في هذا المقال نستكمل
حديثنا عن علاقة الأوقاف الإسلامية بمقاصد الشريعة الإسلامية، وخاصة مع أحد أهم
أنواع الوقف وهو الوقف الخيري أو الأهلي، ويُطلق الوقف الخيري على نوع مُعَيَّن من
الأوقاف المرصودة للخير والبِرِّ ابتداءً وانتهاءً، فخرج من ذلك أيُّ نوع لا
يتَّفق مقتضاه مع طبيعة هذا الوقف.
وقد عَرَّف الفقهاء
الوقف الخيري بأنه: حبس العين عن أن تُمَلَّك لأحد من الْعِبَادِ، والتصدُّق
بمنفعتها ابتداءً وانتهاءً على جهة بِرٍّ لا تنقطع[1]؛ فالوقف الخيري هو الوقف العامُّ الذي يحقُّ لأي فقير أو مسكين أو محتاج
أن ينتفع به؛ لأن ذلك هو غرض الواقف وإن لم يذكره صراحة في وقفيته.
والوقف الخيري يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمقاصد
الشريعة الإسلامية، وأوَّل ما يهتمُّ به هو حفظ الضروريات التي لا يمكن للإنسان أن
يعيش بدونها؛ وأوَّل هذه الضروريات وأهمُّها هي حفظ الدين؛ لذلك انتشر جدًّا في
العالم الإسلامي وقف المساجد، وتنافس الأمراء والوزراء ورجال الاقتصاد والثراء على
بناء المساجد في كل مدينة وقرية في أنحاء العالم الإسلامي، ووقفوا عليها أموالاً
كثيرة لعمارتها ورعايتها والاهتمام بخُدَّامها وأئمتها.
وأفرد الفقهاء أبوابًا واسعة في كتب الفقه
لدراسة وقف المساجد، ووَضْعِ الضوابط الكافية لحماية هذا الوقف شديد الأهمية، ودرس
الفقهاء بعض المسائل الدقيقة ليمنعوا أي تلاعب بهذا النوع من الأوقاف؛ فعلى سبيل
المثال اتفقت المذاهب الأربعة على أنه لا يجوز أن يكون المسجد جزءًا شائعًا، فلا
يصلح أن يكون مسجدًا وشيئًا آخر في نفس الوقت؛ لتعذُّر إقامة الصلاة في أجزائه
جميعًا، كما أنه لا يتوقَّف لزوم وقف المسجد تسليمه إلى الناظر؛ لأن مَنْ بنى
مسجدًا وأفرزه وجعله مستقلاًّ عن مِلكه، وأَذِن للناس بالصلاة فيه، فصلى فيه مصلٍّ
واحدٌ زال مِلْك الواقف، وكذا الإفراز؛ لأنه لا يخلص لله تعالى إلا به[2].
بل إننا وجدنا فقهاء المالكية مثلاً يقولون
بجواز بيع الوقف لتوسعة المسجد الجامع، ونجدهم يُعَلِّلُون ذلك بأن المصلحة
الشرعية المترتِّبَة على توسعة المسجد أرجح من مصلحة الوقف، وأكثرُ نفعًا منه؛
لأنها مصلحة حفظ الدين، وكذلك هي مصلحة تنفع عموم المسلمين، فقالوا: "لأن نفع
المسجد أكثر من نفع الوقف؛ فهو قريب لغرض الواقف"[3]. وغرض
الواقف هو إرضاء الله U بأكثر الطرق
نفعًا.
ويلحق بالمساجد من ناحية حفظ الدين ما قام به
بعض المسلمين من وقفٍ لإنشاء زوايا صغيرة مُخَصَّصَة لاعتكاف العُبَّاد فترات
طويلة[4].
ومن الأوقاف التي خُصِّصَتْ لحفظ الدين إلى
جانب حفظ العقل كان وقف المدارس، وفي هذه المدارس كانت تُدرَّس علوم القرآن وسائر
علوم الشريعة، كما كانت تدرس بقية علوم الحياة؛ كالطب والرياضيات والفلك
والجغرافيا، وغير ذلك.
ومن أشهر المدارس الوقفية التي رأيناها في
التاريخ الإسلامي هي المدارس النظامية، وسمِّيت بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها
وواقفها الوزير الشهير نظام الملك الطوسي، وهو من أعظم وزراء
السلاجقة، وقد ملأ بلاد العراق وخراسان بهذه المدارس، حتى في الأماكن النائية؛
فقد أنشا مثلاً في جزيرة ابن عمر[5] مدرسة
كبيرة حسنة[6]، وكان
كُلَّما وَجَدَ في بلدة عالمًا متميِّزًا بنى له مدرسة، ووقف عليها وقفًا، وجعل
فيها دار كتبٍ. وقد درَّس في مدارسه عظماءُ علماء المسلمين، وذلك فيما بين القرن
الخامس والتاسع الهجري، وبلغ عدد طلابها ستة آلاف تلميذ، وكُلُّهم يَتَعَلَّمُون
بالمجَّان، بل كان الطلاب الفقراء يتقاضَوْن راتبًا من ريع الوقف المُخَصَّص لهذه
المدارس[7].
وقد تنافس الأثرياء بعد ذلك في دمشق على وقف الأوقاف الكثيرة لرعاية هذه المدرسة
النورية الكبرى، وقد كُتِبَتْ هذه الوقفيات على أحد أبواب المدرسة؛ وكان منها:
جميع الحمَّام المستجد بسوق القمح، والحَمَّامَيْنِ
المستجدَّيْنِ بالورَّاقة خارج باب السلامة، والدار المجاورة
لهما، والوراقة بعونية الحمى، وجنينة الوزير، والنصف والربع من بستان الجوزة
بالأرزة، والأحد عشر حانوتًا خارج باب الجابية، والساحة الملاصقة
لهما من الشرق، والتسعة الحقول بداريا[8].
ومن المدارس الوقفية العظيمة كذلك ما أنشأه
الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي ~
في القدس، حيث أنشأ المدرسة
الصلاحية، ووقف عليها خيرًا
كثيرًا، وذلك في عام (588هـ/ 1192م). وقد اهتمَّت هذه المدرسة بتدريس العلوم
الشرعية واللغوية والتاريخية، إضافة إلى علوم الحساب والهندسة والفلك والاقتصاد،
مع اهتمامها بدراسة الفقه الشافعي، وتقع هذه المدرسة
عند باب الأسباط داخل أسوار البلدة القديمة من مدينة القدس الشريف[9].
وكانت كثير من هذه
المدارس تستضيف الطلاب في إقامة كاملة، بل وتعطيهم راتبًا دوريًّا، وهذا أشبه ما
يكون بالمنح التي تُقَدِّمُها الآن بعض الجامعات، ومن أظهر الأمثلة على ذلك الجامع
الأزهر بالقاهرة، فقد كانت تحيط به من جهاته المتعدِّدَة غرفٌ لسكن الطلاب تُسَمَّى
بالأروقة، يسكنها طلاب كل بلد بجانب واحد؛ فهناك رِوَاق للشاميين، ورواق للمغاربة،
ورواق للأتراك، ورواق للسودانيين، وهكذا، بل ما يزال طلاب الأزهر حتى يومنا هذا
يأخذون راتبًا شهريًّا مع دراستهم المجانية مع ريع الأوقاف التي أُوقِفَتْ على
طلاب العلم بالأزهر.
بل إن هناك مَنْ
أَوْقَفَ أوقافًا عجيبة للجامع الأزهر؛ لتضمن حُسْنَ سَيْرِ العملية التعليمية،
وتوفر أكبر قسط من الراحة للمدرسين؛ ومن هذه الأوقاف وقف البغلة! وهو وقف خُصِّصَ
للإنفاق على البغال التي يركبها المدرسون بالجامع الأزهر لضمان الراحة لهم[10]!
وهناك أوقاف أخرى
كثيرة كانت تَرْمِي كذلك إلى حفظ نعمة الدين والعقل إلى جوار المدارس؛ ومن أشهرها
أوقاف المكتبات.. وهذا ممَّا تفرَّدت به الحضارة الإسلامية؛ حيث أُوقِفَتِ الأموال
الضخمة لإنشاء مكتبات تَفْتَحُ أبوابها للعامَّة مجانًا، بل كان في بعضها غرف
لطعام رُوَّادها مَجَّانًا، وكذلك غرف لنوم الغرباء دون كلفة، ومن هذه المكتبات
على سبيل المثال مكتبة علي بن يحيى بن المنجم نديم الخليفة المتوكل، وكانت هذه المكتبة جزءًا من قصره العظيم في قرية قريبة من بغداد اسمها قرية كركر، وكان يُطْلَقُ على هذه المكتبة خزانة الحكمة، وكان الناس يقصدونها من كل
مكان فيُقِيمُون فيها ويَتَعَلَّمُون منها، والإنفاق عليهم مستمرٌّ دومًا من
الأوقاف التي أوقفها علي بن يحيى على رُوَّاد المكتبة[11].
بل هناك ما هو أطرف من
ذلك، ولم نشاهده حتى الآن في أي عاصمة عالمية، غربية كانت أو شرقية، وهو ما
شاهدناه في مدينة الموصل؛ حيث أنشا هناك الأديب أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان
الموصلي مكتبة سمَّاها دار العلم، وجعل
فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفًا على كل طالب علم، ولا يُمْنَعُ أحد أبدًا من
دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب العلم وكان مُعْسِرًا أَعْطَوْه وَرَقًا ووَرِقًا،
(أي كتبًا ونقودًا)[12]! فهل نسمع الآن عن مكتبة في أي مدينة من مدن العالم تُعطي لرُوَّادها
علمًا ومالاً في آن واحد؟!
وهناك من الأوقاف
الخيرية في تاريخنا ما أُوقِفَ لِحِفْظِ النفس، وحفظُ النفس من أهمِّ الضرورات
التي جاءت الشريعة الإسلامية لحفظها.
ومن أوضح الأمثلة على
الأوقاف التي تحفظ النفس أوقاف المستشفيات، وكانت تنتشر في كل مدن العالم
الإسلامي، وقد بلغت من السموِّ والرُّقِيِّ ما لا يمكن أن يتخيَّله أحد.
ومن المستشفيات
العظيمة التي أُوقِفَتْ لرعاية المرضى مَجَّانًا مستشفى أحمد بن طولون بالفسطاط بمصر، وذلك في عام (259هـ/ 872م)، ويُعتبر هذا المستشفى أوَّل وقف صحِّيٍّ في
مصر، وقد كان يضُمُّ مكتبة علميَّة، وخزانة للأدوية، وقد حوى حمَّامات خاصَّة
للرجال، وأخرى للنساء، فيجد المريض كل مُعِينٍ له على استرجاع عافيته؛ فقد كان
المريض يلبس ثيابًا جديدة تُقَدَّم من المستشفى، وتُقَدَّم له الأدوية والأغذية،
وكان أحمد بن طولون قد وقف وقوفات كثيرة على هذا المستشفى، ويُذكر أنه في كل يوم
جمعة كان يتفقَّد المرضى، ويطمئن على سلامتهم وراحتهم، كما يتفقَّد خزائن
البيمارستان للأدوية والعلاجات والملابس والأطعمة[13].
ومن المستشفيات
المشهورة في الإسلام المستشفى النوري الكبير الذي أنشأه نور الدين محمود الشهيد بدمشق عام (549هـ/ 1154م)، وقد وقفه على
الفقراء والمساكين فقط، ولا يأخذ منه الأغنياء شيئًا إلا عند الاضطرار لدواء غير
موجود، وكان من أحسن المستشفيات في الدنيا، وظلَّ يعمل حتى سنة (1317هـ/ 1899م)،
أي قرابة ثمانمائة سنة[14]!
ومثل هذا المستشفى كان
مستشفى آخر بحلب، عُرِفَ بالبيمارستان النوري بحلب، وقد أُوقِفَتْ عليه أوقاف كثيرة جدًّا[15].
ولا يتَّسِعُ المجال
هنا لوصف روعة المستشفيات التي أُوقِفَتْ في تاريخ الأُمَّة الإسلامية، فهي لم تكن
ظاهرة عابرة؛ إنما كانت أصلاً من أصول كل مدينة إسلامية.
ومن الأوقاف التي
اهتمَّت أيضًا بحفظ ضرورة النفس، وكذلك حفظ المال، ما قام به بعض الواقفين من بناء
بيوت خاصَّة للفقراء يسكنون فيها هم وعائلاتهم، ومنها كذلك بناء الخانات والفنادق
للمسافرين المنقطعين عن بلادهم[16].
ومن هذه الأوقاف أيضًا
ما كان مُخَصَّصًا لإطعام الفقراء، وهي عبارة عن مطاعم يُفَّرق فيها الخبر واللحم
والحلوى بشكل دَوْرِيٍّ على فقراء المنطقة؛ ومنها على سبيل المثال تكية السلطان
سليم بدمشق، وكذلك تكية الشيخ محيي الدين بنفس المدينة[17].
ومن الأوقاف التي
اهتمَّت بحفظ النفس كذلك حفر الآبار في الصحارى وطرق السفر، لسقي المسافرين
والماشية، وكانت كثيرة جدًّا في معظم الطرق بالعالم الإسلامي؛ ومن أشهرها ما قامت
به زبيدة زوجة هارون الرشيد في الطريق من العراق إلى مكة[18]، وكذلك الآبار الكثيرة المحفورة بين دمشق والمدينة.
ومن الأوقاف ما كان
يهدف إلى حفظ كل الضرورات الخمس، وهي الأوقاف التي خُصِّصَتْ للإنفاق على أمكنة
المرابطة على الثغور لمواجهة هجمات الأعداء، وكان يُقَامُ بِرِيعِ هذه الأوقاف
مُؤَسَّسَات يَجِدُ فيها المجاهدون السلاح والذخيرة والطعام والشراب، وكانت هناك
أوقاف خاصَّة بالخيول والسيوف والنبال، وغير ذلك من أدوات الجهاد[19].
ولم تَكْتَفِ الأوقاف
الإسلامية بالإنفاق لحفظ الضروريات فقط، بل كانت هناك الأوقاف الكثيرة لحفظ
الحاجيات والتحسينات كذلك؛ ممَّا يعكس صورة راقية جدًّا للمجتمع المسلم، ويعكس
كذلك رُوحًا طيبة، وحسًّا مرهفًا عند حُكَّام المسلمين وأثريائهم؛ ومن هذه الأوقاف
مثلاً ما جُعِلَ لإصلاح الطرقات والقناطر والجسور[20]، ومنها ما كانت لإنشاء مقبرة عامَّة لموتى المسلمين، وكذلك لشراء أكفان
للموتى الفقراء وتجهيزهم ودفنهم[21].
ومنها مؤسسات لتزويج الشباب والفتيات، ممَّنْ
تضيق أيديهم عن نفقات الزواج، ومنها مؤسسات لإمداد الأمهات بالحليب والسكر، وقد
جعل صلاح الدين الأيوبي وقفًا لإنشاء ميزاب يسيل منه
الحليب في أحد القلاع بدمشق، كما جعل ميزابًا آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، وتأتي الأمهات
إليه يومين في الأسبوع؛ ليأخذن منهما ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر، بل كانت
هناك مؤسسات أُوقِفَتْ لتحسين أحوال المساجين ورفع مستواهم، ورعاية صِحَّتهم
وعلاجهم، والاهتمام بغذائهم، ومع هذا السيل المتدفِّق من الرحمة لم يَنْسَ
المسلمون أن يُوقفوا أوقافًا لعلاج الحيوانات المريضة، أو لإطعامها، أو لرعايتها
عند عجزها؛ ومن أمثلة هذه الأوقاف المرج الأخضر في دمشق، والذي كان وقفًا للخيول والحيوانات العاجزة المُسِنَّة ترعى منه حتى
موتها[22]!
وجدير بالذكر أنه حتى
في زمن الضعف السياسي والعسكري للدولة الإسلامية ما تأثَّرَتْ حركة الوقف والعطاء،
بل رأينا الأمراء والأثرياء يستمرُّون في هذا الجانب بشكل رائع؛ وذلك لخدمة مقاصد
الشريعة الإسلامية، ومن أبرز الأمثلة اللافتة للنظر الوقف الخاصُّ بالمدرسة
المستنصرية في بغداد، فقد بُنِيَتْ في سنة (631هـ/ 1233م)، وكان التتار في ذلك الوقت يجتاحون
شرق العالم الإسلامي، ويهدِّدُون الخلافة العباسية تهديدًا مباشرًا، وقد وصلت
الخلافة العباسية إلى أضعف درجاتها، ومع ذلك تمَّ إنشاء هذا الوقف الباهر[23].
نُشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث
[1] انظر: السرخسي: المبسوط 12/47.
[2] انظر: ابن عابدين: حاشية رد المحتار على الدر
المختار 4/343.
[3] أحمد بن غنيم النفراوي: الفواكه الدواني 2/165.
[4] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص97.
[6] أبو شامة: الروضتين في أخبار الدولتين 1/26.
[7] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص104.
[8] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص105.
[9] عارف العارف: المفصل في تاريخ القدس 1/236.
[13] خلقي خنفر: تاريخ الطب في الإسلام ص54، 55.
[14] أبو شامة
المقدسي: الروضتين في تاريخ الدولة النورية 1/9.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق