إن المرحلة الزمنية
التي تمتد من منتصف القرن الرابع عشر الميلادي حتى منتصف القرن السادس عشر لهي
خليقة بالبحث والتأمل في تاريخ الأناضول، خاصة ما يتعلق بطبيعة القوات البحرية
العثمانية التي كان لها أثر بارز في إسقاط القسطنطينية في عام 857هـ = 1453م.
فبعيدًا عن الخطة
العبقرية([1])
التي قام بها الفاتح نستكشف أن عدد السفن التي أعدها محمد الفاتح لمعركة
القسطنطينية بلغت 400 سفينة من كافة الأنواع والأحجام([2])،
وما هذا العدد إلا دليل على المقدرة البحرية الهائلة التي توصل إليها العثمانيون
قبل فتحهم للقسطنطينية، فما بالنا في الأعوام العشرين التالية تلك التي ولد أثناءها البحارة العثماني الشهير بيري ريس في عام
1470م؟!
إن ما يستلفت نظر
الباحث في تاريخ البحرية العثمانية وتطورها ليجد أن ثمة عاملاً مهمًّا جعل
العثمانيين أسياد البحار في القرن الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، هذا العامل
يكمن في وجود الإمبراطورية البيزنطية المتاخمة شرقًا للعثمانيين، فضلاً عن وجود
مجموعة من القوى البحرية الأخرى كالبنادقة والجنويين، فإن الاحتكاك المباشر بين
الجانبين العثماني والبيزنطي والتنافس منذ القرن الرابع عشر الميلادي أدى إلى تطور
المقدرة البحرية للعثمانيين.
لقد كان بحوزة
البيزنطيين أسطول قوي اقتضاه امتلاكهم لعدة موانٍ وجزر، وقد ظلّوا كذلك رغم تقلص
المساحة الجغرافية التي كانوا مسيطرين عليها، ومن ثم لم يكن في مقدور العثمانيين
أن ينالوا من أملاك هؤلاء شيئًا دون وجود أسطول قوي لديهم، وأمر آخر يكمن في
استيلاء البنادقة على الجزر المتواجدة بالقرب من بحر إيجه مما كان يسبب بصورة
مستمرة تهديدًا مباشرًا للمصالح والأملاك العثمانية في تلك المناطق، ويرى هاملتون
جيب أن الأسطول العثماني ما ظهر في الوجود أول أمره إلا لدحر البنادقة، وفي
النهاية وبعد حروب طويلة اندحر البنادقة، وانهارت أملاكهم في البلقان وبحر إيجه،
ووقعت جميعها في يد العثمانيين، وما أن ظهر الأسطول العثماني في الوجود حتى استعمل
في مغامرات أخرى، وأماكن متباعدة في غرب البحر الأبيض المتوسط، وفي البحر الأسود
والبحر الأحمر، وحتى في المحيط الهندي والخليج الفارسي([3])!
ويؤكد ما قلناه آنفًا
تاريخُ تطور البحرية العثمانية منذ عهد الأمير سليمان بن أورخان الذي عبر -أثناء
ولاية أبيه أورخان بن عثمان (ت762هـ = 1360م)- مضيق الدرنديل ليلاً ليستولي هو وبعض جنوده على بعض السفن الرومية
التي كانت راسية هناك، وانتقلوا بها شرقًا حيث أضافوها إلى أسطولهم، ونقلوا عليها
آلافًا من الجنود العثمانيين إلى الطرف الأوربي، فتمكنوا من فتح قلعة
"تزنب" و"أبسالا" و"غاليبولي"، وجهز سليمان ميناء
"آيدنجك"([4]).
وفي عهد السلطان مراد
الأول (ت 1389م) تمكنت القوات العثمانية من فتح أدرنة في عام 762هـ = 1361م، ثم اتخذت عاصمة للعثمانيين، وقد أصبح الأسطول البحري في غاية
الأهمية من وقتها، وذلك ليتمكن من الربط بين شطري السلطنة الممتدة من آسيا إلى
أوربا، حيث فتحت كل بلغاريا وصربيا([5]).
وخلفه ابنه بايزيد
الصاعقة (ت 1403م) الذي طهّر شواطئ بحر إيجه الأسيوية من بقايا الروم، وبذاك حاز
العثمانيون أعظم المواني في بحر إيجه وهي: آيدن، ومنتشة، كما حازوا أسطول صاروخان([6])
ونفَذوا من سواحل منتشة إلى البحر المتوسط، كما حوصرت في عهد بايزيد مدينة
القسطنطينية عام 794هـ = 1397م، وأصبح
الأسطول العثماني مكونًا من 60 قطعة بحرية، بيد أن تيمورلنك باغت الدولة العثمانية
وهاجمها وقتئذٍ، وخاض معركة أنقرة عام 804هـ = 1402م لتسفر المعركة عن أسر بايزيد ثم موته.
وفي عهد محمد جلبي بن
بايزيد (ت 824هـ = 1421م) قامت معركة
بحرية كبيرة بين القوات البحرية العثمانية وبين البنادقة، هي معركة جنق قلعة التي
انتصر فيها العثمانيون عام 1416م، وتمكنت القوة البحرية العثمانية -في عهد السلطان
مراد الثاني (ت 855هـ = 1451م)- من محاصرة
القسطنطينية عام 825هـ = 1422م، لكنه لم
يستطع إسقاطها لحصانتها وبأسها، وقد قام الأسطول العثماني بالقضاء على إمارتي منتشة
أو موغلان وآيدن سنة 828هـ = 1425م، بل
استطاع الأسطول العثماني الوصول إلى البحر المتوسط والبحر الأسود وسواحل الرومللي،
وقد خاض الأسطول العثماني في عهده معركة شرسة هي معركة خليج غاليبولي سنة 832هـ = 1429م ضد أمير البحر البندقي "أندراوس موكينكو"، ولقد كان هذا
الانتصار سببًا مباشرًا في فتح سلانيك بشمال اليونان، ولما وقعت هذه المدينة
تزعزعت أركان الدولة البيزنطية، وأجبرت جمهورية البندقية على التوقيع على معاهدة
غاليبولي([7])
عام 834هـ
= 1431م([8]).
وجاء محمد الثاني الذي فتح القسطنطينية سنة 857هـ = 1453م بخطة عبقرية أشرنا إليها منذ قليل، وفي عهده تَسَنَّم الأسطول
العثماني مكانة عالية نتيجة الفتوحات البحرية التي قام بها، ومن اللافت أن المؤرخ
والمستشرق الإنجليزي هارولد بوين يرى أن هناك ثلاث فترات وصل الأسطول العثماني
فيها إلى القمة؛ منها الفترة التي تلت فتح القسطنطينية حتى نهاية القرن الخامس عشر
الميلادي، وأهم سمة امتاز بها الأسطول العثماني وقتئذ تمثّلت في تحويل البحر
الأسود إلى بحيرة عثمانية، وتم هذا عن طريق تحطيم الإمارة البيزنطية التي أسست أول
الأمر من قبل "آل كومنين" في طرابزون بعد أن طردهم الصليبيون من
القسطنطينية، وبجانب تحويل البحر الأسود إلى بحيرة عثمانية استطاع الأسطول
العثماني أن يستولي على خانات القرم([9])
وتوابعهم، ولقد أثّر هذا الإنجاز تأثيرًا عميقًا في سياسة السلطان البحرية؛ فلقد
ظلوا مدة قرن من الزمن آمنين على البحر الأسود وخانات القرم، وكانوا حين يرغبون في
الدفاع عنه يكتفون بتركيز جميع سفنهم في بحر إيجه، واقتصر نشاط الأسطول خلال
الفترة الممتدة عقب فتح القسطنطينية حتى وفاة بايزيد الثاني بن محمد الفاتح
(ت1512م) على فتح المناطق الساحلية والجزر بالقرب من شبه جزيرة البلقان، وكان
القبطان كمال ريس عم محيي الدين الريس أبرز شخصية بحرية في هذه الفترة([10]).
وللدلالة على عظمة الأسطول العثماني وقوته في هذه الفترة
نرى أن نشاطه قد ازداد كمًّا وكيفًا، كما تنوعت هجماته بين البحر الأسود والبحر
المتوسط؛ ففي عام 859هـ = 1455م هاجمت 80
قطعة من الأسطول العثماني جزيرة رودس التابعة لفرسان القديس يوحنا، وخاض الأسطول
العثماني المكون من 200 مركب معركة بلغراد سنة 860هـ = 1456م، وفي عام 864هـ = 1460م ساهم
أسطول عثماني مكون من 100 غراب حربي بفتح كل من قسطموني وسينوب على ساحل البحر
الأسود، كما ساهم الأسطول ذاته بفتح طرابزون سنة 465هـ = 1461م، واستطاع العثمانيون أن يأسروا سفينة جديدة حمولتها 112 طنًّا حيث
أرسلوها إلى العاصمة ليتخذوها مثالاً في صنع سفنهم الجديدة، ومنذ ذلك الحين
استطاعت دار الصناعة العثمانية أن تصنع أول سفينة كبيرة من نوعها بلغت حمولتها
370طنًّا([11]).
وقد أزعج نمو القوة البحرية العثمانية دولَ أوربا، ولا
سيما بعد أن أنشأ الفاتح الكثير من السفن مما مكن الأسطول العثماني من فتح جزيرة
مديللي([12])
سنة 866هـ
= 1462م، وبفتح هذه الجزيرة تم تأمين ممر مضيق الدرنديل،
وفي صيف سنة 873هـ = 1470م قاد الفاتح حملته الحادية والعشرين ضد البندقية، ففتح
جزيرة "أغريبوز" نغربونت([13])،
وحررها من البنادقة بعدما حكموها 260 عامًا، وكان الأسطول العثماني مكونًا من 100
سفينة، ومن الجميل أن العثمانيين استطاعوا بناء جسر من 200 سفينة طوله 5 كم، عبر
عليه 70000 جندي عثماني، واستمر الفاتح في إعداد الأساطيل، وبناء السفن حتى تمكن
من فتح بلاد القرم، واستطاع الأسطول العثماني في أخريات سلطنة الفاتح أن يفتح بعض
جزر الأرخبيل اليوناني؛ مثل: كفالونيا وزانتا وزاكينثوس وسانت مورا، وكان الفاتح
(رحمه الله) قد اعتزم فتح إيطاليا – ما يدلل على القوة الباهرة التي وصل إليها
الأسطول العثماني حينئذٍ – وبالفعل استطاع الأسطول العثماني بقيادة أحمد كدك باشا
أن يباغت مدينة أوترانتو المهمة في جنوب شرقي إيطاليا في صيف عام 1480م، وكان
القائد العثماني على أهبة الاستعداد بأن يواصل سيره داخل الأراضي الإيطالية، ولكن
وفاة محمد الفاتح في ربيع الأول سنة 886هـ = 1481م، حالت دون ذلك، ويعقب المستشرق
الإنجليزي بين بول بقوله: إن موت محمد الفاتح أنقذ أوربا؛ لأن الدَّوْرَ بعد
أوترانتو كان لروما نفسها([14])!!
وبداية من المقال القادم إن شاء الله نتوقف مع أهم
الشحصيات البحرية العثمانية في هذه الفترة ودوره التاريخي في تقدم وتوسع
الإمبراطورية العثمانية آنئذ ألا وهو البحارة والكارتوغرافي محي الدين الريس رحمه
الله.
نُشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث
([1]) نقل
الفاتح أسطوله من مرساه في بشكتاش إلى القرن الذهبي وذلك من خلال الطريق البري
الواقع بين الميناءين وكانت المسافة تقدر بثلاثة أميال مبتعدًا عن حي غلطة خوفًا
على سفنه من الجنويين، وقد تمكن العثمانيون من جر أكثر من سبعين سفينة عبر الجبال
في ليلة واحدة، وهذا - بلا أدنى حيف - يُدلل على عقلية ذكية جدًّا. د. علي
الصلابي: الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط ص98، 99.
لو ذكرتم فترة اوج القوة البحرية العثمانية اي منذ بداية القرن السادس عشر لكان افضل
ردحذف