في المقال السابق
تناولنا الأوضاع الداخلية في بغداد في عصر الخليفة العباسي المستنجد بالله
(ت566هـ) ورأينا ما كان فيها من الجدة والطرافة، وفي هذا المقال نحاول أن نستقرئ
من المصادر القريبة من هذه الأحداث العلاقات العباسية الخارجية في منتصف القرن
السادس الهجري وهي مرحلة مهمة من تاريخ الجهاد الإسلامي الصليبي، خاصة من منظور
الخلافة الإسلامية التي كانت في وضع سياسي آمن نوعًا ما مقارنة بنظيره في بلاد
الشام.
لقد سار المستنجد على
سيرة والده المقتفي لأمر الله (ت555هـ)، وبدت خلافته للمراقبين من حوله كما كانت
في زمن أبيه، فالخليفة الكهل لم يكن غرًا يضيع ما بناه أبوه في ربع قرن مضى، وقد
كان من الطبيعي أن يحافظ على القوة الجديدة التي اكتسبتها الخلافة من جراء كسرها
للشوكة السلجوقية، وقمع الاضطرابات العربية في العراق، وهو ما أثّر بالإيجاب
والاحترام في رؤية السلاجقة في الشرق والزنكيين في شمال الجزيرة الفراتية والشام
لقوة وهيبة الخلافة.
لقد كان علي بن كوجك
نائب قطب الدين مودود بن زنكي على الموصل ممن وقف مع محمد بن محمود السلجوقي في
حربه وحصاره لبغداد، ثم رجع الرجل بأمر من نور الدين محمود الذي كان أثقب رؤية،
وأبعد نظرًا لقوة الخلافة المتصاعدة، ولذلك حرص الزنكيون على توطيء العلاقات مع
الخلافة، وبمجرد صعود المستنجد لسدة الخلافة وفي أول مناسبة تمثلت في مرور الحاج
على العاصمة بغداد كما جرت العادة، أرسل السلاجقة علي بن كوجك إلى الخليفة ليهنئه
بالخلافة ويطلب منه العفو له ولمواليه في الشمال، يقول ابن الأثير: "وفيها
أرسل زين الدين علي نائب قطب الدين صاحب الموصل رسولا إلى المستنجد يعتذر مما جناه
من مساعدة محمد شاه في حصار بغداد ويطلب أن يؤذن له في الحج فأرسل إليه يوسف
الدمشقي مدرس النظامية وسليمان بن قتلش يطيبان قلبه عن الخليفة ويعرفانه الإذن في
الحج فحج ودخل إلى الخليفة فأكرمه وخلع عليه"[1].
وقد حاول الخليفة
المستنجد في بداية ولايته أن يجفف منابع التوتر، ويقضي على أية قوة محتملة تناوئ
الخلافة، منهم بعض قوات من التركمان استطاعوا احتلال منطقة البندنيجَينِ في شرق
بغداد على مشارف إقليم الجبل[2] وكان على رأس هؤلاء القائد العسكري ترشك الذي
قتل أحد مماليك الخلافة، ففي شهر ربيع الأول من عام 556هـ "أرجف في بأن عسكرا
قد تعلق بالبندنيجين من التركمان وأن الخليفة يريد أن ينفذ هناك عسكرا يضمهم إلى
ترشك ويقاتلونهم فخرج جماعة من الأمراء في جيش كبير فاجتمعوا بترشك فلما حصل بينهم
وثبوا عليه فقتلوه واحتزوا رأسه وبعثوا به في مخلاة وإنما احتالوا عليه لأنهم دعوه
فأبى أن يحضر واضمر الغدر وقتل مملوكا للخليفة ودعا الوزير أولياء ذلك المقتول
وقال إن أمير المؤمنين قد اقتص لأبيكم من قاتله فشكروا"[3]
.
كذلك حرص المستنجد على
تطهير المناطق القريبة من العاصمة بغداد، والتي طالما استثمرت فرصة ضعف الخلافة
للوقوف مع الخصوم، خاصة بنو أسد رؤساء مناطق الحلة والبطائح جنوب العاصمة بغداد،
هؤلاء الذين أرهقوا المقتفي والد المستنجد مرارا وتكرارًا حتى دخلوا في طاعته بشق
الأنفس، الأمر الذي أضمره المستنجد في نفسه، وعزم على القضاء على قوتهم بصورة
نهائية، وذلك بالاستعانة ببعض أمرائه الأقوياء، وحالما دخل العام 558هـ حتى أعطى
المستنجد إشارة البدء لقواته ومواليه للقضاء على هذه القبائل العربية الكثيفة،
يقول ابن الأثير: "في هذه السنة أمر الخليفة المستنجد بالله بإهلاك بني أسد
أهل الحلة المزيدية لما ظهر من فسادهم ولما كان في نفس الخليفة منهم من مساعدتهم
السلطان محمدا لما حصر بغداد، فأمر يزدن بن قماج بقتالهم وإجلائهم من البلاد
وكانوا منبسطين في البطائح واللوير فلا يقدر عليهم فتوجه يزدن إليهم وجمع عساكر كثيرة
من فارس وراجل وأرسل إلى ابن معروف مقدم المتفق وهو بأرض البصرة فجاء في خلق كثير
وحصرهم وسكر عنهم الماء وصابرهم مدة فأرسل الخليفة يعتب على يزدن ويعجزه وينسبه
إلى موافقته في التشيع وكان يزدن يتشيع فجد هو وابن معروف في قتالهم والتضييق
عليهم وسد مسالكهم في الماء فاستسلموا حينئذ فقتل منهم أربعة آلاف قتيل ونودي فيمن
بقي من وجد بعد هذا في الحلة المزيدية فقد حل دمه فتفرقوا في البلاد ولم يبق منهم
بالعراق من يعرف وسلمت بطائحهم إلى ابن معروف وبلادهم"[4]
.
ولما حاول بعض
التركمان إعادة الاستيلاء على قلعة الماهكي شرقي العراق وهي من أعمال بغداد وقتئذ،
لم ينتظر الخليفة طويلاً حتى أرسل قائده المحنك يوسف الدمشقي الذي لسوء الحظ قضى
هنالك في عام 562هـ.
غير أن ابن الأثير
يذكر هذه الحكاية مفصلة باتحاد قوات الخلافة التي تم حشدها من مناطق متعددة لا
سيما النعمانية وواسط وبغداد ضد القائد التركماني شملة الذي تم تحريضه من قبل
مناوئي الخلافة من السلاجقة وعلى رأسهم شمس الدين ألدكز الذي كان قد وصل إلى ذروة
قوته حينها، وقد كان يحمل في قلبه حنقا وغلاّ من الخلافة العباسية التي حاولت
إسقاط دولته مرارًا، قال ابن الأثير: "في هذه السنة وصل شملة صاحب خوزستان
إلى قلعة الماهكي من أعمال بغداد وأرسل إلى الخليفة المستنجد بالله يطلب شيئا من
البلاد ويشتط في الطلب، فسيّر الخليفة أكثر عساكره إليه ليمنعوه وأرسل إليه يوسف
الدمشقي يلومه ويحذره عاقبة فعله، فاعتذر بأن إيلدكز والسلطان أرسلان شاه أقطعا
الملكَ الذي عنده - وهو ولد ملكشاه - البصرةَ وواسط وعرض التوقيع بذلك، وقال: أنا
أقنع بثلث ذلك. فعاد الدمشقي بذلك، فأمر الخليفة بلعنه، وأنه من الخوارج، وجمعت
العساكر وسيرت إلى أرغش المسترشدي وكان بالنعمانية هو وشرف الدين أبو جعفر بن
البلدي ناظر واسط، مقابل شملة، ثم إن شملة أرسل قلج ابن أخيه في طائفة من العساكر
لقتال طائفة من الأكراد فركب في بعض العسكر الذي عنده وسار إلى قلج فحاربه فأسر
قلج وبعض أصحابه وسيرهم إلى بغداد، وبلغ شملة وطلب الصلح فلم تقع الإجابة إليه ثم
إن أرغش سقط عن فرسه بعد الوقعة فمات، وبقي شملة مقيما مقابل عسكر الخليفة، فلما
علم أنه لا قدرة له عليهم وحل عاد إلى بلاده وكانت مدة سفره أربعة أشهر"[5].
ولذلك لما رجع ابن البلدي ناظر مدينة واسط بعد انسحاب شملة تلقته بغداد باحتفاء
زائد، وكوفئ مكافأة جزيلة من الخليفة على تصديه لذلك الخارج.
وبسبب تجرؤ ألدكز على
الخلافة العباسية حاولت الخلافة أن تقف مع مناوئيه ضده، وكان أبرزهم أمير مراغة
آقسنقر الأحمديلي وقد كان عنده ابن السلطان محمد بن محمود السلجوقي وأراد أن تعترف
الخلافة بشرعية سلطنة هذا الغلام، ومن ثم يحاول توسيع هذه السلطنة متبعًا في ذلك
إستراتيجية ألدكز، وقد قبل الخليفة عرض آقسنقر، الأمر الذي قوّض شرعية أرسلان بن
طغرل وزوج أمه شمس الدين ألدكز وهو ما اعتبره إعلانًا صريحًا للحرب ضده، وقد كانت
هذه الأحداث في بداية عام 563هـ، عقب انجلاء شملة التركماني عن قلعة الماهكي شرقي
بغداد، قال ابن الأثير: "في هذه السنة أرسل آقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة إلى
بغداد يسأل أن يخطب للملك الذي هو عنده وهو ولد السلطان محمد شاه ويبذل أنه لا يطأ
أرض العراق ولا يطلب شيئا غير ذلك وبذل ما لا يحمله إذا أجيب إلى ما التمسه فأجيب
بتطييب قلبه وبلغ الخبر ايلدكز صاحب البلاد فساءه ذلك وجهز عسكرا كثيفا وجعل
المقدم عليهم ابنه البهلوان وسيرهم إلى آقسنقر فوقعت بينهم حرب أجلت عن هزيمة
آقسنقر وتحصنه بمراغة ونازله البهلوان وحصره وضيق عليه ثم ترددت الرسل بينهم
فاصطلحوا وعاد البهلوان إلى أبيه بهمذان"[6].
وأما العلاقة بين
العباسيين والفاطميين فلم تتراجع حدة عداوتها رغم قلة الاحتكاك بين الجانبين منذ
مجيء الصليبيين وتمركزهم في الشام، ولطالما تابع الجانبان أخبار بعضهما البعض، ففي
عام 559هـ حدثت الفتنة الشهيرة في مصر بين شاور وضرغام وكلاهما من المتطلعين
للوزارة الفاطمية، وكان شاور قد تقلد الوزارة بعد أسرة آل رزيّك الشهيرة، لكن
ضرغام ثار عليه وخلعه، الأمر الذي اضطر معه شاور للجوء إلى نور الدين محمود في
بلاد الشام، وقد اتفق معه على إعطائه ثلث غلة مصر إذا دعمه بالعساكر، وقد قبل نور
الدين هذا العرض، وأرسل معه أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين على رأس عساكر كثيفة،
وقد التقى مع عسكر ضرغام فانهزم ثم قُتل، لكن شاور تصالح مع الخليفة الفاطمي
العاضد، ونكث عهده مع نور الدين، الأمر الذي جعل أسد الدين يرفض الرجوع، ثم استعان
شاور بالقوات الصليبية التي جاءت وحاصرت أسد الدين في بلبيس في الشرقية مدة ثمانية
أشهر، لم يفكوا حصارهم عليها إلا بعد هجوم نور الدين على قلاعهم ومدنهم في بلاد
الشام، واستيلاؤه على قلعة حارم، ما جعلهم يعودون أدراجهم لحماية ممتلكاتهم تلك،
ثم لم يرجع أسد الدين إلى بلاد الشام إلا وكان متحصلاً على مبلغ ضخم قيمته ستون
ألف دينار مصرية[7].
لقد كان دخول قوات نور
الدين محمود إلى مصر وبقائها مدة عام كامل فيها، وهزيمة الفاطميين ثم انكسار هيبة
الصليبيين فيها خبرا سعيدا على الخليفة المستنجد الذي بُشّر به، حتى إن ابن الجوزي[8] يقول: "وورد البشير إلى المستنجد بفتح مصر
فقال حاجب الوزير ابن تركان قصيدة أولها:
لعل حداة العيس أن يتوقفوا ... ليشفي غليلا بالمدامع
مدنف
ليهنك يا مولى الأنام بشارة ... بها سيف دين الله بالحق
مرهف
ضربت به هام الأعادي بهمة ... تقاصر عنها السمهري المثقف
بعثت إلى شرق البلاد وغربها ... بعوثا من الآراء تحيي
وتتلف
فقامت مقام السيف والسيف قاطر ... ونابت مناب الرمح
والرمح يرعف"
وأما الحرمين الشريفين
فقد استعادت الخلافة العباسية السيطرة عليهما، ولو كانت شكلية من هجمات الفاطميين
المتكررة عليها، وقد كانت الأسرة العلوية بفروعها قد تولت مقاليد مكة والمدينة منذ
منتصف القرن الرابع الهجري، وبعد نجاح العباسيين في إرجاع مكة والمدينة للسيادة
العباسية، حرص العلويون حكام الحرمين على إبراز هذه السيادة في زيارة سنوية
للعاصمة بغداد، ففي ربيع الأول من عام 565هـ "جاء المكيون بخرق البحر والهدايا
كما جرت العادة والطبول بين أيديهم وكان معهم ثلاثة أفراس وبغلة وانطع من الأدم
ومضوا إلى الديوان"[9].
إنه من المهم أن نعيد
صياغة وقراءة بل وكتابة تاريخ هذه المرحلة التاريخية المهمة للباحثين ولعموم
القارئين الذين يهتمون باستنباط دروس التاريخ وفلسفته من هذه الحوادث المفصلة التي
تؤكد على أن العلاقات الدولية أشد تركيبية منذ عهد طويل من مجرد أن هذا معي وهذا
ضدي، ولنا في تاريخ العباسيين في القرن السادس الهجري أعظم الأمثلة على ذلك، وسوف
نحاول سرد تاريخ هذه المرحلة الملحة من منظور مختلف في المقالات القادمة إن شاء
الله.
[2] قال ياقوت عنها: "هي بلدة مشهورة في طرف النهروان من ناحية
الجبل من أعمال بغداد" ونقل عن أحد علمائها قوله: "البندنيجينِ اسم يطلق
على عدة محال متفرقة غير متصلة البنيان بل كل واحدة منفردة لا ترى الأخرى لكن نخل
الجميع متصلة وأكبر محلة فيها يقال لها باقطنايا وبها سوق ودار الإمارة ومنزل
القاضي ثم بويقيا ثم سوق جميل ثم فلشت وقد خرج منها خلق من العلماء محدثون وشعراء
وفقهاء وكتاب". ياقوت: معجم البلدان 1/499.
[3] ابن الجوزي: المنتظم 10/200.
[4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/464.
[6] ابن الأثير: الكامل 10/9.
[7] ابن كثير: البداية والنهاية 12/308، 309.
[8] ابن الجوزي: المنتظم 10/208، 209.
[9] ابن الجوزي: المنتظم 10/230.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق