الجمعة، 21 سبتمبر 2012

محي الدين الريس بين جنبات غاليبولي!



بين جنبات المدينة العريقة غاليبولي التي تقف راسخة أمام موجات البحر المتوسط المتلاطمة ولد بيري رئيس محي الدين بن حاجي محمد ما بين عامي 1465م - 1475م/ 870هـ - 880هـ، وعمه كمال رئيس أشهر قباطنة البحر العثمانيين، وقائد الأسطول العثماني في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلادي([1]).
لقد كان لغاليبولي الواقعة على بحر مرمرة أثرها الكبير في تنشئة وتربية هذا البطل الجديد، حيث كانت هذه المدينة تُستخدم كقاعدة بحرية في ذلك الوقت مما زاد من أهميتها؛ وعن أبناء غاليبولي يقول المؤرخ العثماني ابن كمال: "إن أبناء غاليبولي أمضوْا حياتهم في البحر كالتماسيح، وكانت أَسِرَّتهم القوارب، وهدهدتهم البحر والسفن ليلاً ونهارًا"([2]).
ويبدو أن العثمانيين سعَوْا منذ بداية دولتهم في الأناضول إلى ضم هذه المدينة الإستراتيجية التي تقع في الجانب الأوربي؛ فقد فتحوها منذ عهد السلطان أورخان بن عثمان في عام 758هـ = 1357م، وأصبحت منذ ذاك التاريخ مقر القيادة العامة البحرية حتى اختيرت العاصمة إسطنبول مقرًّا جديدًا - بجانب غاليبولي - في عهد السلطان سليم الثاني في سنة 1520م، أي ظلت غاليبولي مركزًا بحريًّا وعسكريًّا مهمًّا طيلة قرنين من الزمن، وهي بلا شك فترة تدلل على عظم هذه المدينة ومكانتها([3]).
وقد اعتمد سلاطين بني عثمان على سفن ترسانة غاليبولي في محاولاتهم المتتابعة في محاصرة إسطنبول وفتحها؛ فقد استخدمها بايزيد الصاعقة في محاصرته إسطنبول([4])، فلما فتحت واختيرت مقرًّا جديدًا لقيادة القوات البحرية، فإن ذلك لم يدفع العثمانيين لإهمال ترسانة غاليبولي؛ فقد حافظوا عليها مدة طويلة حتى جرى توسيعها في القرن السادس عشر، ومما يدلل على أهميتها الإستراتيجية بعد فتح القسطنطينية أن القبطان باشا - قائد البحرية العثمانية وهو المسئول عن كل ما يتعلق بالشئون البحرية – كان يقيم حتى أواسط القرن السادس عشر في غاليبولي.
وكان للقبطان باشا عدد غفير من الرجال يعملون تحت إمرته؛ إذ كان مكلفًا باصطحاب عدد كبير من الجنود إلى الحرب يتناسب وحجم الإقطاع الذي يتصرف عليه، وكان عدد كبير من جزر بحر إيجه والبحر الأبيض المتوسط يشكل كل منها سنجقًا تابعًا للقبطان باشا في غاليبولي، وعند وقوع حرب بحرية كان عدد الجنود الذين تخرجهم الإيالة يبلغ 4500 جندي، عدا جنود العزَب([5]) البالغ عددهم 1893، كما كانت الجزائر وتونس وطرابلس الغرب قادرة على إخراج قوة يتراوح عدد جنودها بين 3000 إلى 5000 جندي تابعة لغاليبولي، هذه الأرقام والإيالات التابعة كلها لغاليبولي تدلل على البعد العسكري العظيم الذي تمتعت به هذه المدينة الكبيرة([6]).
وبجانب اتخاذ غاليبولي مقرًّا للقيادة البحرية العثمانية، فقد بنى العثمانيون في عهد مراد الأول (ت 1389م) مدرسة حربية في غاية الأهمية بها؛ هي "أوجاق العجمية" وهم خُمس أسرى الحرب من الفتيان الأجانب؛ فقد استفادت الدولة من هؤلاء عن طريق إلحاقهم بهذا الأوجاق؛ الذي كانت مهمته تعليمهم العلوم العسكرية، وتأهيلهم لسد حاجات الجيش العثماني كاملة؛ وهي وظيفة في غاية الأهمية، ومن ثم فقد كان أوجاق العجمية في غاليبولي من أهم الأوجاقات في الدولة كلها، وكانت مصادره بجانب أسرى الحرب تأتي عن طريق فتيان الرعايا المسيحيين طبقًا لقانون "الدوشيرمة"([7]).
ومما يؤكد الأهميةَ الكبيرة التي كانت تتمتع بها غاليبولي أن الأمير مصطفى عم السلطان مراد الثاني كان قد خرج على ابن أخيه، وكان أعداء العثمانيين وعلى رأسهم الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني يؤيده ويدعمه في حصاره لمدينة غاليبولي، لكن محاولته باءت بالفشل، وقضي عليها عام 1430م([8]).
وكان لغاليبولي أنشطة أخرى كثيرة بجانب كونها أكبر ترسانة عثمانية في أوربا ومقرًّا لأوجاق العجمية؛ فقد كانت مقرًا لكبار العائلات التجارية مثل عائلة المؤرخ العثماني الشهير مصطفى عالي (ت1600م)([9])، ذلك لأنها كانت مركزًا من مراكز طرق التجارة العثمانية في أوربا([10])، كما كانت مقرًا لكثير من زوايا الصوفية ورباطاتهم، فقد أنشأ بها السلطان مراد الأول زاوية كبيرة لصوفي يُدعى آخي موسى، وأوقف عليها أوقافًا غنية([11])، ومن ثم كثُر أتباع الحركات الصوفية في غاليبولي الذين كان لهم شأن في المجال العسكري والحربي، وهذا مما يغيب عن كثير من الباحثين الذين يستدعون صورة الصوفية التقليدية لدى الحديث عن الصوفية في الدولة العثمانية، ومن أشهر هذه الطرق في غاليبولي النوربخشية أو الذهبية التي كانت تتبع لشمس الدين محمد بن علي الحسيني ختن السلطان بايزيد الصاعقة([12]).
ويبدو أن غاليبولي قد تعدت أهميتها من مجرد كونها مدينة عسكرية إلى مجموعة من الوظائف المتنوعة الأخرى؛ إذ كانت إحدى المراكز الأساسية لضرب العملة العثمانية، بل كانت تحوي إقطاعات تُدر آلاف الأقجاوات([13]) سنويًّا ينفق ريعها على بعض المؤسسات الكبرى في الدولة؛ مثل المؤسسة الصحية المشرفة على السراي السلطاني؛ فقد كان الحكيمباشي رئيس هذه المؤسسة يحصل لقاء وظيفته على مخصصات سنوية كبيرة تأتي من إقطاع "آربه لق" في غاليبولي([14]).
ومن خلال هذه اللمحة السريعة عن غاليبولي يمكن أن نستشفّ أنها كانت قلبًا نابضًا، وجسدًا يعجّ بالحياة، ومركزًا رئيسًا من مراكز الدولة العثمانية، وهي من هذا المنظور مدينة متقدمة بمقاييس ذلك الزمن؛ فهي مدينة دينية عسكرية اقتصادية كان لها شأنها في القرون الوسطى.
ولذلك أثّرت هذه المدينة العريقة في محي الدين الريس منذ نعومة أظفاره، فبها نهل تعليمه الأَوَّلي، ونقصد التعليم المدني، وكان ذلك في أعوامه الاثني عشر الأولى من عمره بحسب آراء المؤرخين، ثم ما لبث أن انتقل للعمل في البحرية العثمانية، شأنه في ذلك شأن كثير من أقرانه الغاليبوليين.
وإن محاولة منا لرصد طبيعة التعليم العثماني في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، سوف تتيح لنا معرفة تكاد تقترب من واقع بيري رئيس في تلك النسمات الأولى من عمره.
 لقد كان التعليم في الدولة العثمانية يرتبط بالدرجة الأولى - كما هو الحال في الدول الإسلامية التي سبقتها - بالمدارس الدينية، وهذه المدارس أقيمت في بداية الأمر في المساجد أو ملحقة بها، ثم أصبحت لبعض منها بمرور الزمن مبان مستقلة، ويعود تاريخ إنشاء أول مدرسة عثمانية مستقلة إلى سنة 1331م حيث تأسست مدرسة في مدينة إزنيق قرب بورصة العاصمة القديمة للعثمانيين، وأقيمت المدارس العثمانية بشكل عام لإعداد عاملين في المؤسسات القضائية والدينية كالقضاة والمدرسين والمفتين، وكان المستوى التعليمي في هذه المدارس عاليًا جدًّا لما كان يتمتع به مدرسوها من كفاءة عالية في العلوم الدينية. وفضلاً عن العلوم الدينية كان يتم تدريس العلوم المعروفة في ذلك الوقت كالفلسفة والرياضيات والمنطق والفلك والهندسة والتاريخ.
وفضلاً عن المدارس الدينية هذه شهدت الدولة العثمانية مدراس أخرى غير دينية منها مدارس السراي التي أنشئت لتعليم أولاد العائلة العثمانية وإعداد موظفين للعمل في السراي، والمدارس العسكرية لإعداد ضباط عسكريين وموظفين لدوائر الدولة، ومدارس الموظفين التي أنشئت لإعداد موظفين من غير الأتراك وعلى وجه الخصوص من الأسرى والمماليك للعمل في دوائر الدولة، وأخيرًا المدارس الأهلية ومنها مدراس الصبيان([15]).
ولنا أن نستنتج من خلال هذا العرض المبسط لنظام التعليم عند العثمانيين أن محيي الدين الريس التحق بإحدى مدارس الصبيان الموقوفة أو ما يُسمى في المشرق بـ"الكُتّاب" في خلال هذه الأعوام الاثني عشر الأولى من عمره، وقد كانت هذه المكاتب تقام داخل المجمعات (كلية معمارية) وفي جوار المساجد أو في مبان مستقلة يتولى تشييدها ووقفها بوجه عام رجال الدولة والسلاطين؛ ويرى الدكتور أكمل الدين أوغلي أن مكاتب الصبيان كانت منتشرة في كافة أرجاء قرى ونجوع وأحياء الدولة العثمانية؛ ذلك أنها لم تكن تكلف السلاطين ورجال الدولة شيئًا كثيرًا، وكانت هذه المكاتب تضم الصبية من الذكور والإناث معًا، أو تقام لكل منهما أبنية مستقلة، وكانت العادة أن يلتحق الطفل بهذه المكاتب عند بلوغ سن الخامسة، ويبدأ دروسه فيها باحتفال مفعم بالحركة والحيوية يُقال له "احتفال آمين" أو "بدء البسملة"، ولم تكن هناك – في الغالب – شروط للقبول والانخراط في تلك المدارس؛ إذ تستطيع كل عائلة مسلمة أن تلحق أطفالها بها، وكانت وظيفة هذه المكاتب بوجه عام تعليم الأطفال القراءة والكتابة وتلقينهم مبادئ الدين الإسلامي وتحفيظ القرآن الكريم، ولم يكن الصبي يتخرج من هذه المكاتب ليلتحق بالمدارس المتخصصة إلا وقد تعلم الأبجدية وتلاوة القرآن وحفظ سوره، وقواعد الدين الأساسية والتجويد والكتابة والعمليات الحسابية، وكانت لغة التدريس في تلك المكاتب – في الغالب – باللغة التركية([16]).



([1]) فيصل عبد الله الكندري: الملاح والجغرافي بيري ريس ص7.
([2]) عفت إينان: مقال بعنوان "أمير البحر العثماني بيري رئيس: حياته وأعماله" ترجمة عبد الرحمن كيلاني، مجلة الفسطاط التاريخية على الإنترنت.
([3]) هاملتون جب وهارولد بوين: المجتمع الإسلامي والغرب 1/142.
([4]) حاصر بايزيد الصاعقة اسطنبول مرتين، الأولى عام 1395 أو 1396م بحسب اختلاف الروايات، والثانية بعد فتوحاته في اليونان والبلقان عام 1402م، ومن اللافت أن غاليبولي في عهد بايزيد الصاعقة لم تكن مجرد ترسانة بحرية تمد القوات العثمانية بجديد سفنها؛ فقد كانت بجانب ذلك مركزًا أساسيًّا من مراكز إمداد البارود للمدفعية العثمانية. برنارد لويس: إسطنبول وحضارة الخلافة الإسلامية، ترجمة سيد رضوان علي ص16، ومباهات كوتوك: الدولة العثمانية، الباب السابع 1/739.
([5]) من فرق الجيش العثماني.
([6]) أوغلو: السابق 1/418، 419.
([7]) كان هدف هذا القانون انتقاء الفتيان المسيحيين الأشداء ذوي اللياقة لتجنيدهم ضمن جنود "القبوقولية" أي الجنود المشاة المستخدمين في عمليات النقل وتشغيل المناجم وبناء القلاع والترسانة، كما كان بعض هؤلاء الفتيان يؤخذون لخدمة السراي السلطاني في العاصمة، فكانوا يأخذون مكانهم بين أرفع الكوادر في الدولة، وكان قانون الدوشيرمة يطبق في الجانب الأوربي في الدولة، لكنه طبق في كامل الأناضول ابتداءً من أواخر القرن الخامس عشر، ومن ثم شمل كافة المسيحيين في أراضي الدولة العثمانية، وعلى ذلك لم تفرق الدولة العثمانية في نظامها التجنيدي بين مسلم ومسيحي. أوغلو: السابق 1/383.
([8]) إسماعيل أحمد ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الحديث ص44، 45.
([9]) أكمل الدين إحسان أوغلو: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة 2/499.
([10]) كانت غاليبولي مقرًّا مهمًّا لجلب الأقطان والمنسوجات التي كان يستخدمها الجيش العثماني في الأشرعة والقلوع بمقادير كبيرة. مُباهات كوتوك. أوغلو: الدولة العثمانية، تاريخ وحضارة، الباب السابع 1/704، 749.
([11]) أكمل الدين أوغلو: السابق 2/178.
([12]) أكمل الدين أوغلو: السابق 2/182.
([13]) وحدة نقدية من العملات الفضية في العصر العثماني، مضروبة من الفضة منذ عهد أورخان بن عثمان، تذكرها المصادر الأجنبية عادة باسم ASPER. مصطفى عبد الكريم الخطيب: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ص12، 13.
([14]) أوغلو: السابق 1/529، 669.
([15]) فاضل بيات: مقال بعنوان "قصة تأسيس أول جامعة عثمانية"، جريدة الغد الأردنية، 12/1/2006م.
([16]) أكمل الدين أوغلو: السابق، الباب الرابع 2/449، 450.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق