الأحد، 27 أكتوبر 2013

من روائع حضارتنا .. الرحلةُ في طلب العلم



ظاهرة الرحلة في طلب العلم من ألصق وأبدع الظواهر الحضارية للأمة المسلمة، ومنذ انتقال الصحابة في الأمصار والبلدان المختلفة بعد حركة الفتوحات الإسلامية، ونحن نرى طلاب العلم يفدون إليهم لمعرفة حديث رسول الله r، وآرائهم الفقهية في المسائل المتنوعة، وما من تابعي من تلامذة الصحابة ومن بعدهم إلاَّ ووجدناه راحلاً إلى العراق أو الشام أو المدينة ومكة أو اليمن أو غيرها، لا يحسب للمسافات حساب، فكل همه أن ينال العلم المبتغى، ويتعلم على العلماء المرموقين في عصره.
ولقد رأينا الأمثلة الباهرة في هذا الجانب، فهذا أبو قلابة الجرمي (ت107هـ) أحد أكابر رجال الحديث في عصره يقول: لقد أقمتُ في المدينة ثلاثًا ما لي حاجة إلاَّ وقد فرغتُ منها، إلاَّ أن رجلاً كانوا يتوقَّعونه([1]) كان يروي حديثًا فأقمتُ حتى قدم فسألته([2]). أي أنه مكث في المدينة ثلاثة أيام من أجل أن يعلم حديثًا من لم يكن قد سمعه من قبل!
وأعجب من هذا، مَنْ يرحل من المدينة المنورة إلى مصر من أجل حديث واحد فقط؛ فقد روى عبد الله بن بريدة قاضي مرو (ت115هـ): أن رجلاً من أصحاب النبي r رحل إلى فضالة بن عبيد -وكان من صحابة النبي r (ت59هـ)- وهو بمصر، فقَدِمَ عليه وهو يمدُّ لناقة له، فقال: مرحبًا. قال: أما إني لم آتك زائرًا، ولكن سمعتُ أنا وأنت حديثًا من رسول الله r رجوتُ أن يكون عندك منه علم. قال: ما هو؟ قال: كذا وكذا([3]).
وكان أشهر من جسّد رحلة طالب العلم، وتجلت آثارها العلمية والتربوية عليه في العصر العباسي مجدد الإسلام محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ)، فلم يكن الشافعي رحمه الله ليصل إلى ما وصل إليه من العلم، حتى أصبح له مذهب فقهي يُعد من أشهر المذاهب الإسلامية السنية منذ القرن الثاني الهجري وحتى يومنا هذا، إلا بجده وارتحاله وصبره على الفاقة والفقر، ولقد روى العلامة ابن عساكر في تاريخه بعض معاناة الشافعي، وحرصه الشديد على الرحلة لطلب العلم، ولقائه الإمام مالك بن أنس رحمه، ومناظراته الشهيرة مع تلميذ الإمام أبي حنيفة محمد بن الحسن الشيباني، قال ابن عساكر: "... قال عمرو بن سواد: قال لي الشافعي ولدتُ بعسقلان، فلما أتى علي سنتان حملتني أمي إلى مكة، وكانت نهمتي في شيئين الرمي (بالرمح والنبل) وطلب العلم، فنلتُ من الرمي حتى كنت أصيبُ من عشرة عشرة. وسكتُّ عن العلم. فقلت له: أنت والله في العلم أكبر منك في الرمي([4]).
ومثل طلاب العلم في المشرق، أحسّ المغاربة والأندلسيون بضرورة الرحلة في طلب العلم، وكانت هذه الرحلات غالبًا ما تكون بهدف الحج ثم التفرغ للعلم أثناء وبعد الرحلة في بلاد المشرق.
 وتأتي أهمية طلب العلم والارتحال إليه لاسيما إلى بلاد المشرق في مصر والشام والحجاز والعراق واليمن في بعض الأحيان إلى الثقافة والعلم الغزير الذي تمتع به المشارقة، فلقد رأى المغاربة والأندلسيون أن المشرق مهبط الوحي، ومنزل العلم، وموطن السادات من العلماء، وهذا الرأي لا مشاحة فيه، فهذا العلامة الأندلسي أبو بكر الطرطوشي (ت525هـ) يترك بلاده في الأندلس ليستقر به المقام في المشرق، خاصة مدينة الإسكندرية المصرية لأنه رأى أن العلم في المشرق أعظم وأرقى بكثير من المغرب والأندلس، يحكي عنه الحافظ أبو بكر بن العربي (ت543هـ) أنه سمعه "يقول: لم أرحل من الأندلس حتى تفقهتُ ولزمتُ الباجي مدةً فلما وصلتُ إلى بغداد دخلتُ المدرسة العادلية، فسمعتُ المدرس يقول: مسألةٌ إذا تعارض أصل وظاهر فأيها يحكم؟ فما علمتُ ما يقولُ ولا دريتُ إلى ما يشير حتى فتح الله وبلغ بي ما بلغ"([5]).
ويتضح من هذا النظام التعليمي في المشرق أنه كان متقدمًا عن مثيله في المغرب والأندلس في القرن الخامس الهجري كما يُقرر الطرطوشي رحمه الله، رغم كونه صحب علامة الفقه في الأندلس أبو الوليد الباجي (ت474هـ)!!
لقد كانت الرحلة في طلب العلم سمة غالبة على أبناء الحضارة الإسلامية، وأصل من أصول التربية الإسلامية، ولذلك اعتبر العلماء أن "طلب العلم لا يساويه شيء، وفضل العلم لا يوازيه فضل، وشرف العالم بعلمه والعامل بمقتضاه ليس بعده شيء، وهذا فيما يتعلق بمن سلك طريقاً يطلب فيه علماً. ولقد رأينا علماءنا في رحلتهم لطلب العلم قد ضربوا أروع الصور، فـأبو أيوب الأنصاري يرحل إلى الفسطاط في مصر لطلب حديث، و جابر بن عبد الله يرحل إلى دمشق في طلب حديث، حتى ألف العلماء: الرحلة في طلب العلم"([6]).

نُشر في مجلة الوعي الشبابي الكويتية


([1]) يتوقعون مجيئه من مكان ما.
([2]) سنن الدارمي 1/149 ح562.
([3]) سنن الدارمي 1/151 ح571
([4]) ابن عساكر: تاريخ دمشق 51/281.
([5]) الضبي: بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس 1/176.
([6]) عطية محمد سالم: شرح الأربعين النووية: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية: http://www.islamweb.net.

هناك تعليق واحد:

  1. و من أكثر النماذج إبهاراً في هذا المقام: رحلة الإمام "بقي بن مخلد الأندلسي" رحمة الله عليه من الأندلس إلي بغداد؛ لطلب حديث الإمام "أحمد بن حنبل" رحمة الله عليه (و كذلك الذين يُقابلهم في البلاد التي تمر بها رحلته بطبيعة الحال).

    لكن الرحلة في طلب العلم فرعٌ علي أصل التفرغ للتحصيل العلمي؛ فهي من أعراضه و صعوباته التي يواجهها الراغب في التعمق في مجالٍ علميٍ معين، و خاصةً حينما لا يكون التفرغ جالباً للمال، و اقرأ إن أحببتَ مقالةً لي عن هذه النقطة:
    http://afkar-abo-eyas.blogspot.com/2013/09/blog-post_27.html

    ردحذف