الثلاثاء، 9 أكتوبر 2012

محي الدين الريس .. قرصاناً!!

بلغ الفتى محي الدين الريس اثني عشر عامًا، وانتهى من مرحلة الدراسة الأولية في الكُتَّاب كما مرّ بنا في المقال السابق؛ تلك التي تلقَّى فيها القواعد الأولى في التربية والتعليم، لكن محي الدين كان يحلم أن يكون كعمه البحارة الشهير، وقائد الأسطول العثماني كمال ريس؛ فلم يكمل نظامه الدراسي في المدارس التقليدية أو المتخصصة بعدما اجتاز مرحلة التعليم الأوَّلي، فهو ابن لغاليبولي تلك المدينة البحرية العظيمة التي كان لتقاليدها البحرية والعسكرية أكبر الأثر فيه وفي أقرانه الآخرين، فضلاً عن وجود شخصية عظيمة يمتُّ لها بصلة كعمه المجاهد الغازي كمال ريس. 
 لقد التحق محي الدين بالبحرية العثمانية في الفترة ما بين عامي 1477 و1482م، وهذه الفترة كانت تشهد بزوغ نجم عمه كمال ريس نتيجة لنشاطه البحري المكثف والدءوب.
لقد أمضى كمال رئيس السنوات الأربع عشرة الأولى من حياته البحرية قرصانًا([1])، كما اقتضت العادات في ذلك الوقت. وعندما أصبح كمال قوة ذات اعتبار في البحر، من خلال جهوده الشخصية، حظي على اعتراف ومكانة رسمية من الحكومة العثمانية ولطاقمه القيم صاحب الخبرة([2]).
وبدأت قدراته القيادية في الظهور منذ أواخر العقد السابع من القرن الخامس عشر الميلادي، وكانت إستراتيجية الدولة حينها (في الفترة ما بين عامي 1460 إلى 1480م) تقضي بالسيطرة على البحر الأسود، والقضاء على خطر "آل كومنين" المستقرين في "طرابزون([3])"، والسيطرة على خانات القرم، فضلاً عن تأمين المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية للدولة في الجزر القريبة من شبه جزيرة البلقان؛ وقد عقد السلطان محمد الفاتح هدنة مدتها ستة أشهر مع البندقية، الأمر الذي سمح لأسطول أحمد باشا، وقائده كمال ريس – الذي كان لا يزال قرصانًا([4]) - بالعمل في البحر الأسود؛ ففي 874 هـ / 1470م، استولى على "إيوبوا Euboea" اليونانية([5])، وفي يونيو عام 1475م استولى هذا الأسطول على كافَّا في القرم، ثم على تانا الواقعة على بحر آزوف، وكانت تلك هي نهاية وجود جمهورية جنوة في البحر الأسود الذي أصبح بحيرة عثمانية استمرت تحت يد العثمانيين طيلة قرنين بعد ذلك([6]).
وقد لفت كمال ريس الأنظار في عام 1480م بسيطرته على جزيرتين مهمتين من جزر"الأونيون([7])" في حملة بحرية موجهة تحت قيادة الوزير الأعظم السابق جك أحمد باشا([8]).
ويبدو أن محي الدين كان مع عمه في هذه الحملة؛ فقد كان لا يزال قرصانًا في الخامسة عشر من عمره، ويصرح كراتشكوفسكي المستشرق الروسي الشهير في كتابه القيم "تاريخ الأدب الجغرافي العربي" أن بيري (محي الدين) ريس كان كخاله كمال ريس ومعاصره خير الدين بربروسا لم يفرق دائمًا بين دور القرصان الغاشم وأمير البحر التركي الذي يعمل في خدمة الدولة العثمانية، ويلوح - في نبرة تصاعدية اتهامية – أن الدولة نفسها لم تستطع أن تفصل بين هذين الدورين، وخير مثال لهذا بربروسا([9]).
وكراتشكوفسكي -على ما يبدو- مشبع بالأدبيات البحرية الأوربية والإيطالية بصفة خاصة، تلك التي كانت تصف بربروسا وكمال ريس بالبرابرة المتهورين، ولكن أستاذًا متخصصًا في التاريخ العثماني وهو الدكتور محمد حرب يرد على هذه الفرية بقوله: "وأحب أن أنبه هنا إلى أن مفهوم القرصان في اللغة العثمانية لم يكن يعني المفهوم السائد الآن من السلب والنهب، وإنما كان نوعًا مما يمكن تسميته الميليشيات البحرية أو المتطوعين البحريين، بمعنى قوات بحرية، يقودها ويعمل فيها - وعلى سفن خاصة - أشخاص لا ينتمون رسميًّا إلى القوات الحكومية التي تسيطر عليها الدولة العثمانية، ومهمة القراصنة كانت مهاجمة القوات البحرية الصليبية المعادية. والجدير بالقول هنا أن القرصنة العثمانية أدت دورًا رائعًا في إنقاذ حياة المسلمين في الأندلس، والمحافظة على أرواحهم وممتلكاتهم عندما غادروا إسبانيا مطرودين أو فارين، قصد التوجه إلى ملجأ ما... وكان دور القرصنة العثمانية حماية سفن ومراكب هؤلاء المهجرين الفارين بأرواحهم وممتلكاتهم ودينهم من غدر السفن الأوروبية التي كانت تقف لهم بالمرصاد، وكانت المهمة الثانية للقرصنة العثمانية إيجاد مأوى لهؤلاء المسلمين الأندلسيين"([10])، ولم يقتصر الأمر على إنقاذ المسلمين وحدهم بل نجا في هذه العمليات كثير من اليهود الذين لم يجدوا منقذا ولا ملجأ إلا الدولة العثمانية المسلمة، وكان يتم هذا أحيانًا تحت القصف كما في قصف مالقة سنة 892 هـ / 1487م ([11]).
نعم؛ لقد كان لكمال ريس ومحيي ريس دورهما المحوري العظيم في غرب البحر المتوسط خاصة في إغاثة مسلمي الأندلس الهاربين من بطش الإسبان وملوكهم؛ فقد أرسل مسلمو الأندلس رسائل الاستنصار والاستغاثة لكل من السلطان المملوكي في القاهرة الأشرف قايتباي والسلطان العثماني في إسطنبول بايزيد الثاني، ورغم الخلاف الذي كان قائمًا بينهما وقتها؛ فقد تناسياه وعقدا اتفاقية ومعاهدة بينهما في حدود عام 1487م، تم بموجبها إرسال بايزيد أسطولاً على سواحل صقلية لكونها تابعة لمملكة إسبانية، وأرسل السلطان المملوكي بعوثًا من جهة إفريقيا([12]).
وقد أرسل السلطان بايزيد الثاني أسطولاً عثمانيًّا تحول إلى الشواطئ الأسبانية، وقد أعطى قيادته إلى كمال ريس الذي كان معه ابن أخيه محي الدين؛ فاتخذا من مدينة "جربة" التونسية قاعدة لأسطولهما([13])، وقد أدخل هذا الأسطول الفزع والخوف والرعب في الأساطيل النصرانية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، كما شجع السلطان بايزيد المجاهدين في البحر بإبداء اهتمامه وعطفه عليهم، وكان المجاهدون العثمانيون قد بدءوا في التحرك لنجدة إخوانهم المسلمين([14]).
وصل الأسطول العثماني الذي ضم كمال ريس وابن أخيه ذا العشرين عامًا محي الدين([15])، إلى جنوب إيطاليا لمهاجمة الدول والمدن الإيطالية التي قد تعوق مسيرته والتي تساعد الإسبان في مهاجمتهم للمسلمين؛ فأعلن الحرب على نابولي وصقلية في الجنوب الإيطالي، ثم هاجم أرغون وقسطاليا([16])، واستطاع الأسطول العثماني أن يدخل إلى المياه الإقليمية الإسبانية لينجح في استعادة السيطرة على مدينة مالقة التي سقطت في عام 891هـ = 1486م، وكم كان من المؤسف أن هذه القوة البحرية العثمانية اضطرت إلى مواجهة الدولة الحفصية في تونس لكونها تقوم بمساعدة الفرنسيين المناوئين والمساعدين للإسبان، ومن ثم لم تؤد هجمات هذه القوة البحرية إلى نتائج ملموسة.
وفي عام 897هـ = 1492م استسلمت مدينة غرناطة وانتهى حكم المسلمين في الأندلس، ولكن قامت هذه القوة البحرية بنقل ما يقارب 300 ألف من المسلمين التاركين بيوتهم، والهائمين على وجوههم من الأندلس، ونقلتهم إلى المغرب والجزائر، ولا شك أن هذه التجربة المؤلمة قد أثّرت أشد التأثير في محي الدين الدين الريس وهو في عمر الشباب؛ لتحدد له هدفًا جبارًا يتضح بشكل ملموس في جهاده المستقبلي للبرتغاليين والإسبان في البحر المتوسط والخليج العربي([17]).
ولا شك أن هناك مجموعة من الأسباب قد أدت إلى فشل هذه الحملة، منها الحرب الأهلية العثمانية([18]) وتصرفات جم([19]) المشينة التي كانت سببًا أعاق حركة التوسع الإقليمي وعرقلت السلطان بايزيد عن العمل الخلاق، وأصبح اهتمام السلطان منصبًّا على تعقب أخبار أخيه والعمل على التخلص منه بكافة الوسائل([20]). والصراع الذي قام بين المماليك والعثمانيين مرة أخرى عقب توقيع الهدنة والاتفاق - والذي تم بموجبه التعاون على نجدة أهل الأندلس – كل هذه العوامل كانت من الأسباب الرئيسة في سقوط الأندلس.
ولكن يُحمد للدولة العثمانية أنها على الرغم من كل مشاكلها قد قامت بترتيب 23 هجومًا على الإسبان بهذه القوة تحت قيادة كمال ريس – بسبب أحداث الأندلس – حتى عام 916هـ = 1510م، ولكن نظرًا لعدم تعاون الدول الإسلامية القريبة، بل لكون هذه الدول مشكلة إضافية أمامها، وكذا بسبب وجود حرب بينها وبين المماليك، فلم تستطع هذه القوة الوصول إلى نتيجة إيجابية([21]).
وكانت الـ13 أو 14 عامًا الأولى التي لازم فيها محيي الدين ريس عمه كمال ريس - ونقصد في الفترة الممتدة من عام 1477 إلى عام 1490م - كانت تهدف لتحقيق هدف بحري عظيم، تمثّل في مهاجمة السفن الأوربية خاصة الإيطالية والفرنسية والإسبانية – على ما مر بنا – وهذه المرحلة هي التي شهدت أحداث الأندلس الآنفة الذكر، ولا شك أنه بملازمة محي الدين ريس لعمه كمال ريس؛ فقد اكتسب محي الدين خبرة عملية كبيرة في الملاحة؛ فقد كان عمه يقدم له عصارة علمه وتجاربه([22])، وفيما بين السادسة عشرة والسابعة عشرة من عمره استطاع الفتى محي الدين تكوين حصيلة معلومات جيدة عن سواحل البحر المتوسط([23]).
ونتيجة هذا الاحتكاك العثماني الأوربي فقد امتزجت خبرة محي الدين الشخصية مع الرغبة في التعلم من الأوربيين، ولا سيما الإيطاليين، حيث كثيرًا ما كان يستغل محي الدين الأسرى الأوربيين لتزويده بآخر ما لديهم من معلومات وتطورات في مجال الملاحة، وهذه الخبرة العملية والعقلية المتفتحة والشغوفة بتلقي العلم – مهما كان مصدره – أوجدت عقلية مبدعة جعلت محي الدين من أبرز من عمل في رسم الخرائط ووصف البحار، إن لم يكن من أعظم الجغرافيين العثمانيين.
وقد تأكد كمال ريس من قدرة ابن أخيه، ونشاطه الملحوظ، ليس في البحر فقط، وإنما في المجال الكارتوغرافي أيضًا؛ ولذلك ففي حدود عام 1490م عَيَّنه عمُّه – تحت إشرافه - قائدًا لفرقة بحرية تُسمى عزاب([24]).




([1]) أنشئ الأسطول العثماني بقصد مواجهة أسطول البندقية، ثم ما لبث أن تطور وأصبح يخدم السياسة العثمانية في غرب المتوسط وفي البحرين الأسود والأحمر والمحيط الهندي والخليج العربي، وكان الأساس الذي قام عليه الأسطول العثماني هو سفن القراصنة من رعايا الدولة الذين كانوا يفضلون الاستيلاء على السفن المملوكة لغير المسلمين، ولهذا خصص الأسطول العثماني بعد إنشائه قسطًا كبيرًا من أوجه نشاطه لسفن مملوكة امتلاكًا خاصًّا، ومن ثم فحتى عام 1494م ظل كمال ريس وابن أخيه محي الدين ريس قراصنة يعملون في كنف الأسطول العثماني، وسوف نتعرف على ذلك بالتفصيل. أحمد عبد الرحيم مصطفى: في أصول التاريخ العثماني ص128، 129.
([2]) عفت إينان: السابق.
([3]) هي عاصمة محافظة طرابزون الآن، تقع في شمال شرق تركيا على ساحل البحر الأسود، وهي أكبر وأهم ميناء على سواحل البحر الأسود.
([4]) سنتعرف على حقيقة عمل القراصنة العثمانيين بعد قليل.
([5])J. B. Harley, David Woodward: “The History of Cartography” p. 267.
([6]) روبير مانتران: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة بشير السباعي 1/143.
([7]) أي جزر اليونان، وكان الأتراك يُطلقون عليها أنيون. الدغيم: أضواء على البحرية العثمانية ص390.
([8]) هاملتون جب وهارولد بوين: السابق ص142.
([9]) إغناطيوس كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم 2/558.
([10]) محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة ص468.
([11])J. B. Harley, David Woodward: “The History of Cartography” p. 267.
([12]) ألفيكونت دو شاتو بريان: آخر بني سراج مذيلاً بخلاصة تاريخ الأندلس لشكيب أرسلان ص267.
([13])J. B. Harley, David Woodward: “The History of Cartography” p. 267.
([14]) علي محمد الصلابي: الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط ص173.
([15]) ذكر كراتشكوفسكي أنه من الممكن أن محي الدين ريس قد شارك مع عمه في المغامرات البحرية الكبرى في غرب البحر المتوسط (ويقصد بذلك نجدة العثمانيين للأندلسيين، خاصة لدولة غرناطة آخر معاقل الإسلام في إسبانيا عام 892هـ=1487م)، وكان عمر محي الدين ريس وقتها بين 17 و22 عامًا طبقًا لتاريخ مولده المذكور آنفًا. كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي العربي 2/588.
([16]) من دول النصارى في الأندلس، اتحدتا في عام 874هـ/1469م رسميًّا في حربهما ضد الإسلام والمسلمين. أحمد آق كوندوز وسعيد أوزتوك: الدولة العثمانية المجهولة ص204.
([17]) أحمد آق كوندوز وسعيد أوزتوك: الدولة العثمانية المجهولة ص203، 204.
([18]) راجع: روبير مانتران: تاريخ الدولة العثمانية 1/152.
([19]) جم: أخو السلطان بايزيد؛ خرج عليه مطالبًا بأحقيته في السلطنة؛ إذ كان الأكبر سنًّا، تارة بالاستعانة بفرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس، وتارة بالتجائه بالمماليك في مصر. روبير مانتران: تاريخ الدولة العثمانية 1/152- 154.
([20]) أحمد عبد الرحيم مصطفى: في أصول التاريخ العثماني ص74، 75.
([21]) أحمد آق كوندوز: السابق ص206.
([22]) حيدر ألباجوت وكورت أوغلو: كتاب البحرية نقلاً عن الكندري ص9.
([23])J. B. Harley, David Woodward: “The History of Cartography” p. 267.
([24]) فيصل الكندري: السابق ص8.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق