لا نزال
في رحلتنا في كتاب الصوم، نستخرج منه ما يعيننا على اتباع هدي نبينا في هذا الشهر الفضيل،
فضلاً عن الحِكَم والملامح التربوية التي تضبط النفس، وتلجم الحواس المنفلتة، وتجعل
المسلم فائزاً بعد امتحان سنوي عظيم.
أول ما نبدأ به الحديث عن جوائز الصائمين هذه الخطبة
الرائعة التي ذكرها البيهقي في شعبه وابن خزيمة وغيرهما عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه،
قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آخِرَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ،
فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شهر
فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ
لَيْلِهِ تَطَوُّعاً، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ
أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً، كَانَ كَمَنْ أَدَّى
سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ
الْجَنَّةُ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يُزَادُ فِي رِزْقِ الْمُؤْمِنِ فِيهِ،
مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِماً كَانَ لَهُ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ
مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلَ أَجْرِه مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ
شَيْءٌ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا نفَطِّرُ الصَّائِمَ،
قَالَ: «يُعْطِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِماً عَلَى
مَذْقَةِ لَبَنٍ أَوْ تَمْرَةٍ أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ، وَمَنْ أَشْبَعَ صَائِماً سَقَاهُ
اللَّهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ شَهْرٌ
أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَوسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، مَنْ خَفَّفَ
فِيهِ عَنْ مَمْلُوكِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ، وَاسْتَكْثِرُوا
فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ، خَصْلَتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَانِ
لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا
رَبَّكُمْ فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَتَسْتَغْفِرُونَهُ، وَأَمَّا
اللَّتَانِ لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا فَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَتَعُوذُونَ
بِهِ مِنَ النَّارِ". (البيهقي: شعب الإيمان 5/223، ح 3336).
هذه المعاني
التربوية لا تخفى كم النفحات والجوائز التي ذكرها صلى الله عليه وسلم بأسلوب أخَّاذ
يجعل المسلم مقبلاً على الله تعالى حريصاً على استغلال الشهر الكريم، وقد تعددت الأحاديث
الشريفة التي تناول فيها صلى الله عليه وسلم أجر الصائمين فقد قال: "من صام رمضان
إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر
له ما تقدم من ذنبه". (متفق عليه). ويدخل في هذا السياق ما ذكره جابر رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عند كل فطر عتقاء، وذلك
في كل ليلة". (سنن ابن ماجه، ح 1643). ولقد حضنا صلى الله عليه وسلم أيضاً
على عدم تضييع ليلة القدر وضرورة التماسها، وجعل لها علامات وأدلة؛ فعن ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة
تبقى وفي سابعة تبقى وفي خامسة تبقى". (سنن أبي داود، ح 1381). وضرب صلى الله
عليه وسلم المثل في تتبع هذه الليلة المباركة التي أجرها خير من ألف شهر صياماً وقياماً؛
فعن أبي ذر قال: "صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا النبي
صلى الله عليه وسلم حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب نحو من ثلث الليل، ثم كانت
سادسة فلم يقم، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب نحو من شطر الليل، قلت: يا رسول
الله، لو نفلتنا قيام هذه الليلة، قال: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف
حسب له قيام ليلة". قال: ثم كانت الرابعة فلم يقم بنا، فلما بقي ثلاث من الشهر
أرسل إلى بناته ونسائه وحشد الناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ثم لم يقم بنا
شيئاً من الشهر، قال داود: قلت: ما الفلاح؟ قال: السحور".
وجائزة
هذه الليلة المباركة ذكرها صلى الله عليه وسلم بقوله: "من قام ليلة القدر إيماناً
واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". (سنن النسائي، ح 3414). ثم نبهنا إلى جائزة
أخرى عظيمة في هذا الشهر، وهي العمرة فيه؛ فعن وهب بن خنبش قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "عمرة في رمضان تعدل حجة". ( سنن ابن ماجه، ح
2992). ثم الجائزة العظمى وهي الجنة، بل تخصيص أحد أبوابها الثمانية للصائمين دون غيرهم؛
دلالة على عظمة الشهر الكريم عند الله عز وجل، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه
الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا
دخل آخرهم، أغلق فلم يدخل منه أحد". (متفق عليه).
وبعد..
لعلنا عرفنا رحمة الله تعالى بهذه الأمة، هذه النفحات التي جعلها الله عز وجل في "أيام
معدودات"، لكنها عظيمة الأجر، لدرجة لا نعرف كنهها إلا عند لقاء الله عز وجل.
نشر في
مجلة المجتمع الكويتية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق