الأحد، 9 سبتمبر 2012

هل تخرج مصر من صنم المركزية؟!



الحضارة الإسلامية قامت بالأساس على أكتاف المجتمع المدني غير المقولب أو المسيطر عليه من السلطة المركزية، وكانت هذه الحرية التي أساسها التنوع وفاعليته على الأرض سببًا في التقدم والتمدن وتفرد هذه الحضارة، أما الغرب ومنذ سيطرة الكنيسة بل قل منذ الدولة الرومانية وحتى الانعتاق من سلطتها وإلى الآن لا تؤمن بهذا الدور وإن بدا على السطح غير ذلك ببعض "الإجراءات" الديمقراطية التي بالمناسبة تجعل المجتمع خاضعًا في نهاية المطاف للدولة!
 خذ مثلا الدليل على الاستهزاء بالديمقراطية وضربها بالنعال تحت أقدام رجال المال والأعمال والعسكريين واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة من خلال تداول "شكلي" للسلطة من خلال "حزبين" فقط، وغير مسموح بالمرة أن يصل إلى سدة الإمبراطورية الأمريكانية أحدًا من خارج هذين الحزبين، والصين أكثر قسوة من الولايات المتحدة في هذا ، فضلا عن النظام المخابراتي الروسي المشابه في بنيته الكامنة للنموذجين الصيني والأمريكي والموضوع بالطبع لا يمكن إجماله في فقرة سريعة كهذه!
 أما في العالم "الإسلامي" في المائتي عام الأخيرة فإن مجيء الحملة الفرنسية على مصر - وكانت بعد 9 سنوات فقط من بدء الثورة التحررية التنويرية الفرنسية!! - كان تجليًا لفكرة "السيطرة" على المجتمعات تحت سلطة واحدة متوحشة هي لب الصراع والغاية، هي بوضوح انتقال نظام التوحش السياسي والسلطوي والفكري من منبعه إلى مصبه حيث "فئران الاختبار السياسي" التي لم تعهد هذه النظم والبنى الاجتماعية المشوّهة من قبل.
ثم تطور هذا الأمر بعد ذلك في حملة فريزر الفاشلة ثم على يد محمد علي ببراعة ثم الاحتلال الانجليزي في مصر وقد تم وأد "معظم" مقومات المجتمع المدني المقوّم والمغير الأول للسلطة في المنظور الإسلامي، وفي ظل هدر لكافة المقومات الأساسية والفكرية للنهضة في مصر والتي تناولها كل الحالمين بها في العصر الحديث بدأ بالجبرتي ومرورا بمحمد عبده وعلي مبارك ورشيد رضا ومصطفى كامل وحسن البنا وغيرهم، بدا أن الوضع في مصر أصبح سيئًا على "ظاهره" فلابد إذن "للسادة الجدد بعد الحرب العالمية الثانية" من إحداث "زوبعة في فنجان"!
 في ربيع عام 1952م وقبل الانقلاب العسكري في مصر بأربعة أشهر أو أقل استطاع جمال عبد الناصر - وبعد أن انسلخ من التنظيم الخاص ومن جماعة الإخوان المسلمين التي رأت أن التغيير لن يحدث إلا على يد مؤيدي الفكرة الإسلامية وحدهم ولهذا انسلخ – استطاع أن يتوصل إلى نقاط جوهرية تباحث فيها مبعوثه مع مبعوث المخابرات الأمريكية وقتها إلى مصر – والذي اكتشف تنظيم الضباط الأحرار وسعى للتباحث معه - كيرمت روزفيلت حفيد الرئيس الأمريكي ثيودور روزفت.
كانت النقطتان التي توصل لهما عبد الناصر هما:
1-  الشعوب لا تثور غالبا بسبب الأوضاع الاقتصادية وكانت قناعة المخابرات الأمريكية أو على الأقل عميلها في مصر متوافقة مع هذه الرؤية وهي التي تناولها وأكدها الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي كارين برنتون في كتابه المهم "تشريح الثورات"!
2-  الشعب المصري غير قابل للثورة ولن يثور لأي سبب برغم وضعه المأسوي منذ "مئات السنين" ولعله طرحها ليقوي موقفه التفاوضي مع الأمريكاني!
لكن الأمريكي ومن منطلقه الفكري الثابت  قرر بوضوح أن يرسخ الزعيم المنتظر قبضته على المجتمع المدني وعلى الأمة التي يعلم أنها بخلاف الصورة التي نقلها مبعوث عبد الناصر إلى كيرمت روزفلت (لم يذكره مايلز كوبلند صراحة في كتابه "لعبة الأمم" الصادر عام 1969م)؛ وتجربتهم السابقة للانقلابات العسكرية بدءًا من الانقلاب الأول في العالم العربي في سوريا سنة 49م قد أعطتهم خبرة ونتائج مدروسة بعناية.
يقول كوبلند: "أخيرًا تم الاتفاق على أنه في مستقبل العلاقات بين الحكومة المصرية الجديدة وبين الولايات المتحدة سيقتصر استخدام عبارات من طراز (إعادة المؤسسات الديمقراطية) أو (الحكومة القائمة على تمثيل حقيقي للشعب) ستقتصر على الوثائق المتاحة للعامة، أما فيما بيننا فيقوم تفاهم مشترك على أن شروط قيام حكومة ديمقراطية غير متوفرة في مصر ولن تتوفر لعدة سنوات مقبلة، وأن مهمة الحكومة الجديدة هي:
1-  شعب غير أمي.
2-  طبقة وسطى كبيرة ومستقرة (وهي التي عبّر عنها أحمد حمروش أحد الضباط الأحرار في مذكراته بأنهم ما قاموا بثورتهم إلا لأنهم ممثلو الطبقة الوسطى!!)
3-  شعور من الشعب أن هذه هي حكومتنا وليست مفروضة من الفرنسيين أو الترك أو الانجليز أو الطبقة العليا المصرية.
4-  إرساء قيم ومثل حقيقية تضمن قيام ونمو مؤسسات ديمقراطية حقيقية وليست تقليد مستورد من الولايات المتحدة أو بريطانيا". (جلال كشك: كلمتي للمغلفين ص87 نقلا عن لعبة الأمم لكوبلند).
هذه الشروط تم تطبيقها بحذافيرها إضافة إلى مقترح إعادة توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين الذي بالمناسبة كان اقتراحًا أمريكانيًا هو الآخر وحلا مفضلا في انقلابات دول أمريكا اللاتينية؛ لتهدئة أو بالأحرى لاحتواء أي ثورة شعبية يكون وقودها هؤلاء المستضعفون في الأرض، وكلنا يعلم النتائج السلبية التي جرّها هذا القرار على الاقتصاد المصري وظهور فئة جديدة تفسّخ طبقة الفلاحين بالكلية فضلا عن ضرب ملف العدالة الاجتماعية وإهدار حقوق الطبقة الإقطاعية المصرية بقرار ديكتاتوري كهذا لم يُعوّضوا عليه!
إن الغرض من هذه الشروط كان بوضوح ترسيخًا لسيادة الدولة على الأمة، لتنميط المجتمع وجعله غير قابل للتنوع ومن ثم القدرة على "تقويم السلطة" أو "تغييرها" إذا لزم الأمر، بل أصدر عبد الناصر ثلاثة قوانين أخرى في غاية الخطورة..
 الأول: المرسوم بقانون رقم 180 لعام 1952م أي في أول خمس شهور من حكم الثورة والقاضي بإلغاء الوقف الأهلي ووضع الدولة يدها بشكل كامل على الأوقاف عبر وزارة الأوقاف التي سلمت هذه الأوقاف بشكل أو بأخر إلى الهيئة العامة للإصلاح الزراعي، وترتب على ذلك ضرب الركيزة الاقتصادية للأزهر وعلمائه.
الثاني: إلغاء المحاكم الشرعية بقانون رقم 462 لعام 1955م.
الثالث: قانون تنظيم الأزهر رقم 103 لسنة 1961م وهذا القانون و إن كان أعاد تنظيم الأزهر فعلا وقسّمه إلى هيكل تنظيمي جديد لكنه ربط هذا التنظيم كله بجهاز الدولة وخاصة رئاسة الجمهورية بشكل مباشر, فشيخ الأزهر ووكيل الأزهر ورئيس جامعة الأزهر يعينهم رئيس الجمهورية.
هذه القوانين الثلاثة التي صدرت في خلال السنوات التسع الأولى لحكم ثورة 52 جعلت الدولة تسيطر على المؤسسة الدينية الكبرى واقتصادها في العالم الإسلامي كله؛ ليتحول دورها من المتبوع في أقطار الأرض، إلى التابع لسياسة النظام الناصري ثم الرأسمالي الليبرالي في حقبة السادات ومبارك، وقد تم تغيير هذا القانون أخيرا لكنه في حاجة ماسّة إلى المراجعة من البرلمان القادم إذ أصدره المجلس العسكري بمعية شيخ الأزهر الحالي وهو أبرز رجال الحزب الوطني المنحل سابقًا!
إن هذه التركة الثقيلة من تزييف الوعي، وترسيخ صنم المركزية التي تناقض بل تضاد مقصد الحضارة الإسلامية والإسلام نفسه في جعل الشعوب أصحاب القرار الحقيقي وليس فئة أو جماعة وظيفية وطّنها المحتل أو المستعمر في بلداننا بحاجة إلى تغيير وإعادة نظر كبير!
ومن ثم يبقى أمام الرئيس المصري الجديد الذي من المفترض أنه يتكئ على هذه المنظومة الإسلامية الحضارية التي تحرّر الشعوب من صنم المركزية السياسية "الغاشمة" وأيدولوجيتها الواحدة عبر أذرع الدولة من أول جهازها الإداري مرورًا بالإعلام وانتهاء "بالإسلام المؤمّم" في مساجد "الدولة" تحد كبير .. فهل سيسعى الرئيس مرسي إلى هذا أم سيرى أن الأسهل والأقرب - لطبيعة تكوينه "التنظيمي المغلق" في جماعة الإخوان المسلمين - أن يرث نظامًا "ديكتاتوريًا" في جوهره فقط ليحسّن بعض الأوضاع الاقتصادية والسياسية والإدارية، ثم يُسلّمه إلى خلفه وهكذا ليبقى جوهر النظام وبنيته لا تمسّه يد التقويم وإعادة الهيكلة؟
أفهم أن هذه القضية قد لا تشغل بال المصري الغارق في مشاكله اليومية لكنها لُب الصراع بين من يريدون إقامة دولة مدنية بمرجعية إسلامية وبين التبعية الكاملة للأمريكان/"منظومة العولمة" الذين رأوا نجاعة "المركزية الشمولية وتولية فرد على رأسها" منذ تخطيط السي آي إيه لأول انقلاب عسكري في العالم العربي قام به حسني الزعيم في سوريا في 30 مارس 1949م وإلى الآن!
نُشر في جريدة المصريون ورابطة النهضة والإصلاح



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق