في منطقة العقبة جنوب
مكة وفي هجعة المكيين الذين يحاربون النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته منذ سنين، وبالتحديد
في موسم الحج من العام الثالث عشر من البعثة النبوية الشريفة جاء من يثرب ثلاثة سبعون
رجلاً وامرأتان لمقابلة النبي صلى الله عليه وسلم ومبايعته قيما عُرف ببيعة العقبة
الثانية!
كان بين هؤلاء الرجال
والنساء شاب في الثماني عشرة ربيعًا، فتى لا يزال في مرحلة الفتوة لم تنبت له لحية
ولا شارب، قد أُعجب بالدين الجديد، بل وملك شغاف قلبه.
وقف الشاب يبايع رسول
الله صلى الله عليه وسلم على "السمع والطاعة في النشاط والكسل. وعلى النفقة
في العسر واليسر. وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى أن يقوم في الله، لا
تأخذه فيه لومة لائم"[1].
إنه معاذ بن جبل الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه، أسلم
شابًا وتوفي شابًا!
يا معاذ إني
أحبك في الله!
حرص رضي الله عنه منذ
إسلامه على أن يشهد المشاهد والغزوات كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم
يتخلف عن واحدة قط[2].
ترسّخت محبة هذا الشاب
المخلص رضي الله عنه في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فيحكي رضي الله عنه قال: لقيني
النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا معاذ! إني لأحبك في الله".
قلت: وأنا -والله- يا رسول الله! أحبك في الله. قال: "أفلا أعلمك كلمات
تقولهن دبر كل صلاة؟ رب أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك"[3].
أعلم أمتي
بالحلال والحرام!
كان رضي الله عنه أفقه
الناس وأعلمهم بالحلال والحرام، وله اجتهاد حسن سنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم
للناس كافة؛ فعن أبي سعيد: أن معاذًا دخل المسجد، ورسول الله ساجد، فسجد معه، فلما
سلم، قضى معاذ ما سبقه. فقال له رجل: كيف صنعت! سجدت ولم تعتد بالركعة؟ قال: لم
أكن لأرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حال إلا أحببت أن أكون معه فيها. فذكر
ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فسرّه، وقال: "هذه سُنة لكم"[4].
ولذلك قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: "خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبي، ومعاذ
بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة"[5].
وقال صلى الله عليه وسلم في موضع آخر: "وأعلم أمتي بالحلال والحرام:
معاذ"[6].
ولقد كان الذين يُفتون
على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة من المهاجرين: عمر، وعثمان، وعلي. وثلاثة
من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ، وزيد[7].
ولما فتح رسول الله
صلى الله عليه وسلم مكة، استخلف عليها عتاب بن أسيد يصلي بهم، وخلّف معاذًا يُقرئهم
ويفقههم[8].
ولقد أرسله النبي صلى
الله عليه وسلم قاضيًا في العام الحادي عشر من الهجرة إلى اليمن "قال: لما
بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، قال لي: "كيف تقضي إن عرض
قضاء؟" . قال: قلت: أقضي بما في كتاب الله، فإن لم يكن، فبما قضى به رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: "فإن لم يكن فيما قضى به الرسول؟".
قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب صدري، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- لما يرضي رسول الله"[9].
هذا الشاب الذي أتاه
الله علمًا كان الصحابة يُجلونه ويُكبرونه ويحترمونه غاية الاحترام ولذلك قيل: "كان
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تحدثوا وفيهم معاذ، نظروا إليه هيبة له"[10].
استقر رضي الله عنه في
الشام منذ العام الثاني عشر من الهجرة وظل يعلم الناس العلم في المساجد، خاصة مسجد
مدينة حمص شمال الشام فعن أحد التابعين قال: دخلتُ مسجد حمص، فإذا فيه نحو من
ثلاثين كهلاً من الصحابة، فإذا فيهم شابٌ أكحل العينين، براق الثنايا، ساكت، فإذا
امترى القوم، أقبلوا عليه، فسألوه. فقلت: من هذا؟ قيل: معاذ بن جبل. فوقعت محبته
في قلبي[11].
وعن آخر قال: دخلت
مسجد حمص، فإذا بفتى حوله الناس، جعد، قطط، إذا تكلم كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ.
فقلت: من هذا؟ قالوا: معاذ بن جبل[12].
التقي
الزاهد!
كان معاذ شابا جميلا
سمحا، من خير شباب قومه، لا يُسأل شيئا إلا أعطاه، حتى كان عليه دَين أحاط بكل
ماله، فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكلم له المدينين، ففعل، فلم يضعوا
له شيئا، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبرح حتى باع ماله، وقسّمه بينهم. فقام
معاذ ولا مال له، ثم بعثه على اليمن ليجبره، فكان أول من تجبر في هذا المال. فقدم
على أبي بكر، فقال له عمر: هل لك يا معاذ أن تطيعني؟ تدفع هذا المال إلى أبي بكر،
فإن أعطاكه فاقبله. فقال: لا أدفعه إليه، وإنما بعثني نبي الله ليجبرني. فانطلق
عمر إلى أبي بكر، فقال: خذ منه، ودع له.
قال: ما كنت لأفعل،
وإنما بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليجبره. فلما أصبح معاذ، انطلق إلى
عمر، فقال: ما أراني إلا فاعل الذي قلت، لقد رأيتني البارحة - أظنه قال - أجر إلى
النار، وأنت آخذ بحجزتي. فانطلق إلى أبي بكر بكل ما جاء به، حتى جاءه بسوطه[13]!
وكان عمر رضي الله عنه
يوزّع للناس من الأموال التي كانت ترد إليه من البلدان الإسلامية بعد الفتوح
وأثنائها، فكان نصيب معاذ رضي الله عنه مائتي دينار أرسلها له، فما كان منه أن
قال: "تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان،
حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر، وأخبره، فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل،
فأرسله بها إليه. فقال معاذ: وصله الله، يا جارية! اذهبي إلى بيت فلان بكذا، ولبيت
فلان بكذا. فاطلعت امرأة معاذ، فقالت: ونحن - والله - مساكين، فأعطنا.ولم يبق في
الخرقة إلا ديناران، فدحا بهما إليها"[14].
وقد "كَانَ معاذ
إذا تهجّد من الليل قَالَ: اللَّهُمَّ نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم،
اللَّهُمَّ، طلبي الجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللَّهُمَّ اجعل لي عندك هدى
ترده إلي يَوْم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد"[15].
وفاته رضي الله
عنه
في عام 18هـ وقع
بالشام الطاعون الشهير المسمى بطاعون عمواس نسبة إلى المدينة التي ابتدأ فيها،
وكان رضي الله عنه ممن أصيبوا في هذا الطاعون "فصرخ الناس إلى معاذ: ادعُ
الله أن يرفع عنا هذا الرجز. قال: إنه ليس برجز، ولكن دعوة نبيكم، وموت الصالحين
قبلكم، وشهادة يخص الله بها من يشاء منكم"[16].
وكان رضي الله عنه في
ظل هذا البلاء العظيم يقول "سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ستهاجرون
إلى الشام، فيفتح لكم، ويكون فيه داء كالدمل، أو كالوخزة، يأخذ بمراق الرجل، فيشهد
- أو فيستشهد - الله بكم أنفسكم، ويزكي بها أعمالكم". اللهم إن كنت تعلم
أن معاذا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطه هو وأهل بيته الحظ الأوفر
منه. فأصابهم الطاعون، فلم يبق منهم أحد، فطُعن في أصبعه السبابة، فكان يقول: ما
يسرّني أن لي بها حمر النعم"[17].
وعن الحارث بن عميرة،
قال: إني لجالس عند معاذ وهو يموت، وهو يغمى عليه ويفيق، فقال: اخنق خنقك، فوعزتك
إني لأحبك[18]!
توفي رضي الله عنه وهو
لا يزال شابًا؛ إذ كان عمره عند وفاته ثمان وثلاثون سنة على أقصى تقدير .. رضي
الله عنه، وجعلنا ممن يسيرون على خطاه، وفي فضله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "معاذ
أمام العلماء يَوْم القيامة برتوة[19]
أو رتوتين"[20]!
نشر في الوعي الشبابي الإلكترونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق