الشائع أن التعليم
الذاتي قد بدأ في أوروبا على يد الطبيبة والمربية الإيطالية ماريا مونتيسوري
(ت1952م) التي طورت في أوائل القرن الـ20 أسلوبا جديدا في التعليم يشجع الطفل على
التعلم بنفسه ويكون فيه الطفل هو المعلم والمتعلم في آن واحد، وقد أعدت مونتيسوري
غرفة تربوية للتعلم الذاتي تم تجهيزها بكل ما يحتاج إليه التلاميذ لتطوير مهاراتهم
العملية واللغوية والرقمية والحسية، وعدت هذه التجربة وثمراتها الرائعة البداية
الحقيقية لنشأة التعليم الذاتي.
وللأسف ظل هذا التصور
سائدًا في الأوساط الأكاديمية والتربوية إلى الآن، لكن التاريخ يؤكد لنا أن
الحضارة الإسلامية كانت السباقة في هذا المجال قبل أن تولد السيدة مونتيسوري بألف
عام تقريبًا!
قالت مونتيسوري:
"إن أهم ما يُميز التربية الحديثة (في الغرب) هو احترام شخصية الطفل إلى حد
لم يبلغه من قبل"([1]).
لكن المؤرخ الكبير الدكتور عبد العزيز الأهواني يعقب على هذه المربية بقوله:
"نحن لا نتفق مع هذه المربية في الحكم على الماضي، فقد يكون هذا الرأي صحيحًا
بالنسبة إلى التعليم في أوربا، ولكنه غير صحيح على إطلاقه عن التعليم في الكتاتيب؛
ذلك أن شخصية الطفل كانت محترمة إلى حد كبير"([2]).
إن رد الأستاذ الدكتور
الأهواني لا غبار عليه؛ فلقد كان الرفق بالأطفال وعدم التشديد عليهم، وتعليمهم
بالحسنى، واحترام شخصياتهم ومؤهلاتهم وميولهم أحد أبرز المظاهر العامة التي تجلت
في المؤلفات الإسلامية التراثية؛ فمن الرائع أن نجد ابن خلدون (ت808هـ) يُفرد
ويُخصصُ في مقدمته الشهيرة فصلاً وقد عنونه بـما يلي: "في أن الشدة على
المتعلمين مضرةٌ بهم". بل إنه شبه الأخلاق التي يتحصل عليها الصبي الذي رُبي
بالعسف والقوة بأخلاق اليهود، وهذا مآل خطير، ونتيجة لافتة تستوجب التوقف أمامها
كثيرًا، توصل إليها العلامة ابن خلدون منذ سبعة قرون([3]).
وقد اهتمت مؤسسات
الدولة الإسلامية وعلى رأسها السلطان بالصبيان ومعلميهم، ويذكر لنا القلقشندي
(ت821هـ) في موسوعته "صبح الأعشى" بعض الرسائل التي كانت تُرسل للمؤدبين
والمعلمين وأهل التربية من قِبل السلطان، يتضح فيها أدبيات التعامل مع الأطفال
آنئذ، قال: "إن كان مدرسًا وصي بأن يُقبل على جماعة درسه بطلاقة وجه، وأن
يستميلهم إليه جهد استطاعته، ويُربيهم كما يربي الوالد ولده، ويستحسن نتائج
أفكارهم التي يأتون بها في درسه، ويقدم منهم من يجب تقديمه، ويُنزل كل واحد منهم
منزلته؛ ليهزّهم ذلك إلى الإكباب على الاشتغال والازدياد في التحصيل، ثم يأتي في
كل مدرس بما يناسبه من أمور العلم الذي يدرس فيه وإن كان يدرس في علم خاص"([4]).
فإذا كان من شروط
التعلم الذاتي أن يقوم المتعلم بتحديد ما يريد أن يتعلمه بصورة دقيقة بعيدا عن
العشوائية؛ فإن نص القلقشندي المتوفي في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي
– أي قبل أن تولد مونتيسوري بأربعة قرون ونيف كاملة – يُدلل بما لا يدع مجالا للشك
أن المسلمين هم الذين ابتدعوا هذا الفرع من العلم.
بل إن تاريخ التربية
الإسلامية قام في الأساس على "التعليم الذاتي" الذي من شروطه: حرية
التعلم ومن الذي يريد الطالب أن يتعلم على يديه وطبيعة الوسائل التي يتكيف معها
والجدول الزمني الذي يريده، فيما يمكن أن نطلق عليه "الرحلة في طلب
العلم".
فهذه الظاهرة من ألصق
الظواهر الحضارية بالأمة المسلمة، ومنذ انتقال الصحابة في الأمصار بعد حركة الفتوح
الإسلامية، ونحن نرى طلاب العلم يفدون إليهم لمعرفة حديث رسول الله r، وآرائهم الفقهية في المسائل المتنوعة، وما من تابعي إلاَّ ووجدناه راحلاً
إلى العراق أو الشام أو المدينة ومكة أو اليمن أو غيرها، لا يحسب للمسافات حساب،
فكل همه أن ينال العلم المبتغى، ويتعلم على العلماء المرموقين في عصره، وفق إرادته
وخطته الشخصية، وكذلك كان خَلَفُهم.
وكمثال على تفرد
حضارتنا الإسلامية العريقة في مجال "التعليم الذاتي" فإننا يجب أن نتتبع
خط سير أحد طلاب هذه الحضارة الرائعة وليكن ابن رشيد الفهري محمد بن عمر السبتي
(ت721هـ) المولود في سبتة([5])
بالمغرب، لقد رحل ابن رشيد وهو شاب يافع إلى المشرق لأداء فريضة الحج، وكعادة
المغاربة في ذلك الوقت حرص على أن يلتقي بكبار شيوخ عصره لينهل من علومهم، وكان
يدون ملاحظاته في بطائق صغيرة، أو بصورة تعليقات على المصنفات التي كان يحملها
معه، ليُخرج لنا في نهاية المطاف كتابًا رائعًا ماتعًا سمّاه "ملء العيبة بما
جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة" أي ما جمعه من العلوم والمعارف في وجهته
التي قصد بها الحج أولاً، وهو من أقدم الأدلة الموجودة بين يدينا على طبيعة
"التعليم الذاتي" وقتئذ.
خرج ذاك الشاب من
مدينة سبتة المغربية قاصدًا الحج سنة (681هـ),
وعمره سبعة وعشرون عامًا, وأقام بالمرية المدينة الأندلسية مدّة من الزمان لقي
فيها الوزير الأديب ابن الحكيم, وتوطّدت أواصر الصداقة بين الرجلين, ورافقه في
رحلته إلى الحج, فيمّم شطر مدينة تونس عن طريق تلمسان وبجّاية, ومنها تحوّل إلى
الإسكندرية, ثمّ القاهرة التى وصلها سنة (684هـ), ورحل من القاهرة إلى دمشق
متوجّها إلى المدينة المنوّرة, ثمّ إلى
مكّة المكرمة.
وبعد أداء فريضة الحج
عاد أدراجه إلى القاهرة فالإسكندرية سنة(685هـ), ومنها ركب البحر إلى طرابلس
الغرب, فالمهدية بديار إفريقية فوصلها في ربيع الأول من تلك السنة, وبلغ تونس في
ربيع الثاني, وأقام بها عاماً كاملاً, ثمّ توجّه إلى مدينة بونه (عنابة الآن),
ومنها أبحر إلى مالقة ورندة والجزيرة الخضراء في الأندلس, ثم انتهى به المطاف إلى
مدينة سبتة في المغرب الأقصى في جمادى الثانية سنة (686هـ) أي أن رحلته العلمية
والشرعية استمرت خمس سنوات متصلة.
في هذه السنوات الخمس
لاقى ابن رشيد المئات من الشيوخ في كل تلك المدن التي نزل بها، وهذا وللحق نموذج
لطريقة التعليم والتثقيف في ذلك العصر، وكان اهتمام طلاب العلم بتدوين هذه
المصنفات رغبة في تذكر هؤلاء الشيوخ والعلماء، ليدعوا لهم، ويترحموا عليهم، فضلاً
عن أنها تأريخ للمناظرات، وحلقات العلم، وطريقة الدرس في ذلك الزمن، والقصة الآتية
التي يرويها الطالب المغربي عن شيخه المصري تقي الدين بن دقيق العيد (ت702هـ)
الفقيه المصري الشافعي الشهير تبين لنا طبيعة التعليم الذاتي في القرن السابع الهجري، وتُظهر
لنا ذكاء الطالب النبيه ابن رشيد، وعلم الشيخ المصري ابن دقيق، قال: "لقيتُ
الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وقد عُرضت عليه ورقة سُئل فيها عن البسملة في
قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة، وكان السائل فيما ظننته مالكيا، فمال الشيخ رضي
الله عنه في جوابه إلى قراءتها للمالكي، خروجا من الخلاف في إبطال الصلاة بتركها، وصحتها
مع قراءتها، فقلتُ له يا سيدي: اذكر في المسألة ما يشهد لاختياركم، فقال: وما هو؟
فقلتُ: ذكر أبو حفص، وأوردتُ قول الميانشي، فغلطتُ وقلتُ: ابن شاهين. قال (أي
الميانشي المالكي):صليتُ خلف الإمام أبي عبد الله المازري التونسي العلامة، فسمعته
يقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين......}، فلما خلوتُ
به قلتُ له: يا سيدي! سمعتك تقرأ في صلاة الفريضة كذا، فقال لي: أو تفطنت لذلك يا
عمر، فقلتُ له: يا سيدي أنت إمام ولا بد أن تخبرني؟ فقال لي: اسمع يا عمر، قول
واحد في مذهب مالك، أن من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة لا تبطل صلاته،
وقول واحد في مذهب الشافعي: أن من لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم بطلت صلاته، فأنا
أفعل مالا تبطل به صلاتي في مذهب إمامي، وتبطل في تركه بمذهب الغير، لكي أخرج من
الخلاف. فتركني شيخنا حتى استوفيتُ الحكاية، وهو مصغ لذلك، فلما قطعتُ كلامي، قال
هذا حسن، إلا أن التاريخ يأبى ما ذكرت، فابن شاهين لم يلق المارزي، فقلتُ إنما
أردت الميانشي، فقال: الآن صحَّ ما ذكرته"([6]).
ولنا أن نتخيل في ظل
العدد الجم من الشيوخ الذين قابلهم ابن رشيد، كيف كان يتعلم ذاتيًا منهم وفق خطته
وإرادته ورؤيته.
بعد ما سبق، لا يمكن
أن نسلم بمقولات المستشرقين والمستغربين ممن أهملوا تاريخ التراث الإسلامي، ورددوا
عن جهل أو عمد أن أوربا هي التي سبقتنا في هذا المجال، ومن الإنصاف أن نقول إن
الغرب كان محضنا ممتازًا لتطوير الأفكار الآتية من المشرق منذ قرونه الوسطى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق