لطالما كانت اللغة
السياسية الجافة التي تُرطب بين الوقت وأخيه بعِبرات التاريخ وعَبراته متنفسًا لتجلية
الواقع وتفسيره؛ لكن تبقى اللغة الأدبية التي تعبر عن "المأساة" أقرب
للنفوس الشجية من الكلمات المنتفضة من كل شعور، وهذا يا صديقي نص متخيّل من سيرة
شاب، اشتعلت في قلبه مشاعل الكآبة من جديد، بعدما كان الربيع قد حلّ لشهور قليلة
فيه، شاب يرى الفشل اليومي لثورة يناير. لعله يكتب أو يُردد هذه الكلمات في مشهد
الغروب الأخير. وصدق القائل: لا تقاس السعادة إلا باللحظات!
***
تبدأ القصة بشباب وقف خلف
حلم خرج من القلوب التي تبتهل إلى الله بنجاح ذلك اليوم الدامي، يوم كسر الجميع
فيه أصنامهم خلف ظهورهم، وخرجوا جماعات ووحدانا لوضع الضيم تحت الأقدام، علموا أن
الموت قادم لا محالة، والظلم لن تكسره عبارات الشجب والإدانة والاستنكار التي كانت
موجودة بكثرة في أدراج المنبطحين .. الموت، نعم سنموت حتمًا هكذا قال لنفسه موبخًا
.. لقد مت يوم غرقت العبارة، ويوم قصفت الطائرة، ويوم أحرق القطار .. في كل
الأحوال سنموت بالغاز أو بالخنق أو على السرير كالبهائم المستمتعة بوجبة عشائها
المعتاد مع حلقة مبتذلة من حلقات الإعلام الداعر!
كانت المشاعر تلك
مشاعر آلاف غيره ممن استعنجهم الطغاة قرونًا خلف قرون حتى تطاول عليهم الأمد في ظل
ملهاة من العلوم النظرية التي تصف الكآبة الإنسانية المختلطة بالوهم في ظل واقع
مزيف من الحقائق، متفق في مجمله على المسرحية الهزلية التي يمثل فيها "المواطن"
درجة الممثل القدير الواثق الخطا، لكنه في الحقيقة الوحيد الذي يمنعُ من الحصول
على "الأوسكار" برغم اقتداره ونضجه .. لا أدري لمَ .. هل كان ذلك تجل لفلسفة
الحياة المادية التي أدخلتها الدولة الحديثة بمعاونة صبيانها المنتشرين في أزقة
الوطن المشرد، أم حالة من اللاشيء والشعور باللا زمان!
على كل، تناسوا كل
ذلك، وبدأ ذلك الصوت الغائب في أعماق النسيان، في مدارج الضمير يستعيد وتره
المكتوم فالمبحوح فالمحشرج فالخافت فالعالي فالثائر .. "الشعب يريد" ..
نعم لا نصدق هذا، لأول مرة عبر مسيرة العبودية الطويلة المخترقة لحاجز الزمان
ينتفض ذلك "العبد" من سباته مرددًا الحقيقة الإلهية التي أوجدها فيه .. "الإرادة"
.. "الشعب يريد" !
كانت الكلمتان
مجموعتين غريبتا الأطوار، لكأنها جديدة في قاموسنا اليومي رغم مرور عشرات القرون
على وجودها في قاموسنا اللغوي المُهمل .. أريد .. أنا .. ما هذا .. أين ذلك الحائط
الذي كنت أختبئ فيه دومًا، أين تلك الزنزانة التي لا تزال تلازم مشاعري وأعماقي ..
أين ذلك الخوف المكبوت والمسيطر والمتطفل علي دومًا: لا تفعل أيها الغبي كذا،
وافعل أيها الأحمق كذا .. لقد كان قاموس "أمن الدولة" مسيطرًا على نفسي
.. بل يا للعجب لا يزال مسيطرًا على من حولي..
اثنان من الشباب
الثائر استوقفاني في ذلك الغسق البارد في ليلة من ليالي يناير المطيرة .. لم
أعرفهما ولم يعرفاني، يعلقان على صدريهما كلمات تكثف الخوف: هل سيعتقلاننا ثانية؟
سألا بلهفة وألم وانكسار. لا يا صديقيَّ لن يجرؤوا بعد اليوم .. الآن أستعيد
السؤال على نفسي: هل كنت ساذجًا لهذه الدرجة في تلك الحماسة الميدانية الباهرة ..
لا أدري .. لكن إحساسًا دفينًا من الحسرة يزداد يوميًا كما ازداد ذلك الصوت الغارق
في مدارج الضمير.
هللنا سويًا وكبرنا،
نجحت الثورة، أمسى الظلم من الماضي، ديس الطاغوت بأقدام الأبطال .. أبطال هل يمكن
أن أسترجع ذلك الوصف القديم .. نحن ممثلون محترفون نستحق "الأوسكار" يا
صديقي!
بدأت الانتكاسة ، 15
شهرًا من الضياع والتشرذم والتفتت، يمكن لمن يجلس في غرفة مكيفة في مكتبه الرائق
أن يتسلى بهذا المشهد العبثي، بهذه الجملة الاعتراضية في تاريخ مصر.. "الثورة" .. هل لك يا صديقي أن تخبرني
بأي ثورة نجحت في إزالة الطواغيت وخلعهم من هذا البلد منذ مائتي عام خلت .. تمهّل
قليلاً ... تأن في إجابتك .. لا .. ولا واحدة .. إنها الحقيقة المؤكدة في هذا
المشهد العبثي .. كأننا مثل فريق كرة القدم الذي طالما "اختزل" وطنيتنا
ومصريتنا وعزتنا وكرامتنا، نبدأ بحماسة منقطعة النظير لكننا نفشل في نهاية المطاف
في تحقيق الغاية الكبرى وإن أعطونا "كأس أفريقيا" ثلاث مرات متواليات!
ينزل الجميع من على
جبل الثورة في مشهد يسترجع من التاريخ ذلك الجيل الأشم الذي ألهته الغنيمة الباهتة
عن النصر العظيم، لكنه يمتاز عنا بانتصاره في النهاية ... تناحر الجميع على
"العظمة" التي ألقاها لهم الملك في ساعة اللهث الشديد، الآن لا أستغرب
من ذلك المشهد الذي تقرّر فيه تحرير العبيد من ربقة الطغاة، فلا يجدون ملجأ ولا
مغارات ولا كهوف تحميهم من "الحرية" الجديدة .. إذن لا حيلة .. علينا أن
نرجع للفرعون من جديد .. يستقبلنا بأسنان لامعة، وضحكة الانتصار!
انتصر السيد هكذا يقول
التاريخ في استنزافه لنا، لقد رجع الممثلون لأدوارهم القديمة في المسرحية المملة ..
ماذا أفعل .. نحن الآن بين لحظة الصدمة واستقبال السجون في حفاوة الجلادين .. في
القبور المسكونة بحسرة النادمين ..
لقد كانت الزنزانة
التي جمعت لأول مرة في تاريخها سلفي وإخواني تختزل المشهد بعد شهور من صراع الديكة
والتنازل والخذلان بغية إنجاح الثورة في تصورهم، لقد نسي الرجلان ومن خلفهما
فريقيهما أن الحبل كان يُرخى لكل منهما حتى تتحين لحظة الانقضاض والسحق .. وها قد
حانت، وأصبحت هذه الزنزانة الحقيرة شاهدة من جديد على مأساة خَلَف نسوا في لحظة
جمع الغنائم أجدادَهم الأقدمين في أُحد، وأجدادهم الأقربين في سجون الطاغية..
لقد كانت لحظة فارقة
بحق تلك التي أضعناها بشقاقنا وغبائنا وبلاهتنا، كأنني بعد سنين طويلة خلت أردد
كلمات أحمد رائف ذاتها التي وصف بها كارثة 54، ولعل رجلا سبقه وصف بها كارثة 19،
ولعل آخر سبقهم بكى على أطلال العُرابيين وهكذا ما أكثر بكاءي الأطلال في تارثنا..
كان قضاء الله نافذًا، وصرير محركات الطائرة قد انطلق في رحلتي البعيدة والطويلة
والمؤلمة عن مصر التي عاشت في "فيلم الثورة" الهابط!
رائع ...
ردحذفوإني على يقين أن الشرفاء في هذا الوطن أكثر من مفسديه ...
وهم إذا صمتوا اليوم على المفسدين
فلن يسكتوا على ما لديهم من اوراق وأدلة تدين هؤلاء جميعا ..
لكنهم فقط ينتظرون رئيسا شريفا ونظاما وطنيا نظيفا لم تلوثه الخيانة
ولماذا أخانا لا نغير نحن هذا السيناريو الكئيب هل ثوار ليبيا وسوريا أقوى من ثوار مصر ؟
ردحذف