من اللافت أن كل من
يريد معرفة أهم المعارك الحربية التي خاضها المسلمون في هذا الشهر الكريم، لا تقع
عيناه إلا على المعارك الشهيرة كموقعة بدر الكبرى وفتح مكة وعين جالوت والعاشر من
رمضان وغيرها الكثير، لكن هناك من المعارك الرمضانية المنسية التي لم نقرأ عنها
إلا قليلا، لعل منها هذه المعارك الثلاثة القادمة.
استكمال فتح
السند رمضان 92هـ
في 6 رمضان سنة 92هـ استكمل محمد بن القاسم
الثقفي انتصاره على جيوش الهند عند نهر السند وتم فتح بلاد السند، وكان ابتداء ذلك
عندما كتب الحجاج بن يوسف والي العراق وقتذاك رسالة إلى الخليفة الوليد بن عبد
الملك يطلب فيها الإذن بغزو السند والهند، وأرسل الحجاج عبد الله بن نبهان السلمي
لفتح الديبل (في جنوب باكستان حاليا) فاستشهد، ثم أرسل بديل بن طهفة البجلي بثلاثة
آلاف فاستشهد، فحـزن الحجـاج حتى قال لمؤذنه: يا مؤذن اذكر اسم بديل كلما أقمت
الأذان، لأتذكره وآخذ بثأره[1].
ثم عين الحجاج محمد بن القاسم الثقفي الذي كان
عمره آنذاك سبعة عشر عاماً، فتحرك إلى مدينة شـيراز فعسكر بها، وبعد استكمال
الاستعدادات في شيراز انطلق محمد بن القاسم ومعه اثنا عشر ألف مقاتل إلى الشرق حتى
وصل "مكران"، ثم توجـه منها إلى "فنزبور"، ثم إلى "أرمائيـل"،
ثم هجم المسلمون علي مدينة الديبل فاقتحموا أسوارها فدخلها ابن القاسم، ثم توجه إلى
فتح "نيرون" وموقعها الآن (حيدرآباد) وعبر مياه السند في ستة أيام، ثم
سار إلى حصن "سيوستان" المدينة المحصنة المرتفعة، فهرب حاكمها وفتحت
المدينة أبوابها. ثم سار ابن القاسم نحو حصن "سيويس" وفتحه، ثم عاد إلى
نيرون، واتخذ قراره بعبـور نهر مهران للقاء داهر ملك السند، وبعد عبور الجيش سار
ابن القاسم إلى منطقة "جيور"، ونزل بجيشه على مقربة من نهر ددهاواه،
والتحم الجيشان في معركة استمرت 7 أيام استخدمت فيها الفيلة، وكان عددها ستين
فيلاً وكان داهر على أكبرها، وقد عملت في المسلمين الأفاعيل[2].
ولكن الله نصر المسلمين.
تتبع المسلمون فلول جيش داهر المقتول حتى حصن
راؤر ففتحوه، ثم فتح ابن القاسم مدينة "دهليله"، ثم توجه إلى "برهمن
اباذ" ففتحها، ثم واصل محمد بن القاسم جهاده ففتح العديد من المدن بعضها
صلحاً وبعضها عنوة، وكان أهمها مدينة ملتان - وهي أعظم مدن السند الأعلى وأقوى
حصونه - فامتنعت عليهم شهوراً، إلى أن اقتحم المسلمون الأسوار من بعدها وفتحوا
الملتان، واستمر ابن القاسم في مسيره حتى وصلت فتوحاته الى حدود كشمير، واستطاع أن
يخضع السند لحكم الخلافة الإسلامية في مدة لم تتجاوز ثلاث سنين فقط[3].
معركة شذونة رمضان
عام 96هـ
في التاسع والعشرين من
شهر رمضان عام 92هـ، وقعت معركة شذونة جنوب الأندلس على نهر لكة، بين المسلمين
بقيادة طارق بن زياد، وبين لُذْريق قائد القوط.
وقد اتصلت الحرب بين
الجانبين ثمانية أيام استشهد فيها ثلاثة آلاف من المسلمين ولكن الهزيمة دارت على
لذريق وجيشه، وقيل إن لذريق غرق وقتل كثير من جيشه.
وفي بدء المعركة وجه
لذريق أحد قادته من أصحابه قد عرف نجدته، ووثق ببأسه ليشرف على عسكر طارق ليعرف
عددهم، ويعاين هيئاتهم ومراكبهم، "فأقبل ذلك العلج حتى طلع على العسكر ثم شد
في وجوه من استشرفه من المسلمين، فوثبوا إليه فولى منصرفا راكضا وفاتهم بسبق فرسه،
فقال العلج للذريق: أتتك الصور التي كشف لك عنها التابوت، فخذ على نفسك فقد جاءك
منهم من لا يريد إلا الموت أو إصابة ما تحت قدميك، قد حرقوا مراكبهم إياسا لأنفسهم
من التعلق بها، وصفوا في السهل موطنين أنفسهم على الثبات؛ إذ ليس لهم في أرضنا
مكان مهرب. فرعب وتضاعف جزعه، والتقى العسكران بالبحيرة واقتتلوا قتالا شديدا إلى
أن انهزمت ميمنة لذريق وميسرته"[4].
وقد اعتبرت هذه
المعركة من المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام، حيث مهدت للفتح الإسلامي للأندلس،
ولذلك قال ابن الأثير عقب هذه المعركة: "وسار طارق إلى مدينة إستجة متبعاً
لهم (لفلول المنهزمين في معركة شذونة) فلقيه أهلها ومعهم من المنهزمين خلق كثير،
فقاتلوه قتالاً شديداً، ثم انهزم أهل الأندلس ولم يلق المسلمون بعدها حرباً
مثلها"[5]،
وتعليق ابن الأثير بأن المسلمين لم يلقوا حربًا مثلها دليل على اعتبار هذه المعركة
خطًا فاصلا لمسيرة الفتوح الإسلامية في الأندلس.
فتح أنطاكية رمضان
عام 666هـ
كانت الفترة التي تلت رحيل لويس التاسع عقب
أسره في مصر إلى أن تولى بيبرس سلطنة مصر والشام أي ما بين عام 650هـ إلى عام
660هـ تقريبًا فترة هدوء ومسالمة بين الصليبيين والمسلمين لانشغال كل منهما بأموره
الداخلية، على أن هذه السياسة المسالمة تحولت إلى ثورة وشدة من قبل المماليك بعد
أن أخذ الصليبيون يتعاونون مع المغول ضد المماليك.
وقد كان لزامًا على المماليك أن يدفعوا هذا
الخطر الداهم، وبدأت عمليات بيبرس العسكرية ضد الصليبيين في سنة 663هـ، فتوجه في
(4 من ربيع الآخر 663هـ) إلى الشام، فهاجم "قيسارية" وفتحها عنوة في (8
من جمادى الأولى)، ثم عرج إلى أرسوف، ففتحها في شهر رجب من السنة نفسها، وفي السنة
التالية استكمل بيبرس ما بدأ، ففتح قلعة "صفد"، وكانت معقلاً من معاقل
الصليبيين، وكان بيبرس يقود جيشه بنفسه، ويقوم ببعض الأعمال مع الجنود إثارة
لحميتهم فيجر معهم الأخشاب مع البقر لبناء المجانيق اللازمة للحصار. وأصاب سقوط
صفد الصليبيين بخيبة أمل، وحطم معنوياتهم؛ فسارعت بعض الإمارات الصليبية إلى طلب
الصلح وعقد الهدنة[6].
ثم تطلع بيبرس إلى الاستيلاء على إنطاكية التي
تحتل مكانة خاصة لدى الصليبيين لمناعة حصونها، وتحكمها في الطرق الواقعة في
المناطق الشمالية للشام، وكان بيبرس قد استعد لهذه الموقعة الحاسمة خير استعداد،
ومهد لسقوط الإمارة الصليبية بحملاته السابقة حتى جعل من إنطاكية مدينة معزولة،
مغلولة اليد، محرومة من كل مساعدة ممكنة، فخرج من مصر في 3 من جمادى الآخرة 666هـ
ووصل إلى غزة، ومنها إلى "يافا" فاستسلمت له، ثم نجح في الاستيلاء على
"شقيف أرنون" بعد حصار بدأه في 19 من رجب 666هـ ، وبفتح يافا وشقيف، لم
يبق للصليبيين جنوبي عكا التي كانت بأيديهم سوى قلعة عتليت.
ثم رحل بيبرس إلى طرابلس، فوصلها في 15 من
شعبان 666هـ فأغار عليها وقتل كثيرًا من حاميتها، وقطع أشجارها وغور مياهها، ففزعت
الإمارات الصليبية، وتوافد على بيبرس أمراء أنطرسوس وحصن الأكراد طلبًا للأمن
والسلام، وبهذا مهد الطريق للتقدم نحو إنطاكية.
ومن ثم رحل بيبرس من طرابلس في 24 من شعبان
666هـ دون أن يطلع أحدًا من قادته على وجهته، واتجه إلى حمص، ومنها إلى حماة،
وهناك قسّم جيشه ثلاثة أقسام، حتى لا يتمكن الصليبيون من معرفة اتجاهه وهدفه،
فاتجهت إحدى الفرق الثلاث إلى ميناء السويدية لتقطع الصلة بين إنطاكية والبحر،
وتوجهت الفرقة الثانية إلى الشمال لسد الممرات بين قلقلية والشام لمنع وصول إمدادات
من أرمينية الصغرى[7].
أما القوة الرئيسية وكانت بقيادة بيبرس فاتجهت
إلى إنطاكية مباشرة، وضرب حولها حصارًا محكمًا في (أول رمضان سنة 666هـ)، وحاول
بيبرس أن يفتح المدينة سلمًا، لكن محاولاته تكسرت أمام رفض الصليبيين التسليم، فشن
بيبرس هجومه الضاري على المدينة، وتمكن المسلمون من تسلق الأسوار في (الرابع من
رمضان)، وتدفقت قوات المسلمين إلى المدينة دون مقاومة، وفرت حاميتها إلى القلعة،
وطلبوا من السلطان الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وتسلم المسلمون القلعة وأسروا من فيها.
وقد غنم المسلمون غنائم كثيرة، بلغ من كثرتها
أن قسمت النقود بالطاسات، وبلغ من كثرة الأسرى "أنه لم يبق غلام إلا وله
غلام، وبيع الصغير من الصليبيين باثني عشر درهمًا، والجارية بخمسة دراهم"[8].
فكان سقوطها معلما
خطيرا على طريق نهاية الصليبين بالشام لأنها كانت بحكم موقعها الجغرافي سندا لهم
منذ بداية الحروب الصليبية قبل قرنين تقريبًا.
نُشر في مجلة المجتمع الكويتية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق