في 30 يونيو تسلّم الرئيس المصري الجديد تركة محملة
بفساد مركب، فساد كان ولا يزال يتحاكى عن حجمه الركبان، فلطالما تعجب القذّافي –
وهو الديكتاتور النموذج !!– عن سرّ بقاء الدولة المصرية حتى الآن برغم النهب الذي
تعرّضت له آلاف السنين، وهو سؤال في محله إذا علمنا أن شعبًا يقدر رسميا ب90 مليون
مواطن الآن قادر رغم ما مر به من فساد ونهب الزعماء السابقين وألاضيشهم والطبقة
المتسلقة التي استفادت بقربها منهم، على العيش والاستمرار بل والتطلع لإقامة أمة
ذات سيادة وكرامة وعزة وأمجاد!
وزاد على هذا الفساد المركب في كل أجهزة ومؤسسات الدولة
بلا أدنى مبالغة أن تسلّم مرسي دولة ينازعه في حكمها رأس ثانية ممثّلة في المجلس
العسكري ممثل الدولة العسكرية التي اعتبرت نفسها الواصية على الدولة المصرية منذ
انقلاب 52م، وظل مرسي طوال شهر ونيف يحاول التملص من القيد الذي وضعه سامي عنان
وحسين طنطاوي من خلال الإعلان الدستوري المبكل الصادر يوم 17 يونيو قبيل الإعلان
عن نتيجة الانتخابات، وقد استطاع مرسي أخيرا أن يقيلهما يوم 12 أغسطس الماضي في
لحظة تاريخية فارقة ظل مرسي قبلها منزوع الصلاحية غير مرهوب الجانب ممن أخذوا
وكالة الثورة المصرية، وميراث النظام البائد!
ومن 12 أغسطس وحتى اليوم شهران آخران بدأت قضايا الفساد
فيهما تظهر، وبدأت الاتهامات تحوم حول كل من تسبب في نهب هذه البلد، مع محاولات
تحسين الظروف الاقتصادية التي أقرت بها كبرى المؤشرات العالمية، ثم وضع مصر في
الخريطة الإقليمية والأفريقية والعربية والدولية وهو ما نلاحظ تقدمه بلا أدنى ريب.
في ظل هذا المشهد الكبير بين الفساد المركب والمتجذر،
وبين محاولات الرئيس الجديد المنتخب لأول مرة منذ عقود – حتى إن الأمر كالحلم
للكثيرين حتى الآن – الحثيثة والجادة لتحسين الخدمات والاقتصاد وخلافه، في ظل هذا
المشهد المعقد الذي يفهمه أبسط المصريين ثقافة، بحيث يقررون بكل حكمة أن يعطوا
للرئيس الجديد المهملة الكاملة لإتمام وعوده تأتي المعارضة المصرية الليبرالية
اليسارية منها بالتحديد لتقف أمام تحقيق هذه المنجزات!
إن مرسي في رؤية المعارضة عنصر من عناصر "العدو"
التقليدي للحركة الليبرالية اليسارية، فهو إخواني الفكر والسلوك والممارسة بطبيعة
الحال، وهم بحسب استطلاع أجراه موقع الجزيرة نت في الأسبوع الماضي لا يحظون بأي
ثقل أو ثقة داخل الدولة والمجتمع المدني على السواء؛ فقد كان تقييم الجماهير لهم
ولدورهم المحلي والإقليمي بل وحتى لخطابهم لا يتعدى حاجز ال8%، في حين رآهم 92%
أصحاب مواقف منافقة لا يسعون إلا لمصالحهم الخاصة.
وإذا قيل لنا إن ذلك تجنٍّ على الحركة الوطنية
الليبرالية واليسارية المصرية؛ فإن حكم التاريخ هو الفيصل بين المتخاصمين، وإننا يجب
أن نتساءل عن الدور الذي قدمه التيار اليساري والليبرالي لمصر منذ الاحتلال
الإنجليزي حتى حسني مبارك.
إن مقارنة بسيطة بين التيار الإسلامي وبين التيار
الليبرالي اليساري لترجح كفة الفريق الأول من حيث فهمه لهوية وقيم هذا البلد
والاستمساك بها وعدم الانجرار خلف المحتل أو المستعمر تلك التي حققها عن جدارة سعد
زغلول حينما أضاع ثورة 19 المجيدة بدستور لا قيمة له تم إلغاؤه من قبل الملك فؤاد
سنة 1930م، وبحكومة للترضية ظل على رأسها حتى وفاته سنة 1927م. وظلت حكومات الوفد
المتعاقبة وعلى رأسها النحّاس باشا – الذي نشهد له بالوطنية والكفاءة – ظلت تراوح
مكانها أمام التحديات الداخلية والخارجية على السواء، فتارة يمنحهم فاروق الحكم
وتارة ينزعه عنهم إذا عنّ له ذلك حتى انقلاب 52 وحركة تجميد الأحزاب، أما الحركة
اليسارية فظلت هي الأخرى تراوح مكانها حتى تماهت في الناصرية، ورأت في ديكتاتورية
عبد الناصر تحقيقًا لأحلامها الطوباوية التي لم تنفع المصريين إلا بنكستين
كبيرتين، وكان من المتوقع أن يزيحهم السادات – وهو القريب من عبد الناصر منذ
انقلاب 52 ونائبه – عن طريقه في حركة التصحيح الكبرى في مايو 1971م وظلوا فى مرمى
السادات حتى خطابه الأخير الشهير الذي فكك أفكارهم وممارساتهم العجيبة أمام مجلس
الشعب في مايو 1981م.
وبمجيء حسني مبارك تحولت الحركة العلمانية الليبرالية
اليسارية إلى الراع الجديد، حتى وسمت في عهد البائس بالمعارضة المستأنسة فلا تشكل
تهديدًا، ولا وعيدًا، بل اكتشفنا من خلال وثائق أمن الدولة المسربة حجم عمالة بعض
هذه الأحزاب، وقد كان بعضها يعادي الثورة عداء واضحًا في أولها، والمواقف معروفة
ومحفوظة وموقع يوتيوب شاهد عجيب على تاريخ هؤلاء المرئي!
إن هذا التقييم السريع والعام إذا تُرك على عنانه
وإطلاقه قد يغمط حقوق وطنيين حقيقيين في اليساريين والليبراليين على السواء، لكن
هؤلاء يعدون على أصابع اليد الواحدة.
اليوم يتحزب هؤلاء الأشاوس لمظاهرات "عارمة" كما
يظنون لمحاسبة الرئيس المنتخب على عدم الإيفاء بوعود المائة يوم، وكنا نسمع الواحد
منهم يقول عن مبارك الذي مكث 30 عامًا كاملة متواصلة يجب أن نعطيه الفرصة!!
إن المعارضة التي تشوّش على الوطن، وتصدع دماغ الجماهير
في الفضائيات والإعلام وخلافه بقضايا تافهة، هذه المعارضة التي لا تبغي من
معارضتها إلا هدم التيار الإسلامي، وعدم تحقيق المشروع الإسلامي، بل وحاكمية
الإسلام عموما كما دلت على ذلك مواقفهم وتاريخهم بل وأدبياتهم في بعض الأحيان لا
يمكن أن تكون معارضة حصيفة تبغي مصلحة الوطن العليا وأغلبيته إن كانوا يؤمنون أو
يحترمون هذه الأغلبية، وقد رأينا هذه المعارضة لا تمانع من إصدار الإعلان الدستوري
المكبل، بل علمنا أن ليبراليا شهيرا ويساريا كبيرًا قد اشتراكا في صنعه وصياغته، وبعضهم
دعا إلى استمرار حكم العسكر صراحة لمدة عامين قادمين، إنهم لم يكونوا يرون أي ضرر
في بقاء رأسين للبلد أقواهما العسكر "حامي الدولة المدنية" في نموذج
ممجوج للتجربة التركية قبل حكومة أردوغان، لكنهم يرون مصيبة في بقاء محمد مرسي الرئيس
المنتخب من الشعب الذي بدأ يسجل أهدافًا سياسية واقتصادية واستقرارا ملموسًا، إنهم
يرون مصيبة في المادة 2، و 36 اللتان تهتمان بارتباط القوانين بالشريعة الإسلامية،
واحترام مصر للاتفاقيات المتعلقة بالمرأة ما لم تخالف أحكام الشريعة الإسلامية
التي هي التخلف وضد حقوق الإنسان كما قال أحد منظريهم العباقرة منذ قريب!
إن هذه المعارضة التي تُجبر العقول النابهة، والأقلام
الرصينة، والرؤى الناضجة على الارتماء في حضن التيار الإسلامي لا لأنه معصوم من
الزلل والخطأ - فتاريخ الممارسة السياسية الخاطئة والفاشلة في بعض الأوقات للحركة
الإسلامية مما يحتاج إلى مقال مثل هذا - وإنما لأنها تبعدنا عن قصد أو سهو إلى
معركة لا يحتاجها الوطن الآن ولا غد، إن الوطن في أشد الحاجة إلى كشف الفساد،
وتطهير مؤسسات الدولة، والأجهزة الأمنية القمعية، والطابور الخامس، ومافيا الأراضي
والصحة الغاز والسولار، إلى من نهبوا الدولة عبر سنين من الذل والحرمان، هل بهذا
التشويش تسعى المعارضة إلى تحقيق مصلحة مصر العليا أم لتحريك دفة الوطن إلى عكس
الهدف المنشود، والغايات الكبرى التي قامت الثورة من أجلها، وقد رأينا
البراءات أخيرا تمنح لمن اتهموا بارتكاب
موقعة الجمل؟!
نُشر في القدس العربي اللندنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق