهة بكذا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر؛ وهؤلاء عُرض لهم شبيهُ ما يعرض لمن ظن أن الخفّاف (أي صانع الأحذية) هو الذي عنده خِفافٌ كثيرة لا الذي يقدر على عملها، وهو بيِّن أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة؛ وهو الذي يصنع لكل قدم خفا يوافقه فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت".
 وهو تشبيه ظريف إلى أقصى حد؛ أولئك المتفقهة/بعض المتعالمين ممن يرون أن العلم يكمن في حفظ أكبر قدر ممكن من مسائل الفقه و الشريعة!
إنه ليؤسفني أن أرى بعضًا ممن يُطلق عليهم علماء يخرجون بأحكام شرعية منبتة عن الواقع، كتلك التي اهتمت بملابس الفتاة المسحولة ولم تهتم بمن عرّاها، أو تلك التي تتناول قتلى مجزرة بورسعيد هل هم شهداء أم لا ولا تهتم بمن قتلهم ولا تسعى لمعرفة الحقيقة من مظانها أو من يرون أن الرئيس التوافقي هو الأفضل لأن هذا سيطمئن الغرب والأمريكان، ونسوا أنهم هم إسلاميون من المفترض أن يخاف منهم الغربي والأمريكي كما سيخاف من الرئيس الإسلامي إلا أن يكون الرئيس إسلاميًا من نوع غير نوعهم، وغيرها من الآراء التي تصب كلها في غاية واحدة تتمثل في تضييع اللحظة الثورية بحجة سحب الذريعة من الجاني كيلا يرتكب جرمًا أو لنظهر أمام الآخرين بمظهر المثالي، وهي مثالية تضيع اللحظة الفارقة وتهتم بالظاهر والعَرَض على حساب أصل المصيبة وتطهير البلد وإنجاح الثورة والقضاء على المفسدين الحقيقيين فيها؛ وكأن الجسارة أضحت عيبًا ونحن أحوج ما نكون لها في هذا الموضع!!
فالفعل الثوري والثورة بصورة عامة أمر مستجد لابد له من فقهاء وعلماء ورجال سياسة واجتماع وغيرهم قادرون على فهمه واستيعابه وتشريحه وتحديد معالمه ووضع التوصيات والأحكام الشرعية المتعلقة به بما يتفق مع الفطرة النقية التي سبقت عقولاً "حشرت" المعلومات والأحاديث والآراء الشرعية في عقولها وأفئدتها "حشرًا" ولم تفد به شيئًا في وقت كانت الحاجة إليهم ماسة، في وقت رأوا أن هذه الثورة فتنة – إلا من رحم الله منهم – وكالعادة اعترفوا بها متأخرين بعدما سبقهم من يُطلقون عليهم "العامة" إلى تحرير أنفسهم وهؤلاء المكبلين بأفهام مغلوطة من نير الطاغوت مؤكدين بذلك قول النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد صلى الله عليه و سلم على ضلالة ويد الله مع الجماعة" كل الجماعة وليس فئة أو طائفة أو فصيل!
ولذلك فإن آفة هذا الوقت التعصب للفريق/الشيخ/المسئول وتسفيه كل ما عداه من أقوال وآراء ولو كانت لشاب يافع لا يملك من حطام المعرفة إلا الصدق والفطرة النقية، ومن هنا قال المحدّث العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله قولا يستنبط منه ذم التقليد، ويُفهم منه الحاجة الماسة إلى رموز معرفية وإسلامية وسياسية على قدر الفهم العميق واللحظة التاريخية الفاصلة في تاريخ هذه الأمة؛ فقال رحمه الله: "لم يكن الفقهاء والحكام والقضاة في العصور الأولى مقلدين ولا جامدين؛ بل كانوا سادة مجتهدين، ثم فشا التقليد بين أكثر العلماء إلا أفرادا كانوا مصابيح هدى في كل جيل، ومع ذلك فقد كان المقلدون من العلماء يحسنون التطبيق والاستنباط في تقليدهم .... إلى أن جاء عصر ضعف المسلمين؛ بضعف العلماء واستبداد الأمراء الجاهلين، فتتابع الناس على التقليد؛ واشتد تعصبهم لأقوال الفقهاء المتأخرين؛ في فروع ليست منصوصة في الكتاب والسنة .... حتى لقد عرض بعض الأمراء في الجيل الماضي على العلماء أن يضعوا قانونا شرعيا؛ يقتبسونه من المذاهب الأربعة؛ حرصا على ما ألفوا من التقليد ، وهو طلب متواضع ؛ قد يكون علاجا وقتيا، فأبوا واستنكروا؛ فأعرض عنهم .... ثم جاءت النهضة الإسلامية الحاضرة، وقد نفخ في روحها رجال كانوا نبراس عصرهم ، وفي مقدمتهم جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده ، ومحمد رشيد رضا، ووضع أصولها عمليا ... ونبغ في العلماء من يذهب على وجوب الاجتهاد ، وقد يكون اجتهادا مبتسرا ، وقد يكون اجتهادا فيه خطأ كثير، ولكنه خير من الجمود .. فأنا أرفض التقليد كله ولا أدعو إليه، سواء أكان تقليدا للمتقدمين أم للمتأخرين".
أيتها الرموز الإسلامية إنه يتابعكم ويثق فيكم ملايين من البشر فكونوا على قدر المسئولية واصدقوا مع أنفسكم والزموا الصمت في وقت لا ينفع فيه الكلام؛ وتكلموا في وقت لا ينفع فيه الصمت؛ واحرصوا على فهم الواقع بصدق، وأوسعوا الخريطة الإدراكية لكم لتعرفوا أن الواقع أشد تركيبية وعمقًا من مجرد أن هذا معي وهذا ضدي؛ وأن هذا الفعل حلال وذاك حرام، وتأملوا حال الإنسان في القرآن الكريم بين الضحك والبكا، بين نسبية السمع والبصر والفؤاد، بين تفاوت المدارك والفهوم، بين تفاضل البشر في مراتب المعرفة والفضل الإلهي عليهم، بين تغيرهم في السراء والضراء؛ وكل هذا التناقض سينتج واقعًا متناقضًا بلا ريب لا يفهمه إلا من جمع بين رسوخ العلم ونور الهداية، وتأملوا تفاوت حال الأنبياء بين أقوامهم وكيف كانت الغاية واحدة والوسائل متنوعة والوقائع مختلفة! 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق