تعدَّدت الأسباب التي أدّت إلى نجاح دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وانتشارها في أرجاء الجزيرة العربية، بل وامتداد آثارها إلى خارج أقطار
الجزيرة، وهو بهذا النجاح الذي تأخر كثيرًا عن هذه البقاع النائية قد نجح بالفعل
في درء العدوان الفكري والعقدي الذي سيطر على الضمائر والقيم.
والحق أن ذلك يرجع إلى
عدَّة أسباب منها قوَّةُ إيمانه ومن جاء بعده من علماء الدعوة وأئمتها بالمبادئ
التي نادى بها، وبذلهم واجتهادهم لنصرة هذه الدعوة، وكذلك التزامهم بالحكمة
والموعظة الحسنة، وبُعْدُهم عن الغلظة، ومحاربتهم للبدع والمُحدثات بكل سبيل شرعي.
كان الشيخ رحمه الله من
المجدِّدين البارزين في القرن الثاني عشر الهجري، وهذا أمر لا يحتاج إلى عناء لكل
متتبع لسيرته ودربه؛ فقد حباه الله I بخصائص عديدة جعلته يمتلك القلوب قَبْلَ الرجال، والعقول قبل الجوارح، لقد
سار في أصحابه وأنصاره سيرة حسنة، قلَّما نجدها في إنسان – في ذلك العصر- سواء كان
في بلاد نجد أم في سائر بلاد الجزيرة العربية.
إن الدعوة إلى الله
تعالى طريق وعرة في أحيان كثيرة، كيف لا؟! وهي سبيل الأنبياء والمرسلين الذين هم
أكثر الناس بلاءً وعناءً في سبيل دعوتهم إلى الله، وقد واجهت الشيخ رحمه الله مصاعب جمة استطاع - بعون الله وتأييده - أن يتغلَّب عليها، وأن ينتبه إلى
طريقه دائمًا، ورغم هذه المعوقات والابتلاءات فقد كان ذا فنٍّ دعويِّ فريد من
نوعه، استطاع من خلاله أن يؤلِّف القلوب، ويوحِّد الصفوف، ويستميل المخالِف،
وسنُفَصِّل أسباب نجاح دعوته في النقاط التالية:
التوحيد أساس أي دعوة
جَعَل محمد بن عبد
الوهاب أساس دعوته هو التوحيد؛ لأن التوحيد أساس ملَّة الإسلام، فقد قال تعالى: ]وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ
أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[1][، والتوحيد هو الغاية العظمى من خلق الله للخلق؛ ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ[2][؛ لذلك قال: أمَّا ما نحن عليه من
الدين فعلى دين الإسلام، الذي قال الله فيه: ]وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ
فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[3][، وأمَّا ما دعونا الناس
إليه فندعوهم إلى التوحيد، الذي قال الله فيه خطابًا لنبيِّه r: ]قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[4][[5].
السنة لا محيد عنها!
لقد قامت دعوة ابن عبد
الوهاب على أساس تمسُّكها بالسُّنَّة؛ لأن التمسُّك بالسُّنَّة دليل على الاتباع
الصادق لمنهج الله القويم، وهو طريق للفوز العظيم، قال تعالى: ]وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[6][، لقد كان رحمه الله متَّبِعًا لله ولرسوله وللسلف الصالح من هذه الأُمَّة،
وما مِنْ مناسبة إلاَّ والإمام يُذَكِّر أتباعه ومن غَمُضت عليهم أمور دعوته بذلك،
ويؤكِّد على هذا الأمر؛ ففي إحدى رسائله التي أرسلها إلى البكبلي صاحب اليمن يقول
له فيها: "وأمَّا مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة".
ومع اتِّباع الإمام لمذهب الإمام أحمد لكنه لا يُنْكِر على المذاهب الأخرى ما
داموا متَّبِعين للكتاب والسُّنَّة، وهو ما يَذْكُرُه بقوله: "ولا نُنْكِر
على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نصَّ الكتاب والسُّنَّة، وإجماع الأُمَّة،
وقول جمهورها"[7].
العلم الشرعي لا
فكاك منه
لقد اهتمَّت الدعوة
بالعلم الشرعي؛ لأن الإسلام حثَّ على تعلُّمِهِ ورغَّب فيه، كما صحَّ ذلك من حديث
أبي هريرة t أن رسول الله r قال: "مَنْ سَلَكَ
طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ"[8].
ومن المعلوم أن الجهل
سبب من أعظم الأسباب التي تؤدِّي لانتشار البدع والضلالات، وما نراه اليوم من
انحرافات عقدية، وانخداع بمذاهب منحرفة، وطرق مبتدعة، كان السبب الرئيسي فيه هو
الجهل بمقاصد الشريعة، وأُسُسِها الرفيعة[9].
لقد اهتمَّ رحمه الله
بالعلم الشرعي، وجاء في كتابه: (الأصول الثلاثة) بكلام يُدلِّل على عمق فهمه لقضية
العلم، وتوجيه المسلمين نحو الأَوْلَوِيَّة في تعلُّم العلم الشرعي، فقال رحمه الله: اعلم رحمك الله أنَّه يجب علينا تعلُّم أربع مسائل:
المسألة الأُولَى:
العلم؛ وهو معرفة الله، ومعرفة نبيِّه r، ومعرفة دين الإسلام بالأدلَّة.
المسألة الثانية:
العمل به.
المسألة الثالثة:
الدَّعوة إليه.
المسألة الرابعة:
الصَّبر على الأذى فيه؛ والدَّليل قوله تعالى: ]وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ
آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ[10][[11].
الوضوح سمة المجددين
إنَّ المتأمِّل في
حقيقة الدعوة لَيُدْرِك أن الهدف والغاية من هذه الدعوة هو إخراج الناس من عبادة
العباد إلى عبادة ربِّ العباد، وإرساء دعائم التوحيد بين الناس جميعًا، لقول الله
تعالى: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ[12][، وهو ما يُؤَكِّدُه الإمام في إحدى رسائله بقوله: "فاعلم
رحمك الله أن الذي نَدِين به وندعو الناس إليه إفراد الله بالدعوة؛ وهي دين الرسل،
قال الله: ]وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ[13][، فانظر -رحمك الله- ما أحدث الناس من عبادة غير الله فتجده في
الكتب، جعلني الله وإيَّاك ممَّن يدعو إلى الله على بصيرة، كما قال الله لنبيِّه
محمد r: ]قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى
اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا
مِنَ الْمُشْرِكِينَ[14][[15].
الوحدة والاعتصام
لقد حرصت الدعوة على
لزوم الجماعة، وتوثيق الأُلفة، والدعوة إلى ذلك والمناداة به، وتحذيرها من
الفُرْقَة، ونبذها للخلاف، وتحذير الناس من ذلك كله[16]،
قال تعالى: ]وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا[17][.
وعن أهميَّة لزوم
الجماعة أوصى ابن عبد الوهاب رحمه الله جموع الناس بضرورة التوحيد، ونبذ الفُرْقَة
والاختلاف، فقال: "أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفَرُّق فيه،
فبيَّن الله هذا بيانًا شافيًا تفهمه العوامُّ، ونهانا أن نكون كالذين تفرَّقُوا
واختلفوا قبلنا فهلكوا، وذكر أنه أَمَرَ المسلمين بالاجتماع في الدين، ونهاهم عن
التفرُّق فيه، ويَزِيده وضوحًا ما وردت به السُّنَّة من العجب العجاب في ذلك، ثم
صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين، وصار
الاجتماع في الدين لا يقوله إلاَّ زنديق أو مجنون"[18].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لا ريب أن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول الإسلام، وقيمة سامية من قيمه العالية،
ولقد حضَّ الإسلام الجماعة المؤمنة على فعله، ونهاهم عن التخاذل والتدابُر عنه،
وأخبر أنهم متمتِّعُون بالخيريَّة ما داموا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ مصداقًا
لقوله تعالى: ]كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ[19][، وقد اهتمَّ الإمام بهذا الأمر،
فقال: "وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما تُوجبه الشريعة
المحمديَّة الطاهرة"[20].
الاهتمام بفقه المقاصد الشرعية
إن دعوة محمد بن عبد
الوهاب رحمه الله نظرت إلى المصالح والمفاسد نظرة شرعية مبنيَّة على الدليل
واتِّباعه، مقترنة بالتقوى الصادقة، والبصيرة العلميَّة النافذة، والمعرفة بواقع
المسائل معرفة واسعة؛ ولذا علموا يقينًا أن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح
وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها تُرَجِّح خير الخيرين وتدفع شرَّ
الشَّرَّين، وتُحَصِّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين
باحتمال أدناهما، وترتكب أخفَّ الضررين لدفع أعلاهما، فساروا على هذا الفقه الدقيق
العميق في حياتهم العلميَّة والعمليَّة والدعويَّة، فنفع الله بها واهتدى كثيرون
إليها[21].
لقد كان رحمه الله
قدوة طيِّبَة بشهادة مَنْ عاصروه؛ ونتيجة لأخلاقه الطيِّبَة، وحكمته في تعامله مع
الناس جميعًا؛ فقد تقرَّبَتْ منه كل طوائف الجزيرة العربية؛ من الضعيف والقوي،
والحليم والسفيه، والفقير والغني، والرئيس والمرءُوس؛ لذلك يُقَرِّر ابن غنَّام في
كتابه (تاريخ نجد) أن ابن عبد الوهاب بَقِيَ في الدِّرعية سنتين؛ "يُنَاصِح
النَّاس ويهديهم إلى سبيل الحقِّ، وفي خلالهما تسلَّل إليه شيعته الذين في
العُيينة، منهم عبد الله بن محسن، وأخواه زيد وسلطان المعامرة[22]...
وهاجر معهم خلق كثير من رؤساء المعامرة المخالفين لعثمان بن معمر في العُيينة،
ومعهم أناس ممَّنْ حولهم من البلاد، حين علموا أن الشيخ استقرَّ في الدرعية ومُنع
ونُصر، فلمَّا علم عثمان بن معمر بكل ذلك؛ ندم على ما فعل من إخراج الشيخ، وعدم
نصرته[23]،
وما كانت الجموع تأتي إليه من العُيينة وغيرها من البُلدان البعيدة إلاَّ لِمَا
رأَوْهُ من إخلاصه وأخلاقه الحسنة، وقدوته الطيِّبَة، وهو الأمر الذي يؤكِّده
مؤرِّخُ تلك المرحلة (ابن غنام) حيث يقول: "وبَقِيَ في (الدِّرعيَّة) ~ يدعو إلى سبيل ربِّه بالحجَّة الواضحة، وبالموعظة الحسنة، فلم يُبادر
أحدًا بالتكفير، ولم يبدأ أحدًا بالعُدوان، بل توقَّف عن كل ذلك وَرَعًا منه،
وأملاً في أن يهدي الله الضالِّين".
وبعد هذه الرحلة
السريعة والمغايرة إلى حد ما في هذه الدعوة المباركة يمكن أن نستخلص منها أهم
نتيجة في مقاومة العدوان والفكري والعقدي والعسكري بل وكافة أنوع العدوان على
الإسلام في الصراع الأزلي بين الحق والباطل، وأن هذا الصراع بين هذين الميدانين هو
سنة إلهية ليميز الله بها الخبيث من الطيب، والمسلم الحق ليس ذلك الطقوسي المنكفئ
على نفسه في مسجده أو بيته، بل هو ذلك المستخلف الذي حمله الله أمانته ليقوم بها
في العالمين، ولو كان فردًا كابن عبد الوهاب رحمه الله حين بدأ دعوته!
[2] (الذاريات: 56).
[4] (يوسف: 108).
[5] محمد بن عبد الوهاب: الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن مؤلفاته) 6/94،
95.
[7] محمد بن عبد الوهاب: الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن مؤلفاته) 6/107.
[8] البخاري: كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على
تلاوة القرآن وعلى الذكر (2699).
[10] (العصر: 1-3).
[12] (الذاريات: 56).
[13] (البقرة: 83).
[14] (يوسف: 108).
[15] محمد بن عبد الوهاب: الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن مؤلفاته) 6/101.
[17] (آل عمران: 103).
[18] محمد بن عبد الوهاب: مجموعة رسائل في التوحيد
والإيمان (مطبوع ضمن مؤلفاته) 1/394.
[19] (آل عمران: 110).
[20] محمد بن عبد الوهاب: الرسائل الشخصية (مطبوع ضمن
مؤلفاته) 6/11.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق