الثلاثاء، 26 نوفمبر 2013

نساءٌ في حضارة الأندلس!

إن المؤرخ الأديب أحمد بن محمد المقري (ت1041هـ) بعد حديثه عن أدباء وبُلغاء الأندلس من الرجال يُفرد للنساء فصلاً جذّابًا في كتابه الرائق "نفحُ الطيب من غُصن الأندلس الرطيب"، فيقولُ: "وإذا وصلتُ إلى هذا الموضع من كلام أهل الأندلس، فقد رأيتُ أن أذكر جملة من نساء أهل الأندلس اللاتي لهن اليد الطولى في البلاغة كي يُعلم أن البراعة في أهل الأندلس كالغريزة لهم حتى في نسائهم وصبيانهم"!
وذكر عددًا كبيرًا منهن، مثل: بثينة بنت المعتمد بن عباد وأمها الشاعرة الأميرة اعتماد الرُّميكية، وكانت بثينةُ هذه مثل أمها في الجمال والنادرة ونظم الشعر، ولما أُحيط بأبيها (أُسر على يد المرابطين) ووقع النهب في قصره، كانت من جملة من سُبي، ولم يزل المعتمد والرُّميكية عليها في ولهٍ دائمٍ لا يعلمان ما آل إليه أمرها، إلى أن كتبت إليهما بالشعر المشهور المتداول بين الناس بالمغرب، وكان أحد تجار إشبيلية اشتراها على أنها جارية ووهبها لابنه فنظر من شأنها وهُيئت له، فلما أراد الدخول عليها امتنعت، وأظهرت نسبها، وقالت: لا أحل لك إلا بعقد النكاح إن رضي أبي بذلك. وأشارت عليهم بتوجيه كتاب من قبلها لأبيها وانتظار جوابه فكان الذي كتبته بخطها من نظمها ما صورته:
لا تنكروا أني سبيتُ وأنني


بنتٌ لملك من بني عبادِ

إذ باعني بيع العبيد فضمني


من صانني إلا من الانكادِ

وأرادني لنكاح نجلٍ طاهرٍ


حسن الخلائق من بني الأنجادِ


ومضى إليك يسومُ رأيك في الرِّضى

ولأنت تنظر في طريق رشادي

فعساكَ يا أبتي تعرفني به


إن كان ممن يرتجى لودادِ

وعسى رُميكية الملوك بفضلها


تدعو لنا باليُمن والإسعادِ

فلما وصل شعرها لأبيها وهو بأغمات (بالقرب من مرَّاكش) واقعٌ في شراك الكروب والأزمات، سُرَّ هو وأمها بحياتها ورأيا أن ذلك للنفس من أحسن أمنياتها؛ إذ علما مآل أمرها وجبر كسرها إذ ذلك اخف الضررين، وكتب إليها أثناء كتابه مما يدل على حسن صبره المشكور:
بُنيّتي كُوني به برةٌ


فَقَد قَضَى الوقتُ بِإسْعَافِهِ

وعكس قصة بثينة التي سعت لموافقة والديها على زواجها بالفتى المصون الآنف الذكر، وجدنا بعض أشياخ الأندلس يسعون لتزويج بناتهن العالمات من تلاميذهم النجباء، مثل أسماء بنت سليمان بن نجاح المقرىء، وهي وأبوها من مدينة بلنسية شرق الأندلس، قال القُضاعي عن قصة زواجها، واختيار أبيها لزوجها الطالب النبيه: "روت عن أبيها كثيرًا وشاركته في بعض شيوخه، وهي التي زوجها (أبوها) من أحمد بن محمد، فتىً كان يقرأُ عليه، وكان فاضلاً مُقلاً، فأعجَبَهُ سَمْته، وقال له يومًا: أتحب أن أزوجكَ بِنتي؟ فخَجِل الفتى وذكر حاجةً تمنعُهُ، فزوّجها منه، ونَظَرَ لها في دارٍ، وزفّهَا إليه".
وقد ذكر المؤرخ ابن بشكوال في "الصلة" مجموعة من هؤلاء النسوة اللاتي أثَّرن في الحياة الاجتماعية في الأندلس في العصر الأموي بها، ذكر منهن عائشة بنت احمد القرطبية، قال عنها: لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعدلها علمًا وفهمًا وأدبًا وشعرًا وفصاحةً، تمدح ملوك الأندلس وتُخاطبهم بما يعرض لها من حاجةٍ، وكانت حسنة الخطِّ تكتُب المصاحف، وماتت عذراء لم تنكح سنة أربعمائة، وهي من عجائب زمانها وغرائب أوانها".
ولا نحسبُ أن المرأة كانت حبيسة البيوت، منقطعة مع هذا الحسِّ المرهف في الأدب والشعر وغيره، فقد رأينا مشاركتها في الفقه وعلومه، وهنّ كثيرات لا يستوعب المقام ذكر طائفة ولو قليلة منهن، فمنهن الأميرة الأموية البهاء بنت الأمير عبد الرحمن الأوسط (ت305هـ)، قال عنها القُضاعي: "كانت من خير نسائهم، من أهل الزهد والعبادة والتبتل، وكانت تكتبُ المصاحف وتحبسها (أي توقفها على المساجد)، وكان لها رغبة في الفضل والخير، وهي التي يُنسب إليها مسجد البهاء في مساجد ربض الرُّصافة توفيت في رجب سنة خمس وثلاثمائة لأول ولاية الناصر فلم يتخلف أحدٌ عن جنازتها".
ومنهن من كانت تعمل بمجال الكتابة والإنشاء وهو من المجالات والوظائف المرموقة في كل الدول الإسلامية، مثل "زمرد الكاتبة الحاذقة"، ومنهن الأميرة "مرجان أم الحكم المسنتصر بالله كانت أديبة لطيفة المقاصد".
ومنهن من كان زوجها يتعلم على يديها، مثل حبيبة بنت عبد العزيز بن موسى (ت506هـ) قال القُضاعي: " سمعت أبا عمر بن عبد البر وكتبت عنه من تواليفه وأبا العباس العذري وسمع زوجها أبو القاسم بقراءتها عليهما وكانت جيدة الخط ضابطة لما كتبته دَيِّنة".
ومنهن من أخذت العلم على زوجها، مثل أم شُريح المقرئ إحدى معلّمات القرآن الكريم في مدينة إشبيلية جنوب الأندلس في القرن الخامس الهجري، قال عنها القُضاعي: "كانت تُقرِىءُ القرآن لمن خَلَفَ عليها، خَلْفَ سِتْرٍ بحرف نافع، أَخَذَت عَن زَوْجها أبي عبد الله بن شُريح، وكان أبو بكر عياض بن بقي ممن قَرَأ عَليها في صِغره، وكان يفخر بذلك، ويُذاكر به ابنها شُريحًا، ويقول: قرأتُ على أبيك وأمك فلي مزيةٌ على أصحابك. فيُقِرُّ له الشيخ ويصدقه".
ومنهن الداعية الواعظة التي كانت تجوب البلاد لوعظ النساء، وهذه من الأدوار التي قلما قرأنا أو سمعنا بها، مثل رشيدة الواعظة؛ فقد كانت "تجول في بلاد الأندلس تعظ النساء وتذكرهن وكان لها صيت واتصاف بالخير".
ومنهن معلمة القصور هي وبناتها سيدة بنت عبد الغني بن علي الغرناطية (ت647هـ)، قال القُضاعي: " نشأت بمرسية وتعلمت القرآن وبرعت في ذلك وجاد خطها وعلمت في ديار الملوك عمرها كله إلى أن أصابتها زمانة أقعدتها بدارها نيفا على ثلاثة أعوام وخلفتها على التعليم بنتان لها كبرى وصغرى وكتبت بخطِّها كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي ولم تزل قائمة على التلاوة ومحافظة على الأدعية والأذكار والسعي في الخيرات والتوفر على أعمال البر والإيثار بما تملك وفك الرقاب من الأسر إلى أن توفيت رحمها الله بتونس".
هذه المقال في هذه العُجالة إنما أراد أن يستجلي جُزءًا من دور المرأة في الحياة الأندلسية العامة؛ إن مصادر التاريخ الأندلسي مليئة بعشرات التراجم والقصص عن هؤلاء النسوة اللاتي لم يكُنَّ أقل حظَّاً من الرجال في التعليم والتثقيف والشأن، ولم تكن منظومة تطبيق الشرع الحنيف أو التقاليد الاجتماعية عائقًا أمام طموحهن وثقافتهن وتفوقهن بل على العكس تماما، وهذا باب عظيم يحتاج إلى ما يبحث فيه، ويستخرجُ كنوزه الدفينة.

مراجع المقال:
·       المقري التلمساني، أحمد بن محمد: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس دار صادر – بيروت، 1968م.
·       أبو عبد الله القضاعي: التكملة لكتاب الصلة، تحقيق عبد السلام الهراس، دار الفكر للطباعة – لبنان، 1995م.
·       ابن بشكوال، خلف بن عبد الملك: الصلة، تحقيق إبراهيم الإبياري دار الكتاب المصري، الطبعة الأولى – القاهرة، 1989م.
·       ابن بسام، علي بن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق إحسان عباس، الدار العربية للكتاب – ليبيا.
·   ابن الفرضي: تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس، تحقيق عزت العطار. مطبعة المدني – القاهرة، الطبعة الأولى1423هـ/2002م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق