الاثنين، 27 أغسطس 2012

رحلة في كتاب الصوم (2) ضوابط رمضانية


الإقدام الوافر على الطاعة في هذا الشهر وجائزته الكبرى التي تجعل كلاً منا يحرص أشد الحرص كيلا تضيع لحظة في غير الطاعة يعكس حجم هذه الجائزة الكبرى التي كشف عنها انكباب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الشهر العظيم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه". (صحيح البخاري: كتاب الصوم، 1805).
ومفهوم الريح المرسلة لا يتوقف عند الكرم والبر وزيادة التصدق، وإنما هو معنى عام لكل ما كان يقوم به صلى الله عليه وسلم من العبادات في هذا الشهر الكريم؛ فلقد سُئلت عائشة رضي الله عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة؛ يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً" (سنن النسائي، ح 453). وقالت رضي الله عنها أيضاً: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها" (سنن ابن ماجه، ح 1767).
ولذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان "يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان» (مسند أحمد، ح 1104)؛ لما علمه من الأجر العظيم، رحمة بهم، وإشراكاً لهم، وسُنة لأمته من بعده. ضوابط رمضانية بالإضافة إلى ما سبق أكد النبي صلى الله عليه وسلم ضرورة اتباع نهجه والضوابط التي وضعت لقبول الصيام، وهي ضوابط متعلقة بالجوارح والأخلاق ونية المسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (صحيح البخاري، كتاب الصوم، 1804). وعن السحور ومقداره وأهمية تأخيره، قال زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية". (صحيح البخاري، كتاب الصوم، 1821).
وقد أجلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكمة من السحور والالتزام به، حيث روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور بركة". (صحيح مسلم، كتاب الصيام، 1095).
في أثناء قراءتي لكتب الصيام في مؤلفات السُّنة النبوية، لاحظتُ مدى اليسر الذي جاء به الإسلام على المكلَّفين الذين يجدون مشقة وعنتاً في أداء هذه الفريضة؛ والأمثلة على ذلك أكبر من أن تحصى، لكن بحسبنا منها ما يلي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الآخِرَ وقع على امرأته في رمضان. فقال: "أتجد ما تحرر رقبة؟". قال: لا. قال: "فتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟". قال: لا. قال: "أفتجد ما تطعم به ستين مسكيناً؟". قال: لا. قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر وهو الزبيل (وعاء) قال: "أطعم هذا عنك". قال على أحوج منا ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا. قال: "فأطعمه أهلك". (صحيح البخاري، كتاب الصوم 1835).
ومن رحمته بأمته تطبيق ما أمر الله تعالى به من الترخّص ولو كان قادراً على فعله، خاصة إفطار الصائم في السفر؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة وذلك في رمضان. فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر. (صحيح البخاري، كتاب الصوم 1846).
ولقد كان مما اختص الله عز وجل به رسوله أن يواصل صيام الليل بالنهار، وقد أحبّ بعض أصحابه أن يقتدوا به في ذلك، فلما رآهم يفعلون ذلك قال: "لا تواصلوا"، قالوا: إنك تواصل، قال: "لست كأحد منكم، إني أطعم وأسقى أو إني أبيت أطعم وأسقى". (صحيح البخاري، كتاب الصوم 1860).
وكذلك رخّص النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يستطع الصيام من الضعفاء والمرضى أن يفطروا؛ فعن ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: "نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك". (صحيح البخاري، كتاب الصوم 1847). بل وصلت رحمته صلى الله عليه وسلم برعيته وأنصاره مبلغاً عظيماً حين أمر بتعجيل الفطر؛ فعن سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر". (متفق عليه).
ومن تيسيره صلى الله عليه وسلم أنه رفض أن يلتزم بسُنة القيام في رمضان مع الناس كيلا تفرض عليهم فرضاً؛ فقد روت عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم". (صحيح مسلم، كتاب الصيام 761).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق