تذخر مؤلفات السيرة
والسنة النبوية الصحيحة بأحاديث ومواقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه في
شهر رمضان الكريم، هذه الأحاديث غالبًا ما تُجمع في كتب أي أبواب خاصة ليسهل
للقارئ العودة إليها، ويتعرف بشيء من التفصيل والإسهاب كيف كان شأن نبينا صلى الله
عليه وسلم في رمضان، وكيف وضع لنا الأسوة لنتأسى، والقدوة لنقتدي به في هذا الشهر
المبارك.
منها كتاب الصوم .. إن
الصيام – في مغزاه – ليس مجرد فرض فُرض علينا، بل هو ركن من أركان الإسلام التي
يُعرف هذا الدين بها عن غيره، ومن ثم فإن أداء هذه الفريضة على الشكل اللائق بها
ليس مجرد ترف على مستوى الفاعلين أو المكلفين من المسلمين، وإنما هو استشعار عظيم
لمعنى الانصياع والاتباع والاهتداء بما أمرنا الله به.
في استقبال
رمضان
ثمة أحاديث نبوية شريفة تناولت شهر رمضان من
أوله إلى آخره، منها في إطار حديثنا عن استقبال رمضان - ما يتعلق به، وبيان
أهميته، وضرورة الانضباط بضوابط محددة كي يُقبل الصيام، ويثبت الأجر.
من هذه الأحاديث النبوية الكريمة ما رواه
أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "الصيام
جنة فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم - مرتين - والذي
نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك يترك طعامه وشرابه
وشهوته من أجلي الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها"[1].
وقد علق العلامة النووي رحمه الله على هذا
الحديث بقوله: "سبب إضافته (أي الصيام) إلى الله تعالى أنه لم يعبد أحد غير
الله تعالى به، فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا
يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك. وقيل لأن الصوم بعيد من
الرياء لخفائه بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة، وقيل
لأنه ليس للصائم ونفسه فيه حظ، وقيل إن الاستغناء عن الطعام من صفات الله تعالى
فتقرب الصائم بما يتعلق بهذه الصفة وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء.."[2].
ولتشجيع الناس على
الإقبال على هذه الطاعة بكل جوارحهم، بالترغيب وإبراز حجم المكافأة الكبيرة ما
رواه كذلك أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله :"إذا كان أول ليلة من
شهر رمضان , صُفِّدت الشياطين ومردة الجن , وغُلِّقت أبواب النار , فلم يُفتح منها
باب , وفُتحت أبواب الجنة , فلم يغلق منها باب , وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل
, ويا باغي الشر أقصر , ولله عتقاء من النار , وذلك كل ليلة "[3].
وقد نقل المباركفوري
عن السندي تعليقه على هذا الحديث الشريف بقوله: "إن قلت أيّ فائدة في هذا
النداء مع أنه غير مسموع للناس؟ قلت: قد علم الناس به بإخبار الصادق وبه يحصل
المطلوب بأن يتذكر الإنسان كل ليلة بأنها ليلة المناداة فيتعظ بها (يا باغي الخير)
أي طالب الخير (أقبل) أي على فعل الخير فإنك تُعطي جزيلاً بعمل قليل، وذلك لشرف
الشهر"[4].
إن خير الهدي هدي محمد
صلى الله عليه وسلم، ومن هديه في هذا الموضع المبادرة إلى تذكير الناس ببركات هذا
الموسم العظيم, فقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه في أول ليلة من رمضان :"أتاكم
رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم فيه صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب
الجحيم، وتُغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد
حرم"[5].
كالريح المرسلة!
قال ابن عباس رضي الله
عنهما: "كان النبي صلى الله عليه و سلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون
في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى
ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه و سلم القرآن فإذا لقيه جبريل عليه السلام
كان أجود بالخير من الريح المرسلة"[6].
ومقالة ابن عباس رضي
الله عنهما إنما تكشف لنا بجوار المشهور والمتواتر من كرم رسول الله صلى الله عليه
وسلم في هذا الشهر الذي وصفه بالريح المرسلة لكثرته ووفوره واستمراره، رغم ما
نعلمه عن فقر رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياته، إنما تكشف لنا عن بُعد آخر
هو ارتباط هذا الشهر العظيم بالسماء، ارتباطه بالإله الذي أمر جبريل عليه السلام
بالنزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوميًا في هذا الشهر الفضيل لمعارضة
القرآن ومراجعته، وهذه السنة التي نفهم منها أهمية الإكثار من قراءة كتاب الله
العظيم هذه السنة التي ارتبطت فيها السماء والأرض بموقف لم نسمع ولم نقرأ عنه من
قبل إنما تعطي لنا ملمحًا جديدًا يتلخص في الكرم الإلهي العميم، ورحماته الواسعة
تلك التي رآها نبينا صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل والذي جعله وهو الفقير –
صلوات ربي وسلامه عليه – مضرب المثل في البذل والتصدق حتى كأنه الريح المرسلة!
نُشر في مجلة المجتمع الكويتية
شكرا على الموضوعااات
ردحذف