في هذا المقال الأخير من سلسلة مقالات "الوقف الإسلامي وعلاقته بمقاصد
الشريعة الإسلامية" نتوقف مع وقفين لم يكونا منتشرين كانتشار الوقف الخيري أو
الأهلي، وهما الوقف الذُّري أي ما يتعلق بالذرية ووقف الإرصاد وهو ما يتعلق بالحكومات،
لنرى عن قريب إلى أي مدى ساهمت الإسلام في استقلالية المجتمع الإسلامي ورفعته حتى
لو كان ذلك في أوقات الضر والجدب، ولعل منظومة الأوقاف كلية تُبين إلى أي مدى ساهم
الإسلام في محاربة مركزية الحاكم فيما يتعلق ببعض الجوانب المهمة بالمجتمع المسلم.
الوقف الذُّري وعلاقته بالمقاصد
وهو الوقف الذي يُوقَفُ على نفس الواقف أو أشخاص مُعَيَّنِينَ، ولو جُعِلَ
آخِرُه جهة خيرية؛ كأن يقف على نفسه، ثم على أولاده، ثم من بعدهم على جهة خيرية[1].
ويُلاحظ أن الفرق بين الوقف الخيري والوقف الذُّرِّيّ هو الجهة التي يتمُّ
الوقف عليها، فإن كانت هذه الجهة عامَّة كان الوقف خيريًّا، وإن كانت جهة الوقف
خاصَّة بالواقف أو بأهله أو أقاربه كان ذُريًّا أو أهليًّا، والوقف الذُّري يخدم
ضرورة مهمة هي ضرورة حفظ النسل عن طريق وقف مُدرٍّ لذرية الواقف، فمن خلاله يمكنهم
الاستفادة به بطنًا بعد بطن دون خوف من تقلبات المعيشة، وما يطرأ عليها من مصاعب
من زمن لآخر.
والأدلَّة على مشروعيته من القرآن الكريم، قوله تعالى: } إِلاَّ أَنْ
تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا[2]{، وقوله تعالى: } لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[3]{، ومن السُّنَّة ما ورد عن طريق
أُمِّ المؤمنين عائشة < أنها قالت: "إن رسول الله r جَعَلَ سَبْعَ حِيطَانٍ لَهُ بِالْمَدِينَةِ صَدَقَةً عَلَى بَنِي
الْمُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمٍ"[4].
ولقد جاءت كتب الفقه بعشرات الأمثلة على الوقف الذُّرِّيّ، لكن المُلاحَظ
في هذه الأمثلة ارتباطها بالوقف الخيري، إذ لم يُفَرِّق المسلمون قديمًا بين الوقف
الخيري والوقف الذُّرِّيّ، بل عدُّوا كلاًّ منهما أمرًا واحدًا؛ لأن الغاية منهما
واحدة وهي القربة وابتغاء مرضاة الله.
ومن الأمثلة الجائزة للوقف الذُّرِّيّ أن يقف الإنسان على ذُرِّيَّتِه
جميعها، دون تفريق بين الذكور والإناث، سواء كان الاستحقاق بالتساوي، أو كان تبعًا
لقواعد الميراث الشرعية؛ والتي للذَّكَر مثل حظِّ الأنثيين فيها.
وقد اهتمَّ الفقهاء بالوقف الذُّري، ومراعاة لجانب المصلحة الشرعية العائدة
على الموقوف عليهم - وهم ورثته - اعْتَبَرَ الفقهاءُ أن مَنْ وقف شيئًا مضارَّة
لوارثه كان وقفه باطلاً؛ لأن ذلك ممَّا لم يَأْذَن به الله تعالى، وقد نهى الله
تعالى عن الضرار في كتابه العزيز عمومًا وخصوصًا، ونهى عنه رسول الله r عمومًا، فقال: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ"[5]. ونهى خصوصًا كما في ضرار الجار، وضرار الوصية ونحوهما. والحاصل أن
الأوقاف التي يُرَاد بها قطع ما أمر الله به أن يُوصَل، ومخالفة فرائض الله U
باطلة من أصلها لا تنعقد بحال من الأحوال، وذلك كمن يقف على ذكورهم دون إناثهم،
وما أشبه ذلك؛ فإن هذا لم يُرِدِ التقرُّب إلى الله تعالى، بل أراد المخالفة
لأحكام الله U، والمعاندة لما شرعه لعباده، وجعل هذا الوقف ذريعة
إلى ذلك القصد الشيطاني، وهكذا وَقْفُ مَنْ لا يحمله على الوقف إلاَّ محبَّة بقاء
المال في ذُرِّيَّته، وعدم خروجه عن أملاكهم، فيقفه على ذُرِّيَّتِه، فإن هذا
إنَّمَا أراد المخالفة لحكم الله تعالى، وهو انتقال المِلْك بالميراث، وتفويض
الوارث في ميراثه، يتصرَّف فيه كيف يشاء، وليس أَمْرُ غِنَى الورثة أو فقرهم إلى
هذا الوقف، بل هو إلى الله I[6].
لذلك نصح فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة ~ القضاة بتوخِّي الحذر والكشف عن ما يحيط بالوقف عند إنشائه، وما تُومِئُ
إليه عبارات الوقف، فقال: "والقاضي الحصيف يَتَبَيَّن المقصد بدراسة الأحوال،
وصِيَغِ الأوقاف؛ إذ المضارَّة أمر معروف له شواهد وبيِّنَات". وجاء بمثال
قُصد به ضرر الورثة ضررًا ظاهرًا؛ حيث قال الواقف في وقفيته: "إن ما كان
موجودًا أو يوجد للواقف من أقاربه؛ عصبة كانوا أو ذوي رحم، لقرابة بعيدة أو قريبة،
ذكورًا كانوا أو إناثًا، فإنهم لا دخل لهم في الوقف، لا بنظر، ولا بتحدث، ولا
باستحقاق، ولا بوظيفة، ولا بأجرة، ولا بقبض ولا صرف، ولا بأخذ ولا عطاء، ولا بغير
ذلك من الوجوه مطلقًا، ولو آل الوقف لأي جهة فإنهم ممنوعون مقطوعون عن ذلك، أبعدهم
وأكّد منعهم عن ذلك جميعه، هم وذريتهم ونسلهم وعقبهم، ومَنْ ينتسب إليهم بأي طريقة
منعًا عموميًّا أبديًّا. اللهم إني أسألك بعظمة جلالك وقوتك، وجلال عظمتك،
وبأسمائك كلها أن كل مَنْ سعى وأعان على إبطال هذا الشرط أن تُنْزِلَ به البأس
الشديد في الدنيا والآخرة، وأن تسربله بالخزي والخسران، وأن تحشره مع أهل البغي
والطغيان، والأخسرين أعمالاً، إنه سميع مجيب"[7].
والوقفية السابقة تدلُّ بوضوح على أن مقصد الواقف إبعادُ ورثته وقرابته من
حقِّهم المشروع في التركة، ومن ثَمَّ قال الفقهاء ببطلان شرط الواقف السابق؛ لأنه
يفوِّت على الذُّرِّيَّة استحقاقهم الشرعي، وهذا إفساد لضرورة حفظ المال التي جاءت
الشريعة الإسلامية لصيانته وإعطائه لمستحقِّيه، وأمَّا إذا طُبَّق الشرط السابق،
فإن ذلك سيتسبَّب في جلب مفسدة مُحَقَّقَة للورثة، ولعلَّ أحدهم كان فقيرًا فيكون
منعه من حقِّه في التركة سببًا في سوء وضعه، وزيادة فقره وبؤسه، وهو ما يتنافى مع
مقصد الشارع، والمصلحة العائدة على المستحقِّينَ.
ونظرًا لإعمال الفقهاء المصلحة في الوقف الذُّرِّيّ، فقد أفتى كثير منهم
بالفتاوى التي تضبط الوقف الذُّرِّيّ بمقاصد الشريعة، منها: أن القاضي عياضًا سأل أبا الوليد بن رشد، قائلاً: "عقدٌ تضمَّن تحبيس فلان على ابنيه فلان وفلان لجميع الرّحا[8] الكِراء[9] بالسويَّة بينهما ولاعتدال[10] حبسها عليهما وعلى عقبهما حبسًا مؤبَّدًا، وتمَّم عقد التحبيس على واجبه
وحوزه، ومات الأب والابنان بعده وتركا عقِبًا كثيرًا، وعقب أحدهما أكثر من عقب
الآخر، وفي بعضهم حاجة فكيف ترى قسمة هذا الحبس بين هؤلاء الأعقاب؟ هل على الحاجة
أم على السويَّة أم يبقى في يد كل عقب ما كان بيد أبيه؟ فأجاب: الواجب في هذا
الحبس إذا كان الأمر فيه على ما وصفتَ، أن يُقسَّم على أولاد العقبين جميعًا على
عددهم، وإن كان عقب الولد الواحد أكثر من عقب الآخر بالسواء، إن استوت حاجتهم، وإن
اختلفت فُضِّل ذو الحاجة منهم على من سواه بما يؤدِّي إليه الاجتهاد على قدر قلَّة
العيال أو كثرتهم، ولا يبقى بيد ولد كل واحد منهما ما كان بيد أبيه قبله، وبالله
التوفيق"[11].
وفي هذه الفتوى نجد أن ابن رشد راعى إعمال مصلحة الفقير العائل،
الذي لا يكفيه استحقاقه من وقف آبائه، فكان رفع الضرر عنه أولى من توزيع
الاستحقاقات بالتساوي على الأعقاب المذكورين، وهو مراعاة لحاجيات المسلمين، والتي
إذا أُهملت وُجِدَ الحرج والمشقَّة، وذلك منافٍ لمقاصد الشريعة.
وقف الإرصاد وعلاقته بالمقاصد
وقف الإرصاد: هو حبس شيء من بيت مال المسلمين بأمر من ولي الأمر؛ ليصرف
ريعه على مصلحة عامَّة كالمدرسة أو المستشفى، أو غيرها من المنافع العامَّة.
ويطلق على الإرصاد الإفراز، وهو عزل الشيء وتمييزه، وقد قال كثير من
الفقهاء بأن الإرصاد لا يُعتبر وقفًا حقيقة؛ لأن ولي الأمر لا يملك العين الموقوفة؛
لذلك أفتى العلامة أبو السعود "بأن أوقاف الملوك والأمراء
لا يراعى شرطها؛ لأنها من بيت المال أو ترجع إليه، وإذا كان كذلك يجوز الإحداث إذا
كان المقرر في الوظيفة أو المرتب من مصاريف بيت المال"[12].
"وأول مَنْ أحدث وقف أراضي بيت المال على جهات الخير الشهيد نور الدين
محمود، ثم صلاح الدين يوسف بن أيوب لَمَّا استفتيا ابن أبي عَصْرُون[13] فأفتاهما بالجواز، على معنى أنه إرصاد وإفراز من بيت المال على بعض مستحقِّيه؛
لِيَصِلُوا إليه بسهولة؛ وليس لأنه وقف حقيقي؛ إذ من شرط الموقوف أن يكون مملوكًا
للواقف، والسلطان ليس بمالك لذلك.
ووافق ابنَ أبي عَصْرون على فتواه جماعةٌ من علماء عصره من
المذاهب الأربعة، وحيث كانت هذه الأوقاف الصورية إفرازًا وإرصادًا؛ فللسلطان أن يُقِيمَ
وكيلاً عنه في التصرُّف في ذلك بإجارة وغيرها؛ كما في بقية الأحكام والتصرُّفات
المتعلِّقة ببيت المال، ولا ريبة في صحَّة تصرُّف هذا الناظر المنصوب وكيلاً عمَّن
له ولاية التصرف"[14].
وقد جاء في (حاشية رد المحتار) أن السلطان برقوق أراد نقض وقوفات الإرصاد؛ "لكونها
أُخِذَتْ من بيت المال، وعَقَدَ لذلك مجلسًا حافلاً حضره الشيخ سراج الدين البلقيني[15]، والبرهان ابن جماعة[16]، وشيخ الحنفية الشيخ أكمل الدين شارح الهداية، فقال البلقيني: ما وُقِفَ على العلماء والطلبة لا سبيل إلى نقضه؛ لأن لهم في الخمس أكثر
من ذلك، وما وُقِفَ على فاطمة وخديجة وعائشة ينقض"[17].
وفي هذه الفتوى نجد أن البلقيني ~ قد فرَّق بين نوعين من وقف الإرصاد؛ وهو الوقف الذي يقوم به الحاكم من بيت
مال المسلمين، وليس من ماله الخاص؛ أمَّا الأول فهو الموقوف على مجموعة من الناس
بصفتهم لا بأسمائهم؛ كطلبة العلم، وهم يستحِقُّون على كل حال من بيت مال المسلمين،
فلو لم يُصْرَف إليهم من الوقف صُرِفَ إليهم من غيره، فهذا الوقف صحيح ويجب
استمراره، أمَّا الوقف الثاني فهو موقوف على أفراد بعينهم، وبيتُ المال ليس مكلَّفًا
بالإنفاق عليهم أبدًا، فلو رأى الحاكم الجديد أو القاضي أن هذا الوقف لم يَعُدْ
لازمًا جاز نقضه وإبطاله، وإن رأى أن هؤلاء الأشخاص المُعَيَّنِينَ محتاجون أعطاهم
من الوقف؛ لأنهم من الفقراء، لا لأن الواقف يشترط ذلك.
وهنا تبدو المصلحة العامَّة والمقاصد الشرعية واضحة جلية في عين الفقيه
البلقيني، وهي صورة رائعة من صور الفقه الإسلامي؛ حيث لا يتقيَّد برأي حاكم أو
سلطان، إنما يبحث عن المقصد الشرعي والمصلحة العامَّة.
لذلك، فقد جوَّز بعض الفقهاء للإمام أو نائبه مخالفة الشروط التي اشترطت في
وقف أراضي بيت المال، "وبيان ذلك أنه يجوز للإمام أن يقف أرضًا من بيت المال
على مصلحة عامَّة كالمقابر والمساجد والسقايات والقناطر، أو على قوم مخصوصين لهم
حقٌّ في بيت المال كالعلماء وطلاب العلم والقضاة؛ إيفاءً لهم ببعض حقوقهم؛ لأن
الإرصاد – كما ذكرنا – ليس وقفًا في الحقيقة لعدم تحقُّق شرط الملك فيه، وإنما هو
على هيئة الوقف وصورته، فإذا اشترط الإمام فيه شروطًا لا يجب اتباعها؛ فتجوز
الزيادة والنقصان في المرتَّبَات التي عَيَّنَها الإمام، وإن لم يشترط ذلك لمن
بعده، ولكن لا يجوز إبطالها ولا صرفها إلى جهة أخرى غير الجهة المُعَيَّنة لها،
وهذا بخلاف أوقاف السلاطين التي عُلم أنها ملك لهم، فإنها كسائر الأوقاف يجب اتباع
شروطهم فيها، إلا ما خالف الشرع أو ضرَّ بالمصلحة"[18].
وبعدُ .. فلعلنا نقف في المقالات القادمة مع نماذج عملية ناجحة في العصر
الحديث أثبتت إلى مدى أسهم نظام الوقف الإسلامي في تنمية هذه المجتمعات في ظل
المستجدات العالمية المعاصرة فضلا عن مواكبتها لها.
نُشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث
[1] انظر: وهبة الزحيلي: الوصايا والوقف في الفقه
الإسلامي ص140.
[2] ( الأحزاب: 6).
[3] ( آل عمران: 92).
[4] البيهقي: السنن الكبرى 6/160 (12243).
[5] ابن ماجه عن عبادة بن الصامت (2340)، والموطأ - رواية يحيى الليثي
- (1429)، وأحمد (2867). وقال شعيب الأرناءوط: حسن. والحاكم (2345) وقال: هذا حديث
صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني، انظر:
السلسلة الصحيحة (250).
[6] انظر: محمد صديق خان القنّوجي: الروضة الندية
2/160.
[7] انظر: كتاب وقف محمد أبي الأنوار السادات بدفتر
خانة المحاكم الشرعية، نقلاً عن محمد أبو زهرة: محاضرات في الوقف ص51.
[10] تَوَسُّطُ حالٍ بين حالَيْن في
كَمٍّ أَو كَيْفٍ، والمقصود هو أنه حبسه عليهما دون تحديد نصيب كل منهما من الحبس.
[11] شمس الدين الطرابلسي: مواهب الجليل 7/672، 673.
[12] ابن عابدين: حاشية رد المحتار على الدر المختار4/365.
[13]
عبد الله بن محمد بن هبة الله التميمي، شرف الدين أبو
سعد، ابن أبي عصرون
(492- 585هـ/ 1099-
1189م): فقيه شافعي، من أعيانهم. ولد بالموصل، وانتقل إلى بغداد،
واستقر في دمشق، فتولى بها القضاء سنة 573هـ. وإليه تنسب المدرسة "العصرونية"
في دمشق.
[15]
سراج الدين البلقيني: عمر بن رسلان
بن صالح الكناني، أبو حفص (724- 805هـ/ 1324- 1403م): مجتهد حافظ للحديث، وُلِدَ في
بلقينة من غربية مصر، وتعلم بالقاهرة. وولي قضاء الشام سنة 769هـ، وتوفي بالقاهرة.
انظر: الزركلي: الأعلام 5/46.
[16]
إبراهيم بن عبد الرحيم بن محمد ابن جماعة الكناني، أبو إسحاق، برهان
الدين، المقدسي الشافعي: مفسر من القضاة، عُرف بقاضي مصر والشام، وخطيب الخطباء وشيخ
الشيوخ، وكبير طائفة الفقهاء. ولد بمصر، ونشأ بدمشق، وسكن القدس، وولي قضاء الديار
المصرية مرارًا. انظر: الزركلي: الأعلام 1/46.
[17] ابن عابدين: حاشية رد المحتار على الدر المختار
4/184.
[18] عبد الجليل عشّوب: كتاب الوقف ص88.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق