في هذا المقال الأخير – من سلسلة مقالاتنا عن وثيقة
المدينة – نختتم تطوافنا في استجلاء النظر في بنود هذه الوثيقة التاريخية العظيمة.
لقد نطقت هذه الوثيقة "برغبة المسلمين في التعاون
الخالص مع يهود المدينة لنشر السكينة في ربوعها والضرب على أيدي العادين ومدبري
الفتن أيا كان دينهم، وقد نصّت بوضوح على أن حرية الدين مكفولة، فليس أدنى تفكير
في محاربة طائفة أو إكراه مستضعف، بل تكاتفت العبارات في هذه المعاهدة على نصرة
المظلوم وحماية الجار ورعاية الحقوق الخاصّة والعامة واستنزل تأييد الله على أبر
ما فيها وأتقاه، كما استنزل غضبه على من يخون ويغش .. ويلاحظ أن الرسول r في هذه المعاهدة أشار إلى العداوة القائمة بين المسلمين
ومشركي مكة وأعلن رفضه الحاسم لموالاتهم وحرّم إسداء أي عون لهم. وهل ينتظر إلا
هذا الموقف من قوم لا تزال جروحهم تقطر دمًا لبغي قريش وأحلافها عليهم؟!"[1].
***
لقد أكَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - على قانونية
الدولة ودستوريتها، فهذه الوثيقة في ذاتها دليل على سيادة القانون وأهميته الكبرى
في التقارب والتعايش، فهو المشترك الذي استطاع أن يُقَرِّب بينهم بصورة توافقية،
لم يَرَوْا مثلها من قبلُ عند أي قبيلة أو مدينة، أو حتى دولة من الدول العظمى
حينها كالفرس والروم، وأنه كان من المستحيل أن يجتمع هؤلاء المتنافرون القدامى حول
المشتركات التي تجمعهم وتؤلِّف بينهم إذا لم يُوجد هناك رباط قوي يُوَحِّدهم
ويجمعهم على ما اتَّفَقُوا عليه، وكان من العبقرية الإسلامية أن "استطاعت
الدولة الجديدة أن تجعل من المدينة -التي تضمُّ عددًا كبيرًا من الأحياء العربية
واليهودية المختلفة المتنافرة، التي حكمتها الفوضى، وأنهكتها العصبية القبلية-
مدينة موحدة، وحَّدَت السكان جميعًا على اختلاف دياناتهم وخصائصهم وأعراقهم حول
إعلان دستوري مركزي هو الأول من نوعه في تاريخ الإنسانية، يخضع له الجميع، تسهر
على تنفيذه حكومة مركزية، تملك السلطة العليا في المدينة، للحاكم فيها حقوقه
ومسئولياته، وللمواطنين حقوقهم ومسئولياتهم، وللقانون كلمته وسيادته"[2].
ولذلك فإنه خوفًا من الفرقة والتشتُّت وتجدُّد الصراعات
والإحن القديمة، أكَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجود مرجعية كبرى يُلتجأ
إليها وقت الأزمات والكوارث، تمثَّلت هذه المرجعية في النبي - صلى الله عليه وسلم
- باعتباره القائد الأعلى للدولة الجديدة، قال - صلى الله عليه وسلم - في البند
رقم (25): "وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مردَّه إلى الله وإلى
محمد". وجاء في البند رقم (38): "إنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن
محمد". وهذا ما جعل كل أحياء المدينة التي كانت تعيش في فُرقة كالجسد الواحد
في الحُبِّ والمودَّة والقربى، حيث ينصُّ البند رقم (47) على أن "الجار
كالنفس غير مضار ولا آثم". أيًّا كان هذا الجار: عربيًّا أم يهوديًّا أم غير
ذلك، ومن هنا علمنا أن للقانون دوره المهم، وضرورته الملِحَّة في تقارب الأمم
والشعوب، خاصة إذا فُعِّل هذا القانون، وحُرص على تطبيقه ومراقبته.
ونَبَّهت الوثيقة إلى أن العيش المشترك الذي تُقِرُّه
بنودها لا يمكن أن يتحقَّق إلاَّ في ظلِّ المحافظة والدفاع المشترك عن أرض
المدينة؛ باعتبارها القاسم المشترك الذي يجتمع عليها كل هذا الكم من التنوعات
العقدية والثقافية والعرقية، وجاء هذا التنبيه والتحذير في البند رقم (46) الذي
يقول: "إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة". وفي البند رقم (51)، حيث
قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن بينهم النصر على مَنْ دهم يثرب". وكذلك
جاء في البند رقم (26): "إن اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين".
فالأرض إذًا مشترك ثابت لا يمكن الاعتداء عليه؛ ولهذا فإن النبي - صلى الله عليه
وسلم - يجعل الحرب الدفاعية عن الأرض حربًا عادلة مشروعة، بل حتمية لا يجب النكوص
أو التقاعس في سبيل تحصينها من كل عدوٍّ غادر.
وبمناسبة الحرب العادلة، فإن الوثيقة حذَّرت من قيام
الحروب الغوغائية التي تقوم لأسباب تافهة، ووضعت لها قيودًا وعراقيل تلافيًا
لحدوثها، ومنعت الأسباب المفضية إلى التصادم وفي مقدمتها الغدر؛ ففي البند رقم
(39) يقول - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه مَنْ فتك
فبنفسه وأهل بيته إلاَّ من ظلم وإن الله على أبر من هذا". فهذا البند يُعَدُّ
استمرارًا للبند رقم (14) الذي جاء فيه: "وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل
مَنْ بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثمًا أو عدونًا أو فسادًا بين المؤمنين،
وإن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم". والبند رقم (23) الذي جاء فيه: "وإنه
مَنِ اعتبط مؤمنًا قتلاً عن بينة قُوِّدَ به إلاَّ أن يرضى ولي المقتول (بالعقل)،
وإن المؤمنين عليه كافَّة ولا يحلُّ لهم إلاَّ قيام عليه". وهي بنود تتعلَّق
بالبغي والفساد والغدر والقتل والثأر الجامح لأتفه الأسباب، فهو يُقَرِّر أن حق
الثأر مرتبط بالقتل فقط، أمَّا ما عدى ذلك من جروح فعلاجه هيِّنٌ لا يرقى إلى سفك
الدماء وإهلاك الحرث والنسل؛ لأن دماء البشر أغلى من أن تهدر ظلمًا نتيجة إرادة
ظالمة وقوى متغطرسة، فالقضاء وحده هو الذي يُقَرِّر العقوبة ضد الجاني؛ بحيث إنها
لا تسرى إلى الأقارب والعشيرة، والذي لا يلتزم بهذا القيد يكون قد أهلك نفسه وأهل
بيته، وأصبح مهدور الدم إلاَّ إذا كان مظلومًا[3]،
والحقُّ أن هذه الشروط أو البنود الوقائية قد حافظت على سلامة وأمن المجتمع
الجديد، وأنها لو اتُّخِذَتْ نموذجًا للسير على نهجه لكان ذلك خيرًا للبشرية كلها.
كما حدَّدت الوثيقة العدوَّ المشترك، وهي الفئة الباغية
الداعية إلى الشرِّ، واللاهثة خلف استئصال قيم الخير والعدل التي حملها النبي -
صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون معه، هذا العدوُّ المشترك يتمثَّل في قريش؛ فقد
جاء في الفقرة الثانية من البند رقم (22) أن "لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا
نفسًا ولا يحول دونه على مؤمن". لأن إجارة المال القرشي هو عون مباشر أو غير
مباشر على المؤمنين في المدينة المنورة، وقد جاء التحذير بصورة مباشرة في البند
رقم (50) بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُجَار قريش ولا مَنْ
نصرها". وبهذا حَدَّدت الوثيقة بكل وضوح ماهية العدوِّ المشترك، وضوابط
التعامل معه.
كما حرصت الوثيقة على تحديد الهوية الإسلامية والدينية
للدولة الجديدة، في المؤمنين بالإسلام (العقيدة)، والقاطنين في المدينة (الأرض)،
وقد تعاملت الوثيقة مع هذين المستويين بكل وضوح، وصرَّحت على محاربة كلِّ مَنْ
يتجرَّأ على هذين المشتركين المهمين، كما في البندين رقم (41)، (42)؛ حيث قال -
صلى الله عليه وسلم -: "إن بينهم النصر على مَنْ حارب أهل هذه الصحيفة، وإن
بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم". وفي البند رقم (51) حيث الدفاع عن
الأرض كما مرَّ بنا آنفًا، وفي البند رقم (52) حيث الدفاع المستميت عن الدين؛ حيث
قال - صلى الله عليه وسلم - مخاطبًا الجانبين المسلم واليهودي: "إذا دعوا إلى
صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه
لهم على المؤمنين إلاَّ مَنْ حارب في الدين".
***
إنني في ختام هذه السلسلة من المقالات عن هذه الوثيقة
أؤكد على ما يلي:
1-
لقد أظهرت الوثيقة القاعدة الأخلاقية العظيمة التي اتكأت عليها رغبة
المسلمين في التعامل مع الآخر، وهي قاعدة لم نقف على مثلها في أمة أو حضارة سالفة.
2-
لقد احترمت الوثيقة كل الأطراف في المدينة المنورة ولم تتعامل بمنطق
الاستعلاء أو غبن الحقوق أو بث النعرات أو تفخيخ المجتمع عن طريق ميل القيادة
لطائفة من الطوائف.
3-
لقد قعّدت الوثيقة فقهًا جديدًا في حقول معرفية إسلامية لا نزال في حاجة
ماسّة للتوسّع فيها مثل: علم الاجتماع الإسلامي، علم السياسية الشرعية، علم العلاقات
الدولية، علم النفس الاجتماعي وكل ما يدور في هذا الإطار.
4-
أكدت الوثيقة أن مرد الأمر للمسلمين لا يكون إلا لمرجعيتهم الكبرى ممثّلة
في شخص النبي r في حياته ومن ثم منهجه وطريقه والتشريع الذي جاء به بعد
مماته، وأنه لا يجوز في أي من الأحوال أن يكون المسلمون في موقع الانهزامية أمام
الآخر في "حوار الحضارات" أو ما يشبه ذلك في كل الشئون والمسائل.
5-
أننا بحاجة ماسّة إلى إعادة دراسة السيرة النبوية دراسة تراعي النوازل،
وتنضبط بالشمول، وتنشر الحقائق كاملة دون اقتطاع أو لي؛ رغبة في مكاسب سياسية أو
حزبية ضيقة.
وبعدُ، فإن وثيقة المدينة تحتاج إلى دراسة متخصِّصَة
لاستقصاء الجوانب المتعلِّقَة بالمشتركات الإنسانية، وما أكثرها فيها، وقد حاولنا
في هذه الصفحات القليلة أن نُنَبِّه على أهمية هذه الوثيقة، لكن لا شكَّ أن الأمر
يحتاج إلى دراسة أعمق؛ فهي من أقدم الوثائق الدستورية في العالم، وقد استطاعت أن
تُحَقِّقَ التعايش المشترك بين طوائف كانت متباعدة كل التباعد، متناحرة كل
التناحر؛ وخاصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرص على تفعيلها وتطبيقها منذ
اليوم الأول من كتابتها، فكان ذلك دليلاً على دقَّتها وواقعيتها وأمانتها في
التعامل مع جميع الأطياف في المدينة المنورة.
نُشر في موقع الحملة العالمية لمقاومة العدوان "قاوم"
روابط ذات صلة:
أول وثيقة للعيش المشترك في التاريخ (1)
أول وثيقة للعيش المشترك في التاريخ (2)
نُشر في موقع الحملة العالمية لمقاومة العدوان "قاوم"
روابط ذات صلة:
أول وثيقة للعيش المشترك في التاريخ (1)
أول وثيقة للعيش المشترك في التاريخ (2)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق