في المقال السابق "عن الإحياء والتجديد في الإسلام (1)" كنا قد
تحدثنا عن معنى التجديد والفرق بينه وبين التطوير كمصطلح يخالف أصول الدين بالكلية
ويتملص منها، كما تحدثنا عن ضرورة التجديد باعتباره سنة ثابتة بل نعمة من النعم
التي أسبغ الله بها على عباده، وفي هذا المقال نستكمل حديثنا عن التجديد من منظور
"مجالات التجديد"، و"من هو المجدد؟"، و"عمل المجدد
ووظيفته".
مجالات التجديد
أما مجالات التجديد
الديني فمتعددة ومتنوعة، وغير متوقّفة على ميدان واحد فقط، فإذا عرفنا أن الإسلام
منهج حياة، يشمل الدين والدولة، والحياة والآخرة، والبشر جميعهم بمختلف مشاربهم
وألوانهم، لتيقنّا أن التجديد يشمل كل ما يُعين المسلم على أداء وظيفته المكلّف
بها، من عبادة الله حق العبادة، وعمارة الأرض وفق ما تقتضيه الشريعة.
وهذا الأمر غير خارج
عن قول رسول الله r :"مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا"؛
فقول رسول الله الآنف يفتح أمام الأمة كلها آفاق التجديد في العلوم النقلية
الشرعية، وكذا العلوم العقلية المحضة التي عن طريقها تتقدم الأمة الإسلامية،
وتعتمد على نفسها، بدلاً من اعتمادها على همّة الغرب والشرق!
كما أن التجديد
الإسلامي لا ينحصر في الأمور العلمية؛ إذ أنه يشمل كافة النواحي البشرية، فهناك
تجديد في النواحي الاقتصادية، وتجديد في الأمور العسكرية، وتجديد في الأمور
السياسية والتنظيمية والإدارية والاجتماعية وغيرها...
لكن أبرز مجالات التجديد تكمن في ما يلي:
1- التجديد في مجال العقيدة: ولا يعني هذا أن يتم إضافة شيء آخر إلى العقيدة الربانية، فحاشا لله، بل
على النقيض من ذلك تمامًا؛ إذ المقصود هو تخليص العقيدة من هذه الإضافات البشرية
التي لحقتها عبر القرون الماضية؛ لتصبح نقية صافية ليس فيها أثر لصنع البشر
وآرائهم وفلسفاتهم، وخاصة تنقية العقيدة الإسلامية من آثار علم الكلام، والعمل على
إحياء الآثار القلبية النابعة من صدق الإيمان، وذلك من خلال صدق اللجوء إلى الله،
وعمق الصلة به، ويقظة الضمير؛ فإحياء الضمير في النفوس لا شك أن له مردوده السلوكي
على الفرد، وهو الأمر الذي تحتاجه الأمة الإسلامية في واقعنا الحالي، فيجب على
المجدد أن يعرض الانحرافات الجوهرية التي تعيش اليوم بين المسلمين مما له تعلّق
بجوانب الاعتقاد، مع بيان خطرها وتأثيرها[1].
2- التجديد في مجال النظر والاستدلال: ويشمل التجديد مجال النظر والاستدلال، وإحياء الحركة العلمية التي تهدف
إلى دراسة القضايا الشرعية كلها دراسة مبنية على الدليل الشرعي الصحيح بعيدًا عن
عصبية المذاهب، فالحق غير محصور في مذهب بعينه؛ ومن ثمّ فإن البحث عن الحق هو ضالة
المسلم المنشودة، ولابد من صياغة المنهج السليم للتفقه من خلال استقراء طريقة
السلف الصالح } ، مع الأخذ في الاعتبار ما توصل إليه عظماء المجتهدين في كل عصر[2].
3- التجديد في السلوك الفردي والاجتماعي: وذلك بالعمل على صياغة حياة المسلمين بتفصيلاتها صياغة إسلامية شرعية،
والاستفادة من المعاني الوجدانية القلبية التي يُفترض أنها بدأت تستيقظ في النفوس،
بربط الأحكام التفصيلية بها، ولابد أن يشمل التجديد محاربة الانحراف السلوكي في
حياة المسلمين، وذلك عن طريق إزالة الجهل عن طريق تعلُّم أحكام الله ورسوله في هذا
الأمر، وتقوية الإيمان والإرادة بمخاطبة القلوب بحيث يستطيع الفرد المسلم أن يتغلب
على شهوته الجامحة. لذلك وجب على المتصدرين للوعظ والدعوة أن يربطوا بين ما ينادون
به من الإيمان بالله واليوم الآخر، والحديث عن الجنة والنار، والقبر ونعيمه أو
عذابه وغير ذلك، بقضايا سلوكية واقعية يجب أن تُعالجَ. كما أن المشتغلين بعلوم
الفقه يجب أن يُعنوا ببيان الحلال والحرام، وضرورة ربط هذه الأحكام بإصولها
الإيمانية التي تدعو إلى العمل بها وامتثالها، وهذا الأمر يمكن أن نستنبطه بسهولة
من طريقة القرآن الكريم والسنة في الفترة المدنية؛ حيث تتابع نزول الأحكام
التفصيلية المنظمة لحياة المسلمين، وأصبح الحديث عن الحكم مرتبطًا بإثارة العقيدة،
وأصبح الكلام في العقيدة مستمرًا في التحريض على امتثال الحكم، ولذلك تُذيّل
الآيات ببيان صفة من صفات الله كالعلم والحكمة والعفو والمغفرة والانتقام وشدة
العقاب، أو تتبع آيات الأحكام بآيات أخر تُرغِّب في عفو الله ورضوانه والجنة،
وتحذِّر من سخطه والنار. فإذا أحسن الداعية هذا الطريق فسيجد فيه خيرًا كثيرًا،
ويلمس آثاره الواضحة[3].
4- مناوئة وبيان زيف المناهج والاتجاهات والمبادئ المخالفة
للإسلام: لأنها سبب رئيسي من أسباب فساد
المجتمعات الإسلامية؛ لذلك قال تعالى: ]
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ
الْمُجْرِمِينَ[4][ فإظهار وتوضيح سُبل المجرمين من المبادئ والمعتقدات والأفكار المخالفة
للإسلام مقصد من مقاصد القرآن الكريم.
مَنِ المجدد؟
وهذا سؤال يطرح نفسه
بقوة بالغة، فمن هو المجدد، هل المجدد ينحصر في فئة دون فئة، على ما رأينا من
انحصار صفة المجددين في طائفة الفقهاء وعلماء الأصول والشريعة طوال تاريخ
المسلمين؟!
لقد وقف الإمام ابن
حجر العسقلاني ~ أمام حديث رسول الله r وقفة متأمل، فجاء تعليقه وشرحه
لهذا الحديث من العمق والأصالة بمكان، لقد قال ~ معلّقًا وموضِّحًا لحديث رسول
الله r: "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ
لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا
دِينَهَا"[5]
: "
أنه لا يلزم أن يكون في رأس كلِّ مائة سنةٍ واحدٌ فقط،
بل يكون الأمر فيه كما ذُكر في الطائفة وهو متجه، فإن اجتماع الصفات المُحتاج إلى
تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص
واحد، إلا أن يُدَّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز؛ فإنه كان القائم بالأمر على رأس
المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدُّمه فيها؛ ومن ثمّ، أطلق أحمد أنهم
كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده، فالشافعي وإن كان متصفًا بالصّفات
الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان
متصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدد أم لا"[6].
إذن، لا يلزم أن يكون
المجدد فردًا، فقد يكونوا فئة، وقد يأتي أكثر من مجدد في زمن واحد، وقد يكونون على
اختلاف فيما بينهم في مجال التجديد، فحصرُ المجدد في فرد واحد أو في بلد دون غيره،
أو في مجال بعينه؛ فذلك مما لا ريبة فيه غبن ظاهر، وفهم غير دقيق لحديث رسول الله r السابق.
ومهما يكن من أمر
المجدد أهو فرد أم مجموعة أفراد؟، إلا أن العلماء وضعوا للمجدد مجموعة من الشروط،
والتي إذا توفرت في شخص من الأشخاص سُمي مُجددًا لدين الله تعالى؛ فالمجدد يمكن أن
يُوصف بأنه يعيش في قمة عالية، وأمته تعيش في سفح هابط، وهو يعمل لانتشال هذه
الأمة من سفحها لتحاول الصعود إلى القمة؛ فهو مثل أعلى في صحة العلم ووفرته واتساعه،
وفي صدق العمل وإخلاصه، فهو سالمٌ من علل الأمة وأمراضها، ناجٍ من الآفات
والانحرافات التي تنخر فيها، متحلٍّ بالصفات التي يدعو إليها، ومن الصفات الرئيسة
في المجدد:
1- أن يكون من الفرقة الناجية، وهم أهل السنة والجماعة: وهي
الفرقة التي تسير على نهج رسول الله r في الاعتقاد والسلوك والعبادات والمعاملات.
2- أن يكون من حملة العلم الشرعي، وقد اشترط بعضهم
الاجتهاد، لكن يجب أن يكون له باع في العلوم؛ لأن من مهمات التجديد إحياء العلم
الشرعي، ونشر العمل بالسنة، وتعليم الناس دينهم.
3- أن يكون صاحب إرادة فاعلة، وثابتة في التغيير، فهو ينطلق
بالأمة من واقعها المرفوض المنحرف؛ ليصعد بها نحو طريق الصلاح والنجاح[7].
وقد تحدث كثير من
العلماء في هذا الأمر- صفات المجدد وسماته - وكان من أبرز هؤلاء فضيلة العلامة أبي
الحسن الندوي، في كتابه القيّم "موجزُ تاريخ تجديد الدين وإحيائه"؛ فقال
:"إن المجدد لا يكون نبيًا، ما في ذلك شك، ولكنه يكون في طبعه ومزاجه أقرب
إلى مزاج النبوة؛ ومن الخصائص التي لابد أن يتصف بها المجدد هي: الذهن الصافي،
والبصر النفاذ، والفكر المستقيم بلا عوج، والقدرة النادرة على تبين سبل القصد بين
الإفراط والتفريط، ومراعاة الاعتدال بينهما، والقوة على التفكير المجرد من تأثير
الأوضاع الراهنة، والعصبات القديمة الراسخة على طول القرون، والشجاعة والجرأة على
مزاحمة سير الزمان المنحرف، والأهلية الموهوبة لقيادة والزعامة والكفاءة الفذّة
للاجتهاد ولأعمال البناء والإنشاء، ثم كونه – مع ذلك كله – مطمئنًا قلبه بتعاليم
الإسلام، وكونه مسلمًا حقًا في وجهة نظره وفهمه وشعوره، يميّز بين الإسلام
والجاهلية حتى في جزئيات الأمور، ويُبين الحق ويفصله عن ركام المعضلات التي أتت
عليها القرون..."[8].
عمل المجدد
إن للمجدد أعمالاً يجب أن يتبناها، وأن
يسير على خطاها، يمكن أن نجملها فيما يلي:
1- تشخيص أمراض البيئة التي يعيش فيها المجدد تشخيصًا
صحيحًا، وذلك بالتأمل في أوضاع زمانه بتبيُّن مكامن الجهل في المجتمع، ومبلغ نفوذه
منه، والطرق التي قد سرت منها عدواها إليه، ويرى موقف الإسلام الصحيح في هذه
الأحوال، وطرق معالجته لها.
2- تدبير الإصلاح، وذلك عن طريق تعيين مواضع الفساد التي
يجب أن تعالج بالطرق التي يراها مناسبة لذلك، فله الترهيب والترغيب، والشدة واللين
حسبما يقتضيه حال المجتمع ووضعه.
3-
اختبار المجدد
نفسه وتعيينه حدود عمله، وتقديره قوته ومقدرته، واختيار الناحية التي يرى نفسه
قادرًا على إصلاح الأمر منها.
4- السعي لإحداث التغيير الفكري والنظري، أي تغيير أفكار
الناس وطبع عقائدهم ومشاعرهم ووجهة نظرهم الخلقية بطابع الإسلام، وإصلاح نظام
التربية، وإحياء العلوم والفنون
الإسلامية، وبالجملة بعث العقلية الإسلامية الخالصة من جديد.
5- محاولة الإصلاح العملي، وذلك كإبطال التقاليد الجاهلية،
وتزكية الأخلاق وإشباع النفوس حبًا لاتباع الشريعة من جديد، وترشيح رجال يصلحون أن
يكونوا زعماء من الطراز الإسلامي.
6- الاجتهاد في الدين، والمراد به أن يفهم المجدد كليات
الدين، ويتبيّن اتجاه الأوضاع المدنية، والرقي العمراني في عصره، ويرسم طريقًا
لإدخال التغيير والتعديل على صورة التمدن القديمة المتوارثة، يضمن للشريعة سلامة
روحها وتحقيق مقاصدها، ويمكن للإسلام من الإمامة العالمية في رقي المدنية الصحيح[9].
إن المقصود من هذه الأعمال التي ذكرت آنفًا أو التي لم
تذكر ليس المقصود منها أن تُطبق بتمامها، لكن البنود الثلاث الأولى لا محيص عنها
لأي إنسان يقوم بمهمة التجديد، وأما البنود الباقية فإنه لا يُشترط أن يستوفيها
المجدد بتمامها[10].
إن المتأمل في التاريخ الإسلامي ليجد العديد من الأمثلة
الفذّة في مجال التجديد، فمنذ نهايات القرن الأول الهجري والمجددون يتوافدون على
الأمة تترى، وما ذلك إلا رحمة من الله ، وتصديقًا لرسوله r الذي أنبأنا بذلك، ولعلنا نتخذ
أمثلة عملية لنماذج المجددين في المقال القادم إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق