الأحد، 19 يناير 2014

أبو القاسم ابن حَوْقَل.. الجغرافي اللامع!



في أشعار العرب القدماء قبل الإسلام اهتمام بالسياحة والأماكن داخل الجزيرة العربية، وهو اهتمام ارتبط بالأحداث قبل أي شيء، إما بمعركة انتصرت فيها قبيلة على أخرى، أو بفقد حبيب أو عزيز، أو بكاء على الأطلال والبيوت القديمة التي تركتها قبيلة الشاعر وأسرته رغما عنها بسبب الجفاف أو الحروب أو لأي سبب آخر، وكانت هذه بدايات المعرفة الأولية بالجغرافيا عند العرب.
على أن الإسلام ما لبث أن استقرت له دولة، وبدأ عصر التدوين، تدوين العلوم الإسلامية منذ القرن الثاني الهجري، ثم دخول الناس في دين الله أفواجًا، ثم توسّع الدولة الإسلامية، ليُنشئ العباسيون فيما بعد بغداد في منتصف القرن الثاني الهجري، حتى بدأ الاهتمام بدراسة الجغرافيا وتدوينها وتطويرها.
وقد تنوع الهدف من دراسة الجغرافيا التي كانت تعني في ذلك الوقت "قِطَع الأرض" أو "صور الأرض" أو "مسالك وممالك ومهالك" الأرض، فالبعض من علماء الجغرافيا المسلمين كان همّه أن يحصر أقاليم الإسلام، فيصف سكانها ومناطقها وجبالها وطرقها ومسالكها وعادات أهلها في إطار الدولة الإسلامية، وكانت الخلافة العباسية هي دولة الإسلام الكبرى في ذلك الوقت، وهذه المدرسة جعلت من مكة قلب العالم الإسلامي بل العالم كله، ووصفت معظم مؤلفاتها ب"المسالك والممالك".
 ومدرسة أخرى كان جل اهتمامها المعرفة الجغرافية العامة، فاعتمدت على الدراسات الجغرافية اليونانية القديمة، وقد حاولت تطويرها، ثم لم تتوقف عند حدود العالم الإسلامي فشرعت في استكشاف كل العالم.
وإلى المدرسة التي جعلت الأقاليم الإسلامية لُب اهتمامها، ومكة صُرة العالم ومركزه، ينتمي الرحالة والجغرافي الكبير محمد بن علي البغدادي المعروف بأبي القاسم ابن حوقل المتوفى بعد سنة 367هـ أي في القرن الرابع الهجري = العاشر الميلادي.
لا يُعلم بالتحديد متى ولد ابن حوقل؛ ذلك أن المعلومات المتوفرة عنه قليلة خلا ما ذكره هو عن نفسه في كتابه الذي خلّده "صورة الأرض" ويُرجّح أنه ولد في بغداد في بداية القرن الرابع الهجري.
في بغداد حاضرة العالم الإسلامي، بل أعظم مدينة في العالم كله في ذلك الوقت نشأ وتعلم ابن حوقل، لكنه شُغف منذ بدايات فتوته وشبابه بقراءة التاريخ والجغرافيا.
ولشدة ولع ابن حوقل بالجغرافيا قرّر أن يمتهن التجارة ليستطيع أن يستكشف العالم الإسلامي، ويروي ظمأه في معرفة جغرافية هذا العالم، وعادات أهله وسكانه، ونُظم التعليم والثقافة والسياسة في هذه الأقاليم، لذا ترك بغداد منذ سنة 331هـ وانطلق إلى الجانب الغربي من الدولة الإسلامية في صقلية والمغرب والأندلس.
ظل ابن حوقل يجول في العالم الإسلامي أكثر من ثلاثين عامًا متواصلة، حيث زار كلا من مصر وبلاد الشام والعراق والجزيرة العربية وإيران وأرمينيا وصقلية وآسيا وبلاد البلغار والأندلس وغانة وغيرها.
بدأ في كتابة كتابه "صورة الأرض" بعد هذه الرحلات الطويلة، والذي حفزه لكتابة هذا الكتاب المهم في علم الجغرافيا الإسلامية أنه "لم يجد كتاباً من الكتب القائمة في هذا الموضوع يحوز الرضا .. ولا يخامرنا الشك في أن ابن حوقل يُعد من أئمة الجغرافيين في ذلك العصر، ذلك أنه يظهرُ في ميدان رسم الخرائط استقلالاً وتفردًا، فهو لا يتبع الآخرين بلا وعي ولا تبصر، زد على ذلك أنه ضم إلى كتابه معلومات جديدة تعتمدُ على رحلاته أو على أقوال الناس، وظل كتابه مصدرًا للمعلومات وثيقًا دأب الجغرافيون الذين أتوا بعده على الرجوع إليه عدة قرون"[1].
ويذكر الدومييلي في كتابه "العلم عند العرب وأثره في تطوير العلم العالمي": أن ابن حوقل نبغ في علم الجغرافيا، لذا طلب الإصطخري معاصره وهو عالم في الجغرافيا أيضا منه تنقيح كتابه "المسالك والممالك"، وقد تميز كتاب ابن حوقل "صورة الأرض" بأنه اشتمل على خريطة خاصة لكل إقليم تحدَّث عنه، وهذه الخرائط يمكن أن تُسمى بدون مبالغة أطلس العالم الإسلامي.
اهتم ابن حوقل بشكل خاص في جغرافية بلاد الإسلام فركز على العادات والتقاليد فيها وابتعد عن القصص الخيالي والعجائب والغرائب، فقد كان متمسكًا بالمنهج العلمي الدقيق الذي يستند على المشاهدات والاستنباطات العلمية والاستقراء المنطقي، لذا حرص علماء الجغرافية في بلاد الغرب على ترجمة كتاب "صورة الأرض" لما يحتويه من معلومات ثمينة عن العالم الإسلامي[2].
وقد تناول الحديث عنه بإسهاب وتحليل عميق المستشرق الروسي الكبير إغناطيوس كراتشكوفسكي في كتابه الرائع "تاريخ الأدب الجغرافي العربي"، فكان مما ذكره عن ابن حوقل وكتابه "صورة الأرض" قوله: "يجب الاعتراف بأن ابن حوقل هو الخبير الأول من بين جغرافيي هذه المدرسة [مدرسة جغرافيي دار الإسلام] في شئون إقليم المغرب ففيها يرد.. ما لا يقل عن أسماء مائتين من قبائل البربر، ويصف الواحات ثم يُورد وصفًا مفصلاً للغاية لموقع صقلية .. وخارطات [ابن حوقل] تمثل "أطلس الإسلام" الذي يحوي دائما إحدى وعشرين خارطة"[3] تشمل العالم الإسلامي من خوارزم وبخارى وسمرقند في أقصى الشرق حتى الأندلس في أقصى الغرب.
إن محمد بن علي بن حوقل البغدادي المتوفى بعد سنة 367هـ يعد من أهم الجغرافيين المسلمين في القرن الرابع الهجري، وتأتي أهمية كتابه ليس في وصف المعالم الجغرافية والطرق والمدن التي رآها في ذلك الزمن وفقط، بقدر ما يكشف لنا كيف كانت الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، حضارة شملت مختلف الأجناس والألوان والأفكار، فعبّر عنها بعمق، ورحل بينها دون معاناة أو نصَب أو "تأشيرة"، فولد في بغداد وأهدى كتابه "صورة الأرض" في صورته الأولى لزعيم الدولة الحمدانية في الشام سيف الدولة الحمداني الذي أُعجب به، ثم ما لبث أن استقر به المقام في أُخريات حياته في الأندلس فتوفي ودفن بها.

نُشر في مجلة الوعي الشبابي


[1] جمال الفندي: الجغرافيا عند المسلمين ص131. ط دار الكتاب اللبناني – بيروت، 1982م.
[2] علي بن عبد الله الدفاع: رواد علم الجغرافيا في الحضارة الإسلامية ص107- 109. ط2 مكتبة التوبة – الرياض، 1993م.
[3] كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة صلاح الدين عثمان 1/204- 206. مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر، جامعة الدول العربية، 1961م.

هناك تعليق واحد: