الجمعة، 6 يوليو 2012

إنهم فتيةٌ آمنوا بربهم!

إن المسلم عليه أن يمتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمن جملة أوامره التي ندبها لنا، ورغّبنا فيها قوله: "إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين"[1]. والنور كما قال أهل اللغة ضد الظلمة والظلام، وهو الضوء الساطع، والمقصود من الحديث أن قراءة سورة الكهف يوم الجمعة تهدي صاحبها إلى الخير حتى الجمعة التي تليها، فمن هم أهل الكهف، وما هي قصتهم؟!
ما قصتهم؟
ثمانية عشر آية في سورة الكهف تكشف لنا سر هؤلاء الفتية أي الشباب وقصتهم العجيبة، حيث تبدأ الآيات الكريمات بتعريفنا بهم، يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا(9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}.
إن هؤلاء الفتية قد آمنوا بربهم في مجتمع ساد الكفر فيه وعبادة الأوثان؛ وإنما استجابوا لنداء الفطرة فاهتدوا لربهم سبحانه وتعالى، ولعلهم توصلوا إلى الحق بقراءة واعية واطلاع واسعٍ وتأمل في آيات الله الكثيرة في أنفسهم وفي الكون المحيط بهم، لكنهم وجدوا مقاومة شديدة، وإرهاب كبير من الكافرين الذين أرادوا أن يفتنوهم عن دينهم، ويردوهم عن الحق الذي اهتُدوا إليه، لم يجدوا حيلة إلا الهرب بدينهم من البطش.
في الكهف
ولذلك لم يكن أمام هؤلاء الشباب من طريق إلا طريق النجاة بدينهم وأنفسهم، ولم يجدوا مأوى يحميهم من عيون الأعداء، إلا كهفًا على أطراف المدينة لا يدخله ضوء الشمس كما فهمنا من الآيات القرآنية، وهم في وسط هذه الأجواء المرعبة من الخوف والقلق على حياتهم ودينهم دعوا ربهم قائلين: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}. فطلبوا من الله أن يتغمدهم ويحيطهم برحمته ورأفته وأن يرزقهم الرشاد والسداد والتوفيق في كل خطواتهم، فاستجاب الله لدعائهم، وأمّنهم من خوفهم، وأزاح عنهم الخوف بنوم طويل جداً، فقال تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}.
وينقل لنا القرآن الكريم في مشهد عجيب جدًا وصف هؤلاء الفتية المؤمنين في الكهف ومعهم كلبهم، الفارين بدينهم، المعتزلين قومهم، يقول تعالى: { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا[2]}.
إن هذا المشهد عجيب جدًا، حيث ينقل بالكلمات الخالدات هيئة الشباب في الكهف، فمن آيات الله المعجزة أن الشمس تطلع على الكهف فتميل عنه لكي يظل الكهف محتفظًا برطوبته وجوه المعتدل؛ وهي كذلك تغرب فتجاوزهم إلى الشمال وهم في فجوة منه كي لا يدخل الضوء فيوقظهم من نومهم، وهم يُقلّبُون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة؛ فيحسبهم الرائي أيقاظا ولكنهم نيام؛ وكلبهم- على عادة الكلاب- باسط ذراعيه قريبًا من باب الكهف كأنه يحرسهم؛ وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم؛ إذ يراهم نياما كالأيقاظ، يتقلبون ولا يستيقظون، وذلك من تدبير الله كي لا يباغتهم لص أو قاتل أو دابة مضرة!
البعث من جديد!
لقد لبثوا ثلاثة قرون لم يشعروا بجوع أو خوف أو موت وهذه معجزة عظيمة حباها الله بهم؛ لأن السنة الإلهية الدائمة تقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا[3]}، وبعد مرور هذه القرون الثلاثة تنزل المعجزة الإلهية فيستيقظون من رقادهم الطويل، لكن الله أحياهم من نومهم الطويل هذا لغاية كبيرة تتمثل في أن يكون هؤلاء الشباب هم الآية العظيمة لهداية قومهم من غواية الكفر والضلال.
لكن ما يدعو للإعجاب الشديد من هؤلاء الشباب هو إصرارهم على التمسك بالإيمان فور استيقاظهم، يقول تعالى على لسانهم:{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.
فما أروع هؤلاء الشباب الذين يفندون ضلال قومهم وشركهم؛ فهؤلاء القوم يعبدون آلهة كثيرة من دون الله الواحد الأحد، بل لا يملكون دليلا قويًا - كما يقول هؤلاء الشباب لبعضهم- على صحة عبادة هذه الأوثان والآلهة المتعددة من دون الله الخالق.
وبعد أن جددوا العهد بينهم على استمرارهم على دينهم، فإنهم أصبحوا يشعرون بالجوع الشديد، ولابد أن يذهب أحدهم إلى المدينة كي يشتري لهم طعامًا، لكن الزمان اختلف، والنقود التي معهم هي التي ستكشفهم لهؤلاء لأهل المدينة أحفاد القوم السابقين، يقول تعالى: { وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا[4]}.
وما أجمل قول سيد قطب رحمه الله حول هذه الآيات: "نشهد في هذه الآيات الشباب يتهامسون فيما بينهم، حذرين خائفين، لا يدرون أن الأعوام قد مرّت، وأن أجيالا قد تعاقبت، وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيرت معالمها، وأن المتسلطين الذين يخشونهم على عقيدتهم قد انتهت دولتهم، وأن قصة الفتية الذين فروا بدينهم في عهد الملك الظالم قد تناقلها الخلف عن السلف... ونفهم أن أهل المدينة عند استيقاظهم أصبحوا مؤمنين، فهم شديدو الترحاب بالفتية المؤمنين بعد أن انكشف أمرهم بذهاب أحدهم لشراء الطعام، وعرف الناس أنه أحد الفتية الذين فروا بدينهم منذ عهد بعيد. ولنا أن نتصور ضخامة المفاجأة التي شعر بها الشباب في الكهف- بعد أن أيقن زميلهم أن المدينة قد مضى عليها العهد الطويل منذ أن فارقوها وأن الدنيا قد تبدلت من حولهم فلم يعد لشيء مما يعرفونه وجود وأن كل ما يربطهم بجيلهم من قرابات ومعاملات ومشاعر وعادات وتقاليد.. كله قد انتهى"[5].
الموت وغاية القصة!
يرحم الله الفتية من هذه الصدمة العظيمة فيتوفاهم من جديد ليريحهم من هذا العناء، لكنه – سبحانه وتعالى – ما أحياهم من نومهم الطويل، وما جعل قومهم يعثرون عليهم إلا ليخبرهم أن البعث حق، وأن الحياة بعد الموت أمر لا شك فيه، وأنه كما أحيا هؤلاء الشباب المؤمن بعد ثلاثة قرون فهو قادر على إحيائنا جميعًا يوم القيامة وهو أمر يسير عليه سبحانه وتعالى، وهذا ما يؤكده قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا[6]}.
لقد كانت قصة هؤلاء الشباب التي خلّدها القرآن إلى يوم القيامة دليلاً على أن الإيمان غير مرتبط بعمر معين، وأن الشباب قادر على التغيير في كل زمان ومكان، بل قادر على الدفاع عن العقيدة الصافية، والإيمان بالله، حتى لو اضطره ذلك إلى الهرب والفرار بدينه، لقد كان هؤلاء الشباب سببًا في إيمان قومهم بالبعث الذي يبدو من الآيات أنهم لم يكونوا يؤمنون به، وجعلهم لنا ولكل الأجيال أسوة وقدوة على طريق الجنة.



[1] رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين حديث رقم (3392). وهو حديث صحيح الإسناد.
[2] (الكهف: 16- 18).
[3] (الحج: 38).
[4] (الكهف: 19، 20).
[5] سيد قطب: في ظلال القرآن بتصرف 4/2264.
[6] (الكهف: 21 – 22).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق