من اللافت أن نصيحة
النبي صلى الله عليه وسلم الخالدة لكل شاب لا يجد مقدرة على تكاليف الزواج قد
تمثلت في الصوم، فالصوم ليس مجرد أداة للجوع والعطش، بقدر ما هو أداة لضبط جوارح
الإنسان المادية والنفسية، ولما كان الشباب أكثر الناس طاقة وحيوية وقدرة ونشاطًا؛
فقد تناسبت أداة الصوم معهم لكبح جماح النفس؛ خاصة إذا كانت طاقة سلبية يمكن أن
تُصرف في غير محلها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من
استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه
بالصوم فإنه له وِجاء"[1].
والوجاء هو الوقاية من كل سوء.
هذا بصفة عامة؛ لكن
بصفة متعلقة بشهر رمضان الكريم فهو شهر الخيرات والبركات لكل الناس؛ فكما أن الله
جعله من رحماته بهذه الأمة، أو نفحاته الطيبة كي يختبرنا فمنا من يسعد به وفيه
ومنا من يشقى، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ
رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ مَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ
النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجِنَّانِ فَلَمْ
يُغْلَقُ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا
بَاغِىَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ"[2].
فإنه قد جعله اختبارًا عظيمًا للشباب خاصة.
إن الحق الذي لا شك فيه أن فئة الشباب من أهم
فئات المجتمع، بل وأقدرها على اجتياز اختبار شهر رمضان الكريم من الناحية البدنية
والإيمانية على السواء، ولذلك جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رتبة المباهاة
بين الزهد في الدنيا وبين الصوم الشباب فقال: "إن الله تعالى يباهي
ملائكته بالشاب العابد فيقول أيها الشاب التارك شهوته لأجلي المبذل شبابه لي أنت
عندي كبعض ملائكتي"[3].
ولكن في المقابل فإن
العقاب وخيم لمن يُهون أو يهمل من شأن هذا الشهر من الشباب خاصة، فقد "رُوِيَ
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: "إِذا كَانَ يَوْم
الْقِيَامَة بَيْنَمَا أَنا وَاقِف عِنْد الْمِيزَان فَيُؤتى بشاب من أمتِي
وَالْمَلَائِكَة يضربونه وَجها ودبرا فَيتَعَلَّق بِي وَيَقُول: يَا مُحَمَّد
المستغاث المستغاث بك. فَأَقُول: يَا مَلَائِكَة رَبِّي مَا ذَنبه فَيَقُولُونَ
أدْرك شهر رَمَضَان فعصى الله فِيهِ وَلم يتب فَأَخذه الله فَجْأَة فَأَقُول هَل
قَرَأت الْقُرْآن فَيَقُول تعلمته ونسيته فَأَقُول بئس الشَّاب أَنْت فَلَا هُوَ
يتركني وَلَا الْمَلَائِكَة يتركونه ثمَّ أشفع لَهُ من الله تَعَالَى فَأَقُول
إلهي شَاب من أمتِي فَيَقُول الله تَعَالَى إِن لَهُ خصما قَوِيا يَا أَحْمد
فَأَقُول وَمن خَصمه يَا رب حَتَّى أرضيه فَيَقُول الله تَعَالَى خَصمه شهر
رَمَضَان فَأَقُول أَنا بَرِيء مِمَّن خَصمه شهر رَمَضَان وَمن يشفع لمن لم يعرف
حُرْمَة رَمَضَان فَيَقُول الله تَعَالَى وَأَنا بَرِيء مِمَّن أَنْت بَرِيء
مِنْهُ فَينْطَلق بِهِ إِلَى النَّار"[4].
وما ذلك إلا لأن العذر
البدني والنفسي يكاد يكون معدومًا للشاب قوي البدن القادر على الصوم، إذن كان
العقاب على قدر الجريمة الشنيعة وهي ترك الشاب للصوم دون عذر.
لكن كيف كان بعض شباب
السلف الصالح في هذا الشهر الفضيل؟ وهل كان مدعاة للتوبة والعتق من النيران
والإقبال على الله؟ تعالوا نعرف قصة هذا الشاب..
رمضان فرصة
للتوبة
يُحكى أنه كان
بالمدينة المنورة امرأة متعبدة ولها ولد يلهو وهو ملهي أهل المدينة وكانت تعظه
وتقول: يا بني! اذكر مصارع الغافلين قبلك وعواقب البطالين قبلك اذكر نزول الموت
فيقول إذا ألحت عليه:
كُفي عن التعذال
واللوم ... واستيقظي من سُنة النوم
إني وإن تابعت في لذتي
... قلبي وعاصيتك في لومي
أرجو من أفضاله توبة
... تنقل من قوم إلى قوم
فلم يزل كذلك حتى قدم
أبو عامر البناني واعظ أهل الحجاز ووافق قدومه رمضان فسأله إخوانه أن يجلس لهم في
مسجد رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فأجابهم.
وجلس ليلة الجمعة بعد
انقضاء التراويح واجتمع الناس وجاء الفتى فجلس مع القوم فلم يزل أبو عامر يعظ وينذر
ويبشر إلى أن ماتت القلوب فرقا واشتاقت النفوس إلى الجنة فوقعت الموعظة في قلب
الغلام فتغير لونه ثم نهض إلى أمه فبكى عندها طويلا .. ثم شمر في العبادة وجدّ
وكان لا يفطر إلا بعد التراويح ولا ينام إلا بعد طلوع الشمس.
فقرّبت إليه أمه ليلة
إفطاره فامتنع وقال: أجد ألم الحمى فأظن أن الأجل قد أزف ثم فزع إلى محرابه ولسانه
لا يفتر من الذكر فبقي أربعة أيام على تلك الحال.
ثم استقبل القبلة يوما
وقال: إلهي عصيتك قويا وأطعتك ضعيفا وأسخطتك جلدا وخدمتك نحيفا فليت شعري هل
قبلتني؟ ثم سقط مغشيا عليه فانشج وجهه.
فقامت إليه أمه فقالت:
يا ثمرة فؤادي وقرة عيني رد جوابي.
فأفاق فقال: يا أماه!
هذا اليوم الذي كنت تحذريني وهذا الوقت الذي كنت تخوفيني فيا أسفي على الأيام
الخوالي يا أماه! إني خائف على نفسي أن يطول في النار حبسي بالله عليك يا أماه
قومى فضعي رجلك على خدي حتى أذوق طعم الذل لعله يرحمني ففعلت وهو يقول: هذا جزاء
من أساء ثم مات رحمه الله.
قالت أمه: فرأيته في
المنام ليلة الجمعة وكأنه القمر فقلت: يا ولدي! ما فعل الله بك؟ فقال: خيرا رفع
درجتي"[5].
كيف كان
العلماء في شبابهم مع رمضان؟
هناك العديد من
الحوادث والعلامات الفارقة مع كبار علماء الأمة مع هذا الشهر الكريم، في ذكرها
فائدة كبيرة لشباب اليوم لعلهم يكونوا على دربهم سائرين.
لقد كان الإمام النووي
رحمه الله (ت676هـ) غلاماً صغيراً فاستيقظ في الليلة السابعة والعشرين من رمضان في
وسط الليل، وجعل ينادي من في البيت ويقول: ما هذا النور الذي أراه قد ملأ الدار،
ففطن أبوه لمقام ولده، فأولاه اهتماماً وعناية خاصة، حتى صار هذا الإمام الجليل
رحمه الله تعالى.
أما شيخ الإسلام ابن
حجر العسقلاني المولود عام 773هـ الذي سافر إلى الشام والحجاز وهو لا يزال شابًا
صغيرا لطلب العلم، وقد تحصل على علوم كثيرة وهو لا يزال فتى صغيرًا، فقد كان يُصلي
بالناس التراويح في الحرم الشريف بمكة المكرمة، في عام 785هـ، أي وهو فتًى في
الثانية عشرة من عمره[6]!!
شباب مجاهدون!
لكن الأعظم من هذا
أننا نجد شباباً لما يتجاوزوا الخمسة عشر عامًا يشتركون مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى وكانت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، بل
ونراهم يحققون نصرًا عظيمًا للجيش الإسلامي بقتلهم لأكابر الأعداء من الكفار.
فقد قال عبد الرحمن بن
عوف: "إني لفي الصف يوم بدر إذ التفتُّ فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا
السن فكأني لم آمن بمكانهما إذ قال لي أحدهما سرّا من صاحبه: يا عم أرني أبا جهل
فقلت يا ابن أخي وما تصنع به؟ قال عاهدتُ الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه.
فقال لي الآخر سِرّا من صاحبه مثله. قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما فأشرت
لهما إليه فشدّا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه وهما ابنا عفراء"[7].
لقد كان هذان الشابان
هما معاذ ومعوذ ابني الحارث رضي الله عنهما، ولقد مكن الله لهما أن يقتلا أبا جهل
عدو الإسلام الأكبر، ولذلك كان هذا الشهر الفضيل وسيظل دفعة مهمة لكل المسلمين
وخاصة الشباب منهم كي يقدموا النماذج الباهرة على كل مستويات حياتهم سواء بالتقرب
إلى الله والتوبة إليه، أو التفوق الدراسي والعلمي أو كل ما من شأنه رفعتهم في
دينهم ودنياهم.
نُشر في مجلة الوعي الشبابي
[1] صحيح البخاري: كتاب النكاح، باب قول النبي صلى
الله عليه و سلم ( من استطاع منكم الباءة فليتزوج (4778).
[2] سنن البيهقي الكبرى 4/303 ح (8284).
[3] حديث إن الله تعالى يباهي ملائكته
بالشاب العابد فيقول أيها الشاب التارك شهوته الحديث أخرجه ابن عدي من حديث ابن
مسعود بسند ضعيف
[6] ابن حجر: الدرر الكامنة 1/288.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق