الاثنين، 16 يوليو 2012

الوقف الإسلامي وعلاقته بمقاصد الشريعة الإسلامية (1)


لم نر في حضارة من الحضارات أو أمة من الأمم السابقة على حضارة الإسلام واللاحقة هبة إلهية ترتقي بالناس وحيواتهم كالأوقاف التي استطاعت أن تدخل في كل ما يتعلق بشئون البلاد والعباد، والوقف "حبس- أي العين - على مِلْكِ الله تعالى، وصرف منفعتها على مَنْ أَحَبَّ"[1]. وعند الشافعية: "حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، بقطع التصرُّف في رقبته، وتصرف منافعه إلى البِرِّ تقرُّبًا إلى الله تعالى"[2].
وبعد الرجوع لآراء الفقهاء من المذاهب المختلفة للنظر في مشروعيَّة الوقف، يَتَّضح لنا أن الرأي الراجح هو رأي جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية؛ وذلك لصحَّة أدلَّتهم، وصراحة دلالتها على جواز الوقف، ولِوُرُودِ العمل بذلك عن الصحابة y، وأمَّا رأي المانعين كالقاضي شريح بن الحارث الكندي، وأبي حنيفة، وزُفَر من تلاميذ أبي حنيفة؛ فقد ضعَّف المُحَدِّثون الحديث الذي اعتمدوا عليه، وهو قوله r: "لا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللهِ"[3]. إضافةً لاختلاف معناه عمَّا وَجَّهوه إليه من منع الوقف؛ فقد ذكر الشيخ مصطفى الزرقا أن العلماء أجابوا "بأن هذا الحديث المقصود به منع ما كان عليه العرب من حبس الميراث عن الإناث؛ لأنهم كانوا يعتادون حرمانهن منه، ويُوَرِّثون بالمؤاخاة والموالاة مع وجودهن"[4]. لذلك فإنه يجب العدول عن هذا الرأي، والأخذ بجواز الوقف.

ويمكن أن نجمل أهمية الوقف ومراميه فيما يلي:

1-     الأهمِّيَّة الدينيَّة: تكمن في رغبة الإنسان في الحصول على الأجر والمثوبة، وأن يرجو أن يكون عمله هذا سببًا في مغفرة ذنبه، وعُلُوِّ درجته عند ربِّه؛ لذا اشترط الفقهاء أن يكون الوقف للبِرِّ وأعمال الخير، فقالوا بوجوب حبسه "على وجهٍ تَصِلُ المنفعة إلى العباد، فيزول مِلْك الواقف عنه إلى الله تعالى"[5].
2-      الأهميَّة العائليَّة: فحينما يُوقِفُ الواقف عقاره أو أرضه أو ماله على ذُرِّيَّته؛ فإنه بذلك يحرص على ضمان مستقبلهم، وحمايتهم من الحاجة والفاقة، التي قد تُلِمُّ بأحدهم مستقبلاً.
3-      الأهميَّة العلميَّة: كوقف المدارس التي تُعَلِّم العلوم، وهذا من باب حفظ العِلْمِ من الضياع، سواء كان علمًا شرعيًّا أم حياتيًّا؛ فالأُمَّة الإسلاميَّة محتاجة لكِلاَّ النوعين.
4-      الأهميَّة الاجتماعيَّة: تَتَمَثَّل في مساعدة الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل والمُعْوِزين؛ فيتسبَّبُ الوقف في علاج كل كسر وألم يعاني منه هؤلاء.
5-      الأهميَّة الصحيَّة: حيث يقوم الوقف على إنشاء المستشفيات التي تتسبَّب في رفع الحرج عن المرضى، وخاصَّةً الفقراء منهم الذين لا يستطيعون تَحَمُّل تكاليف العلاج وما يَتَرَتَّب عليه؛ فيكون الوقف سببًا في راحتهم وسعادتهم.
6-      الأهميَّة العسكريَّة: تقوم بعض الوقفيات العامَّة بخدمات المجالات العسكرية؛ إذ يُخَصَّص جزء من ريعها للمجاهدين؛ لشراء الأسلحة والعتاد لتقوية الجيش، وكذا لمُفَادَاة الأسرى[6].
يُطلق الوقف الخيري على نوع مُعَيَّن من الأوقاف المرصودة للخير والبِرِّ ابتداءً وانتهاءً، فخرج من ذلك أيُّ نوع لا يتَّفق مقتضاه مع طبيعة هذا الوقف.
ماهية مقاصد الشريعة الإسلامية:
جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيق مصالح العباد في دينهم ودنياهم، فاهتمَّت أشدَّ الاهتمام بمصالحهم، وأعانتهم على درء كل مفسدة قد تحيق بهم، لذلك قال الإمام ابن القيم ~: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَمِ ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدْخِلَتْ فيها بالتأويل"[7].

تعريف المقاصد لغةً

القَصْدُ: اسْتِقامَةُ الطَّرِيقةِ، قَصَدَ يَقْصِدُ قَصْدًا. والقَصْدُ: العَدْل. والقَصْدُ: إِتيان الشيء، تقول: قصَدْتُه، وقصدْتُ له، وقصدْتُ إِليه، والقَصْد في الشيء خلافُ الإِفراطِ، وهو ما بين الإِسراف والتقتير، والقصد في المعيشة أَن لا يُسْرِفَ ولا يُقَتِّر[8].

تعريف المقاصد شرعًا:

لم يستخدم علماؤنا القدامى مصطلح المقاصد، وإنما عبَّروا عنه بالمصلحة، ويُعَدُّ أبو حامد الغزالي (ت505هـ) رحمه الله أوَّل مَنْ تَكَلَّم عن الضرورات الخمس، فقال: "المصلحة: المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشارع من الخَلْقِ خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم؛ فكل ما يتضمَّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يُفَوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة"[9].
ويُعْتَبَر الشيخ العلامة التونسي محمد الطاهر بن عاشور أوَّل من عرَّف المقاصد تعريفًا مستقلاًّ؛ حيث قال: "مقاصد التشريع العامَّة هي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختصُّ ملاحظتها بالكون في نوع خاصٍّ من أحكام الشريعة؛ فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التّشْريع عن ملاحظتها ويدخلُ في هذا أيضًا معانٍ من الحِكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواعٍ كثيرةٍ منها"[10].
وقال الدكتور يوسف العالم: "مقاصد الشارع هي المصالح التي تعود إلى العباد في دنياهم وأخراهم، سواء أكان تحصيلها عن طريق جلب المنافع، أو عن طريق دفع المضارِّ"[11].
وقد قسَّم العلماء مقاصد الشريعة إلى ما يلي:
أوَّلاً الضرورات: وقد عرَّفها العلاَّمة الشاطبي الأندلسي في (الموافقات) بقوله: "فأما الضرورية فمعناها أنها لا بُدَّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا؛ بحيث إذا فُقِدَتْ لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين"[12]. لذا فإن المقاصد الضرورية لا بُدَّ من وجودها لقيام نظام العالم وصلاحه؛ لأن استقامة حال الإنسان مرهونة بتعلُّقه بالضرورات.
وقسَّم الفقهاء الضروريات إلى خمسة أقسام؛ هي:
أ) حفظ الدين: شرع الله تعالى لحفظ الدين وجوب الإيمان به، وحرمة الكفر به، فقال تعالى: } ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ[13]{، وحِفْظُ الدين مصلحة للجماعة والأفراد؛ فكونه مصلحة ضرورية لهم ظاهر وجَلِيٌّ؛ لأن الناس لو تُركوا وشأنهم في جَلْبِ مصالحهم ودفع مضارِّهم، فقد يَسْتَبِدُّ كلٌّ برأيه، ويتبع هواه[14].
ومع ما عُرف عن البشر من الاجتماع والتقارب، فإن هذا الاجتماع لن يستقيم إلاَّ بوجود مجموعة من الأوامر والنواهي التي تُحَدِّد طبيعة العَلاقة بين الأفراد والجماعات، وهذه الأوامر والنواهي لا بُدَّ من أن تُسْتَمَدَّ من الدين؛ لذا كان حفظ الدين أوَّل الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية لحفظها.
ب) حفظ النفس: وهو حفظ النفس الإنسانية من أيِّ هلاكٍ قد يحيق بها؛ فالله تعالى قد خَلَقَ الإنسان لاستخلافه في أرضه، ومن أَجْلِ ذلك شرع الله تحريم القتل العمد، وأوجب له القصاص العادل، فأمر الله تعالى بامتثال أمره، فقال I: } وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[15]{، كما حرَّم كذلك أي إيذاء للنفس ولو كان دون القتل سواء كان هذا الإيذاء معنويًّا أو ماديًّا.
ج) حفظ العقل: إن العقل مناط تكليف الإنسان، وبه امتاز الإنسان عن سائر المخلوقات الموجودة في الكون؛ فلمَّا كان العقل الأداة المميِّزة للأشياء، فإن الله I شرع تحريم المسكرات والمخدرات، وكلَّ ما من شأنه تغييب العقل عن وظيفته الأساسية؛ لذلك قال I: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[16]{، كما أتاح الإسلام حرية التفكير والرأي للناس، واعتبر ذلك من الضروريات الأساسية لكل إنسان.
د) حفظ النسل: جُبل الإنسان على حُبِّ الأولاد، وعلى الرغبة في بقاء ذِكْره في الأرض ممثِّلاً في ذُرِّيَّته؛ لذلك اعتبر الفقهاء حفظ النسل ضرورة من الضروريات التي جاءت الشريعة لحفظها، بداية من حفظ صحَّة الإنسان، وما يتبعه من تحريمٍ للزنا والفواحش، ومرورًا بتحريم كل ما يضرُّ بالأبناء والذرية، وكذلك تأييد وتشجيع كل ما يُصْلِحُ حال الأبناء في الدنيا والآخرة.
هـ) حفظ المال: لَمَّا كان الإنسان محتاجًا إلى المال في تسيير شئون حياته، وكان المال وسيلة أساسية في تَقَدُّم الأمم، ودِعَامة قويَّة في قيام الحضارة وازدهارها، فقد شرع الله تعالى تحريم الاعتداء عليه بالسرقة والغصب؛ فأوجب الحدود في السرقة، وحرَّم أكل أموال الناس بالباطل، فقال تعالى: }وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[17]{.
ثانيًا الحاجيَّات: وهي التي يُحتاج إليها في رفع الضيق المؤدِّي في الغالب إلى الحرج والمشقَّة اللاحقة بفوت المطلوب، وإذا لم تُرَاعَ أَدْخَلَتْ على المكلَّفين الحرج والمشقَّة، ولكنها لن تبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقَّع في المصالح العامَّة[18]. وهذه الحاجيات تدخل في العبادات: كالرُّخَص المخفِّفة بالنسبة إلى لحوق المشقَّة بالمرض والسفر، وكالتمتُّع بالطَّيِّبَات ممَّا هو حلال، وتدخل الحاجيات في المعاملات كالمساقاة والسلم، وتدخل الحاجيات أيضًا في الجنايات: كضرب الدية على العاقلة، والقسامة، وغيرها.
ثالثًا التحسينات: وهي الأخذ من محاسن العادات والمكرمات، وتجنب كل سيِّئ تأنفه العقول والفطرة السليمة؛ فهي كأخذ الزينة، والتقرُّب بالنوافل والصدقات، والمنع من بيع النجاسات، وآداب الطعام.
والمصالح التحسينية راجعة إلى المصالح الضرورية؛ مثلما رجعت إليها المصالح الحاجية؛ لأن المصالح الضرورية هي الأصل؛ فتقرب بالنوافل راجع إلى الأصل الأول، وهو المحافظة على الدين، وآداب الأكل والشرب، واجتناب الخبائث راجعة إلى المحافظة على النفس، واختيار الزوج وحُسْنُ العشرة عائدان إلى الأصل الرابع، وهو المحافظة على النسل. والكسب بالتورُّع، والإنفاق بتعفف، والبذل للفقير راجع كله إلى الأصل الخامس، وهو الحفاظ على المال، وهكذا[19].


[1] الحصكفي: الدر المختار 4/532-534.
[2] عكرمة سعيد صبري: الوقف الإسلامي بين النظرية والتطبيق ص36، وانظر: الخطيب الشربيني: الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/26.
[3] البيهقي: السنن الكبرى 6/162 (12255)، والدارقطني في سننه (4106) وقال: لم يسنده غير ابن لهيعة عن أخيه وهما ضعيفان. وقال الزيلعي: فيه ابن لهيعة وأخوه عيسى ضعيفان. انظر: الزيلعي: نصب الراية 3/477.
[4] مصطفى الزرقا: أحكام الأوقاف ص23، وانظر: الطرابلسي: الإسعاف في أحكام الأوقاف ص4، 5.
[5] الحصفكي: الدر المختار 4/533-534.
[6] انظر: عكرمة سعيد صبري: الوقف الإسلامي بين النظرية والتطبيق ص80- 87.
[7] ابن القيم: إعلام الموقعين 3/3.
[8] ابن منظور: لسان العرب، مادة قصد 3/353، والزبيدي: تاج العروس، مادة قصد 9/35، 36.
[9] أبو حامد الغزالي: المستصفى 1/417.
[10] ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية ص251.
[11] يوسف حامد العالم: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية ص79.
[12] الشاطبي: الموافقات 2/17.
[13] (الأنعام: 102).
[14] انظر: يوسف العالم: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية ص211.
[15] (الأنعام: 151).
[16] (المائدة: 90).
[17] ( المائدة: 38).
[18] انظر: الشاطبي: الموافقات 2/21.
[19] انظر: الشاطبي: الموافقات 2/16 -22.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق