ليس في الأمة اليوم آفة أعظم وأخطر من آفة
الاستبداد, الآفة التي طالما حاول النهضوي الكبير عبد الرحمن الكواكبي (ت1902م)
قاصداً ومتعمداً أن يهوّل منها, ويبالغ في توصيفها, ويعظم خطورتها, فتارةً يقول: "الاستبداد
أعظم بلاء لأنه وباء دائم بالفتن, وجدب مستمر بتعطيل الأعمال حريق متواصل بالسلب
والغصب, وسيل جارف للعمران, وخوف يقطع القلوب, وظلام يعمي الأبصار, وألم لا يفتر,
وصائل لا يرحم, وقصة سوء لا تنتهي". ويقول أيضاَ "إن الاستبداد داء أشد
وطأة من الوباء, أكثر هولاً من الحريق, أعظم تخريباً من السيل, أذل للنفوس من
السؤال, داءٌُ إذا نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء, والأرض
تناجي ربها بكشف البلاء".
وكان
يفترض أن يساهم هذا الكتاب في تطوير وتأكيد اهتمامات الفكر الإسلامي المعاصر بقضية
الاستبداد, إلا أن هذه الاهتمامات كانت محدودة جداً, لا تعادل هذه المشكلة وحجمها
وخطورتها, وبالشكل الذي يمكن أن يعد تراجعاً أمام معضلة, كان من المفترض أن تستحوذ
على أوسع الاهتمامات لأنها وكما وصفها الكواكبي أصل الداء وعلة العلل. الأمر الذي
يفسر لنا محدودية حضور الكواكبي وخطابه الإصلاحي في الأدبيات الإسلامية المعاصرة,
وهذا ما ينبغي أن يراجع ويعاد النظر فيه.
وبالمثل فإن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في
الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر الهجري كانت إحدى العلامات الفارقة في تاريخ
هذه البقعة التي أهملت كثيرًا منذ استقرار الخلافة الإسلامية الأموية في الشام في
القرن الأول الهجري، حتى مجيئه بعد اثنتي عشرة قرنًا كاملاً؛ فقد كان يجب أن تركز
الدراسات التي قامت بتحليلها – وما أكثرها – على فكرة قضاء هذه الحركة على
الاستبداد السياسي!
صحيح أنها كانت دعوة لإعادة إحياء ما اندرس من
الإسلام، وتجديد من انطمس من تعاليمه وعلى رأسه قضية العقيدة الصافية، والتوحيد
غير المشوب بضلالات ما كان يُرتكب في زمنه من الخطل والجهل بل والشرك، وقد نجح في
ذلك، لكنها في أعماقها دعوة استباقية لمقاومة العدوان والاستبداد الذي كان سائدًا
بين القبائل العربية التي أعادت سيرتهم الجاهلية الأولى وإن تعلقوا بمسوح من
الشعائر الإسلامية المزدانة بكثير من الأباطيل!
بالتوازي مع إعادة بث الإسلام ونشره بين الناس،
كان من الطبيعي أن يصاحب تطبيق هذه الفكرة الكثير من العقبات والمعوقات والمؤامرات
بل والحروب، لذا بزغت الفكرة عنده بأنه لا تطبيق للإسلام في جو سياسي ملبد
بالمتآمرين، فكان عليه أن يجد المعين له في ذلك.وهذه الفكرة تمت خلاصتها في نهاية
المطاف إلى معادلة "الأمير" و "الإمام"!
فبعد تفاصيل وأحداث طويلة على طريق الدعوة
اهتدى ابن عبد الوهاب رحمه الله إلى الدرعية في بلاد نجد شرق الجزيرة العربية
ملتمسًا من أميرها محمد بن سعود أن يوفر له الغطاء العسكري لحماية دعوته وأنصاره
وله في سبيل ذلك الأجر في الدنيا والآخرة، وقد قبل ابن سعود ذلك.
الجهاد لإعلاء الحق:
كان ابن عبد الوهاب
رحمه الله يكثر من إرسال الرسائل، ومكاتبة البلدان والقرى والقبائل المجاورة،
يدعوهم إلى التوحيد الخالص، ونبذ كل ألوان الشرك المنتشرة بينهم عن طريق الأدلَّة
الصريحة من كتاب الله وسُنَّة رسول الله r؛ فما لبث الكثير منهم في اتهامه بتكفير المسلمين، بل لم يقتصر الأمر على
ذلك؛ فقد بدأ خصومه في حشد الجيوش لمحاربته ومحاربة الدعوة؛ حيث أغاروا على بعض
القرى التي بايعت الشيخ ودخلت في حلفه.
لم يرَ الإمامُ والأميرُ
بُدًّا من الاستعانة بالسيف بجانب الدعوة بالموعظة الحسنة، فقد تعاهد ~ من قَبْلُ مع أمير الدرعية محمد بن سعود على المعونة والمؤازرة لنشر دعوة التوحيد وطمس معالم الشرك،
رغم أن الدرعية بلدة صغيرة لا يتجاوز عدد أفرادها ألف نسمة، وعدد بيوتها لا يزيد على
سبعين بيتًا! لكن أهلها أَبْلَوا بلاءً حسنًا في الدفاع عن عقيدة الإسلام.
ومن هذه القرية
المتواضعة بدأت الجيوش تُجَهِّز نفسها لمحاربة مَنْ تصدَّوْا لدعوة التوحيد، ولم تنتظر
طويلاً فقد بدأت الجهاد منذ سنة (1160هـ)، وذلك بعد عامين من وصول الشيخ إلى الدرعية، فقد ردُّوا هجوم دهام بن دواس[1]
بأهل الرياض والصمدة، وانكشف أهل الدرعية أمام المغير، واستشهد
في هذه المعركة فيصل وسعود وَلَدَا الأمير محمد بن سعود.
أعداء الدعوة واستمرار الجهاد:
واستمرَّت الحرب في
سجال بين الأمير ابن سعود وبين خصومه، كدهام بن دواس حاكم الرياض، الذي تعقَّب
الدعوة وأنصارها من عام (1159هـ) حتى فتح الله على يد جنوده الرياضَ عام (1187هـ).
ومن خصومه أيضًا عريعر بن دجين حاكم الأحساء الذي أغار على حُريملاء في عام (1172هـ)؛ وقد كان عريعر قاسيًا لا يتصف بالشفقة أو الرحمة؛ إذ كان
يقتل كل من ظفر به من الموحدين ويغير على مدنهم وقراهم كلما سنحت الفرصة، وكان
شاغله الأكبر القضاء على الدرعية ذلك الخطر الذي يقض مضجعه باستمرار ، ولذلك خرج
في عام 1178هـ وقد جمع كيده من كل ناحية، واستنفر كثيرًا من أهل القرى والمدن
وتوجّه نحو مركز الدرعية في جيش ضخم، وكلما مر على قرية أو قبيلة قدموا له ولاءهم،
وقد حصار الدرعية مدة عشرين أو أكثر لكن جنود الدعوة دافعوا عنها دفاع الأبطال
البواسل، حتى ألقى الله الرعب في جنود عريعر وأتباعه، فانقلبوا بحول الله وقوته
خاسرين خاسئين[2].
واستمرَّ الأمير محمد
بن سعود في محاولاته المتعاقبة لصدِّ عدوان المناوئين، والهجوم عليهم بقصد نشر
الدعوة إلى أن توفَّاه الله في سنة (1179هـ)، فتولَّى ابنه عبد العزيز أمور الحكم؛
حيث تابع مسيرة أبيه في الجهاد، ولم يكن الإمام عبد العزيز ~ يقطع أمرًا دون الشيخ، ولا ينفّذه إلا بإذنه.
استطاع الأمير عبد
العزيز أن يفتح الرياض في عام (1187هـ)، بعد حروب دامت ما يقرب من ثلاثين عامًا
بين دهام بن دوّاس وأتباعه، وبين أنصار الدعوة السلفية، وقد أرسل الإمام محمد بن
عبد الوهاب ~ رسالة بالغة الأثر للأمير عبد العزيز بمناسبة هذا
الفتح، جاء فيها: "أُحِبُّ لك ما أحبُّ لنفسي، وقد أراك الله في عَدُوِّك ما
لم تؤمِّل، فالذي أراه لك أن تُكثر من قول الحسن البصري؛ كان إذا ابتدأ حديثه
يقول: اللهم لك الحمد بما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا وفرَّجْتَ عنَّا، لك الحمد
بالإسلام والقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كبَّتَّ عَدُوَّنَا، وبسطت
رزقنا، وأظهرتَ أمننا، وأحسنتَ معافاتنا، ومِنْ كل ما سألناك ربنا أعطيتنا، فلك
الحمد على ذلك حمدًا كثيرًا طيِّبًا حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت"[3].
إن هذه الرسالة
الطيِّبَة من الإمام للأمير دَرْسٌ من دروس العقيدة الجليَّة؛ حيث الالتجاء إلى
الله وحده، وضرورة شكره دون سواه، فهو U من وهبهم هذا النصر دون التعويل على غيره I من الأمور المادِّيَّة أو المعنويَّة.
وكان الشيخ ~ قد خالف أخاه سليمان بن عبد الوهاب؛ ذلك لأنه دأب على كتابة الرسائل
المليئة بالأكاذيب والمفتريات، وما كان ذلك إلا حسدًا وغيرة، وكان الشيخ ~ يرد عليه اتهاماته ومفترياته بالحجة الواضحة، والموعظة الحسنة، ثم شاء
الله أن يهدي سليمان بن عبد الوهاب في آخر الأمر، فرجع إلى أخيه في الدرعية تائبًا
عام 1190هـ، فأحسن إليه الشيخ، وأكرم مثواه، وتوجد رسالة سليمان بن عبد الوهاب
مطبوعة باسم "الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية" وأعداء التوحيد
يتشدقون بذكر هذه الرسالة؛ بيد أنهم يذوبون خجلاً وحياءً عند ذكر رجوع سليمان
وتوبته[4].
ولما رأى الأعداء أن
قوة الشيخ وأنصاره من أهل نجد لا تزال تزداد وتنمو يومًا بعد يوم التجئوا إلى
استعمال الأساليب الدنيئة؛ فاتهم سليمان بن محمد بن سحيم الشيخ بتهم وافترى عليه
مساوئ عديدة، وأرسل إلى مدن الخليج والأحساء وغيرها، لكن الشيخ ردَّ على هذه
الرسائل ردًا مفصلاً مفحمًا، وقد اشترك مع أدعياء العلم والعمل في هذه الافتراءات
أصحاب العروش والقصور من الأمراء والحكام على النواحي وذلك للحفاظ على مراكزهم
وملكهم[5].
كان الشيخ ~ يحيي غالب الليل قائمًا: يصلي ويتهجد ويقرأ القرآن، وكان من دأبه التأني
والتثبت في تنفيذ الأحكام، لا يميله الهوى عن الشرع، ولا تصده عداوة عن الحق، بل
يحكم بما ترجّح له وجه الصواب فيه، فإن وجد نصًّا في كتاب الله أو سنة نبيه r التزمه ولم يعدل عنه؛ وإلا رجع إلى كتب الأئمة الأربعة، وأخذ نفسه بدقة
المراجعة والتحقيق للنص، وشدة البحث والكشف والتنقيب.
وقد فتح الله على المؤمنين؛
إذ امتدت راية الدعوة السلفية إلى الحجاز وعسير وشمال الجزيرة واليمن؛ وقد كان من أبرز الملبين للدعوة والمؤيدين لها عالم
صنعاء المجتهد الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني (ت 1182هـ) الذي كان يظن أنه
الوحيد في ميدان الدعوة في الجزيرة العربية.
ومع ما أفاض الله على بيت المال من الأموال
والغنائم، فقد كان الإمام ~ زاهدًا متعففًا، لا
يأكل إلا بالمعروف، وكان سمحًا جوادًا لا يرد سائلاً، فلم يخلّف ~ شيئًا من المال يوزع بين ورثته، بل كان عليه دين كثير يرجع لمساعدته لطلاب
العلم، فقد "كان الشيخ ~ لما هاجر إليه المهاجرون
تحمل الدين الكثير في ذمته لمؤنتهم وما يحتاجون إليه وفي حوائج الناس، وجوائز
الوفد إليه من أهل البلدان والبوادي، وذكر له أنه حين فتح الرياض كان في ذمته
أربعون ألف نجدية قضاها من غنائمها"[6].
انتهاء الأجل:
وبعد جهاد طويل، وصراع
مرير بين الحق والباطل شاء الله أن يتوفى الإمام ~ في يوم الاثنين آخر شهر شوال عام 1206هـ، وله من العمر نحو 92 عامًا، قضى
منها ما يزيد على خمسين عامًا في الدعوة والتوجيه والإرشاد؛ فرحمه الله رحمة
واسعة، وأدخله جناته، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، كفاء ما أحيا من شرع
الله، وجدد من سنة رسوله r.
لقد كان من المهم أن
نذكر هذه التفاصيل التاريخية التي تؤكد على حق الدعوة الإسلامية في نصرة نفسها
طبقًا لمستجدات العصر وآلياته وما يتوافق منه مع الشريعة الغراء، وإن دعوة
ابن عبد الوهاب رحمه الله لا يمكن أن تكون حكرًا في الدراسة على المدرسة السلفية
الحديثة، فهي تجربة في غاية الأهمية من الناحية التاريخية والعسكرية والفكرية، بل
إن ثراءها يكمن في إمكانية الاستفادة المباشرة منها لإيجاد حلول لهذا الواقع
الإسلامي الكارثي، وفي المقال القادم سنستكمل بإذن الله حديثنا عن بعض أسباب نجاح
هذه الدعوة التي قاومت العدوان الفكري الذي سلط قرونًا على أهل الجزيرة العربية
حتى أمسى هو الأصل في هذه الصحراء القاحلة البعيدة عن المدنية والحضارة
المجاورة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق