تكاد صدمة الأحداث
وتواليها وسرعتها المدهشة تنسي الإنسان شغفه بالتاريخ الذي يسجل أحداث الحياة
ومشكلاتها، لكن "التحيز" لفكر أو منهج يجعل هذا المؤرخ في حيرة من أمره،
فهو في الأصل إنسان يُقبل على هذا باعتباره أسوته، ويدبر عن ذاك لأنه خصمه .. هكذا
أدى التحيز وثبات الأحداث وهدوء الأوضاع بل الرتابة التي امتازت بها الفترة
"المباركية" إلى الحكم بسهولة على أن هذا بأنه إسلامي التوجه وذلك بأنه
ليبرالي وأؤلئك من التكنوقراط وهكذا..
لكن سنة ونصفًا من التغير
في المواقف، والتبدل في الأحوال جعلت التأريخ للحدث أمرًا على سهولته الظاهرة صعب
المنال إلا على "الإنسان الآلة" الذي يستعلى على الأحداث مؤمنًا بأنه من
السهولة بمكان أن تتغير المواقف وتتبدل بحسب المصلحة المتغيرة.
لكن المؤرخ المسلم يجد
صعوبة في فهم ذلك لأن تحيزه يتكئ في الأساس على التوحيد، وليس التوحيد مجرد
أيديولوجية بشرية يلتف حولها الأتباع فتتغير من حيث يحسبون أنها ثابتة، وتتبدل من
حيث يظنون أنها صلبة، ما ينتج عنه انسلاخ من التوحيد فيكون شركًا كدبيب النملة لا
يحس به إلا من تربى على التوحيد تربية جعلته ميزانًا حساسًا لكل فعل أو فكر يخالف
ذلك ولو بنسبة ضئيلة، والحق أن من أروع من تحدث وأجلى عقيدة التوحيد دون إطناب
الأقدمين، وتقنين الآخرين في هذا القرن الأخير الأستاذ سيد قطب رحمه الله، انظر
مثلا إلى قوله في الظلال: "التوحيد البسيط الواضح يطلق الضمير البشري من
أوهام الوهم والخرافة ويطلق العقل البشري من عقال التقليد الأعمى ويطلق المجتمع
البشري من الجاهلية وتكاليفها ويطلق «الإنسان» من العبودية للعبيد- سواء فيما
يشترعونه من قوانين، وما يصنعونه من قيم وموازين- ويحل محل هذا كله عقيدة واضحة
مفهومة مضبوطة، وتصورا واضحا ميسرا مريحا، ورؤية لحقائق الوجود والحياة كاملة
عميقة، وانطلاقا من العبودية للعبيد، وارتفاعا إلى مقام العبودية لله وحده..
المقام الذي لا يرتقي إلى أعلى درجاته إلا الأنبياء! ألا إنها الخسارة الفادحة-
هنا في الدنيا قبل الآخرة- حين تنحرف البشرية عن صراط الله المستقيم وتتردى في حمأة
الجاهلية وترجع إلى العبودية الذليلة لأرباب من العبيد".
القضية إذن هي مدى
تعلق الإنسان بالسماء والأرض، التعلق بالسماء يجعل المواقف متسقة مع هذه العزة والشرف
التي ربطها الإله بالمؤمنين {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. لكن المنافقين
الذين ارتضوا بالأرض بديلاً عن منهج السماء لا يمكن أن يعلموا أن المقارنة بينهم
وبين المؤمنين لن تكون محسومة إلا لهم ولمن على شاكلتهم؛ ذلك أنهم يقيمون الآخر
بالمنظار المادي الهابط غير المستوعب حقيقة "العزة" التي يجب أن يكون
عليها المجتمع المسلم المؤمن بالله ربًا لا شريك ولا ند له.
هنا فقط يمكن أن نجعل
هذه المقدمة "نموذجًا تفسيريًا" يتجاوز الظاهر إلى الأعماق، ويتخطى
اللحظة التي قد لا يستوعبها عقل إنسان مصدومًا في الشيخ الفلاني أو المفكر
العلاني.
***
في تأريخ اللحظة الراهنة
يمكن للمؤرخ بسهولة أن يضع "بابُ أقوال المشاهير في المرشحَيْن"
ويسرده وفق تقسيمة هذا مع المرشح شفيق، وذلك مع مرشح الإخوان وفق ما يلي:
يقول الكاتب الشهير
بمنتهى الأريحية: "لم يعد أمامنا غير أحمد شفيق ومحمد مرسي. مرسي: كيف أختار
مرشحاً لم تثق فيه جماعته بالدرجة الأولى، فرشحته بديلاً للشاطر إذا تعذر ترشيحه؟ ليس
أمامي إلا أحمد شفيق، وكل الحملات الظالمة ضده، هي التي دفعته إلى فوق، فالشعب ذكي
ولماح ويعرف المفتري من المفترى عليه. قالوا شفيق سيعيد مشانق العهد البائد، وهل
كان في العهد البائد، على كل سوءاته، مشانق؟ هذه مبالغات تراكمت على رجل قوي، ذكي،
ناجح في كل مهمة مارسها، ولم يبق أمامنا غيره لكي يخلص مصر من
خنقتها""فلول؟ وهل كل من خدم الدولة فلول؟ نفترض جدلاً أنه فلول، ألم
يكن خالد بن الوليد من كفار قريش وقتل المسلمين في "أحد" ثم أصبح سيف
الله المسلول.. هل أمامنا في الإعادة من ينقذ مصر غير شفيق؟" هكذا ينطلي
الزور والبهتان على الناس!
وتقول الصحفية
اللامعة: "من يقل على أحمد شفيق إنه من الفلول. فقل له إن موسى تربى في بيت
فرعون". هكذا بمنتهى البساطة!
ويقول الصحفي الثوري:
"إن "الفريق" أحمد شفيق سيكون حامي الدولة "المدنية".
وقد كان تعليق أحدهم عبقريًا بأن قال: إن المقصود بكلمة "فريق" هو فريق
كرة القدم وليس رتبة في الجيش!
بل يتخطى الأمر مجرد
التبرير الفج إلى التفلسف في أبهر صوره يقول الكاتب المبهر: "على كلا
المرشحين أن يهرولا للقوى السياسية التي يجب أن تفرض عليهما شروطها من قبلها منهما
وقفوا معه"!
ثم إن الآخر يقول:
"ليس معنى أن شفيق عمل مع مبارك يعني أنه كان من نظامه، لقد كان يتلقى الرجل
راتبه من مصر"!
بل إن المناضل الكبير
يقول: إنه لن يقف مع دولة الاستبداد السياسي ولن يقف مع دولة الاستبداد الديني رغم
أنه تحالف مع من يقول عنهم إنهم دولة الاستبداد الديني منذ أشهر قليلة فقط ولم
يترشح مع بني جلدته من التيار الذي ينتمي إليه ليتسنى له ولهم دخول البرلمان!
وإن فريقًا من التيار
الإسلامي نفسه لا مشاحة عنده في قبول نتائج الانتخابات ولو كانت بالتزوير، فقد سارع
الدكتور أبو الفتوح كمثال بالقول إن الانتخابات غير نزيهة فقال أحد أبرز رجال
الحزب الإسلامي الذي وقف معه: "إن رأيه يخصه والانتخابات نزيهة" ثم
استطرد الرجل في براءة بالغة: "علينا أن نحترم إرادة الشعب، وكلها أربع سنوات،
وللرئيس الحق في حل البرلمان". بل "إن قانون العزل السياسي معيب وأنا لم
أكن معه لأنه غير دستوري ويتعارض مع حقوق الإنسان". وأين حقوق القتلى، وهل
احتاج المستبدون إلا للسنوات الأربع أو الخمس الأولى من حكمهم ليرسخوا استبدادهم !!
بل قال رئيس هذا الحزب
الذي ينتمي له ذلك الأستاذ البريء: "لن ننزل إلى الشارع إذا أتت الانتخابات
بالفريق شفيق" حتى لو كانت بالتزوير!
فريق آخر علم أن مرشح
الإخوان هو ما تبقى لهذه الثورة من أمل، ليس حبًا في الإخوان الذين وقعوا بمنتهى
السذاجة في فخاخ المرحلة الانتقالية عن عمد أو جهل، وليس لأنهم من "التيار
الإسلامي" وقد رأينا نماذج من التيار الإسلامي تقدم خدمات جليلة للدولة
الأمنية القمعية!
إنما الوقوف مع مرشح
الإخوان يعني أننا نقف ضد استمرار الظلم وعسكرة الدولة وقمع الحريات وترقب زوار
الفجر وقتلى السجون والمعتقلات والفقر والتبعية والسياسة التي يخطها لنا العدو، قد
لا يتحقق هذا على وجه السرعة، لكننا على الأقل نكون قد وضعنا أنفسنا على الطريق
الصحيح، هذا مع ضرورة أن يصلح الإخوان من أخطائهم الجسيمة الظاهرة لكل مخلص قبل
منتقد.
وإننا نجد من التيار الليبرالي الذي يختلف بشدة
مع الإسلاميين من يقول متحسرًا وفاضحًا: "النيويورك تايمز وصفت
اجتماعا بين شفيق ورجال أعمال أمريكيين أكد فيه إخلاصه لمبارك وانه إذا تولى
الرئاسة سيعدم الثوار .الأمريكيون صفقوا بشدة".
ونجد الصحفي والمؤلف الليبرالي الشهير الآخر
يقول: "هتقاطع عشان تنتقم من خذلان الإخوان ليك. هتساعد على فوز اللي هينتقم
منك ومن الإخوان لإن إنت وهما بالنسبة له واحد شركاء في الثورة اللي بيكرهها".
ويقول في موضع آخر: "في المرحلة الأولى من الانتخابات كان لدينا رفاهية أن
نتحمس لمرشح ما. الآن نحن أمام اختبار ضمير هل أنحاز لشريك ثورة ارتكب خطايا
سياسية أم لعدو صريح للثورة"!
وتلك الكاتبة الثائرة التي يكرهها كثير من
الإسلاميين والتي نراها في كل مظاهرة لا تخشى الضرب أو السحل أو حتى القتل تسترجع
الذاكرة مستنكرة من يريدون انتخاب شفيق فتقول: "هو ذلك الشفيق الذى أراد أن
يوزِّع علينا البونبونى ونحن نُقتل فى الميادين، وهو ذلك الشفيق الذى كان يرأس
الوزارة التى شكّلها مبارك فور قيام الثورة لتقوم باحتوائها، وهو ذلك الشفيق الذى
حدث فى عهده أن اقتحمت الجمال والخيل علينا الميدان، ثم صعد القناصة فوق الأسطح
لتقتل 12 شابا على كوبرى معروف، وهو ذلك الشفيق الذى أكد أن ما يحدث ليس ثورة، وهو
ذاته الشفيق الذى ظل رئيسا للوزراء لمدة شهر كامل بعد خلع المخلوع، ليؤمِّن تهريب
أكبر قدر من أموال عناصر النظام الفاسد خارج البلاد، وهو هو الشفيق الذى أكد أنه
استأذن المشير فى الترشح..".
بل هذا هو الشاب الاشتراكي الذي يقول:" بيقولك
الإخوان معاهم البرلمان- وهم ليسوا أغلبية- يبقى ما نديهمش الرئاسة... معاكم حق-
نديها للنظام القديم اللي معاه الجيش والشرطة والقضاء وغيرها".
هذا يمكن أن نجمعه في هذا الفصل من كتاب
التاريخ الذي قد نسجله في كتاب يجمد اللحظة التاريخية الراهنة ليعرف الجميع في
لحظة المفاصلة والتقييم سواء كانت قريبة أم بعيدة من كان مع الحق ومن كان مع
الباطل كدأب حركة التاريخ الطويلة!
***
لكن قد يسأل قارئ هذا
المقال نفسه ما علاقة بداية المقال بوسطه؟
أتمنى أن يفكر القارئ بتأن في العلاقة بينهما
وسيكتشف حتمًا أن الإنسان أبعد غورًا من مجرد التقييم السطحي الساذج الذي اعتدنا
ومازلنا نتعود عليه .. ورحم الله أناسًا وضعوا "علم الجرح والتعديل" و
"تاريخ التراجم والطبقات"!
نُشر في رابطة النهضة والإصلاح وشبكة رصد الإخبارية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق