الثلاثاء، 4 فبراير 2014

علي الطنطاوي .. الأديب الداعية

من الغُبن والخطأ الشديد أن نظن أن عظمة سير أعلام هذه الأمة في سلفها فقط، ففي خلفها رجال جسدت حياتهم سيرة السلف وعصره دونما فارق يُذكر، رجال لم يكلّوا يومًا عن الدعوة إلى الله تعالى، ونشر دينه، والدفاع عن حُرمه، من هؤلاء فضيلة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله الذي عاش تسعين عامًا قضى أغلبها في العلم والعمل  والأدب والدعوة!
حياته وعلمه :
ولد علي الطنطاوي في دمشق سنة 1909م لأسرة اشتُهرت بالعلم والدين والأخلاق، فوالده الشيخ مصطفى الطنطاوي كان من علماء الشام المعدودين في فنّه، حتى انتهت إليه أمانة الفتوى في دمشق، ويعود نسبه إلى محمد بن مصطفى الطنطاوي، الذي جاء من طنطا في قلب دلتا مصر إلى الشام واستوطنها في بدايات القرن التاسع عشر، أما والدة الشيخ الطنطاوي فكانت من أسرة الخطيب المشهورة بالعلم والدين والأدب، فخاله هو العلامة الأديب محب الدين الخطيب الذي استوطن مصر وأنشأ فيها صحيفتَي "الفتح" و"الزهراء" وكان له أثر في الدعوة فيها في مطلع القرن العشرين، وكان من المقربين من أعلام عصره كالشيخ رشيد رضا والمراغي والبنا وغيرهم[1].
في وسط هذه البيئة المثالية من العلماء والشيوخ نال الطنطاوي تعليمه الابتدائي والثانوي، فتلقاه على أيدي الشيوخ كما تلقاه في المدارس النظامية، ثم سرعان ما سافر إلى مصر سنة 1929م ليلتحق بكلية دار العلوم، وكان من أوائل الشوام الذين ابتعثوا للتعلم في كليات مصر وقتها، لكنه سرعان ما عاد إلى الشام بعد عام واحد ليلتحق بكلية الحقوق التي تخرج منها سنة 1933م، وفي أثناء دراسته في كليته أنشأ أول جماعة طلابية في الشام بغرض المطالبة بالحقوق السياسية والحرية، ذلك أن الشام كان مُحتلاً من الفرنسيين وقتئذ.
تخرج الطنطاوي من كليته والتحق بالصحف الشامية مثل مجلة "فتى العرب" مع الأديب الكبير معروف الأرناؤوط، ثم في "ألِف باء"، ثم كان مدير تحرير جريدة "الأيام" التي أصدرتها الكتلة الوطنية سنة 1931م، وله فيها كتابات وطنية كثيرة، خلال ذلك كان يكتب في جريدتي "الناقد" و"الشعب" وسواهما من الصحف. وفي سنة 1933م أنشأ الزيات المجلة الكبرى "الرسالة"، فكان الطنطاوي واحداً من كتّابها واستمر فيها عشرين سنة إلى أن احتجبت سنة 1953. وكتب -بالإضافة إلى كل ذلك- سنوات في مجلة "المسلمون"، وفي جريدتي "الأيام و"النصر"، بل كتب في مجلتي خاله محب الدين الخطيب "الفتح" و "الزهراء" في مصر[2].
التحق الطنطاوي في مجال التربية والتعليم معلمًا، فانتقل في كافة أرجاء سوريا من الجنوب إلى الشمال، وكان سبب انتقاله المتكرر بين المدارس جرأته في مهاجمة المحتل، حتى إنه في سنة 1940م كان مدرسًا في منطقة دير الزور شرق سوريا، وكان قد ارتقى المنبر فبث في الناس خطبة عظيمة أثارت حماستهم ضد الفرنسيين، وحط من شأنهم، ووصفهم بأنهم ضعفاء، لأنهم لم يُدافعوا عن عاصمتهم أمام الألمان في الحرب العالمية الثانية، فلم يتحمل الفرنسيون جرأته وشجاعته، فأقفوه عن العمل[3].
لكن إيقافه عن التدريس جعله ينضم لسلك القضاء، فهو خريج كلية الحقوق، فظل في هذه الوظيفة مدة ربع قرن في محاكم الشام ومصر وقت الوحدة في الفترة ما بين 1958 و 1961م، فكان من أهم إنجازاته في هذه المرحلة من عُمره هو مشروع قانون الأحوال الشخصية كله وصار هذا المشروع أساساً للقانون الحالي في سوريا.
على أن وظيفة التدريس سرعان ما استهوته من جديد، ونظرا لمكانته العلمية والدعوية والصحفية الكبيرة عرضت عليه السعودية العمل في إحدى أهم جامعاتها في ذلك الوقت سنة 1963م، وهي جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض[4].
 بدأ علي الطنطاوي هذه المرحلة الجديدة من حياته بالتدريس في كلية التربية بمكة، ثم لم يلبث أن كُلف بتنفيذ برنامج للتوعية الإسلامية فترك الكلية وراح يطوف على الجامعات والمعاهد والمدارس في أنحاء المملكة لإلقاء الدروس والمحاضرات، وتفرّغَ للفتوى يجيب عن أسئلة وفتاوى الناس في الحرم -في مجلس له هناك- أو في بيته ساعات كل يوم[5].
قضى الطنطاوي أعوامه الخمس والثلاثون الأخيرة في السعودية خاصة مكة وجدة، فكانت حافلة بالعطاء الفكري له، بجوار المساهمة في برامجه الإذاعية والتلفازية التي استقطبت -على مرّ السنين- ملايين المستمعين والمشاهدين وتعلّقَ بها الناس على اختلاف ميولهم وأعمارهم وأجناسهم وجنسياتهم. ولم يكن ذلك بالأمر الغريب؛ فلقد كان علي الطنطاوي من أقدم مذيعي العالم العربي، إذ كانت له تجارب سابقة في الشام والعراق، وقد حصل على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة 1990م.
وبعد حياة مليئة العطاء توفي الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في 18 يونيه/حزيران سنة 1999م = 4 ربيع الأول سنة 1420هـ عن عُمر ناهز التسعين عامًا، مخلفًا وراءه خمس بنات توفيت إحداهن غدرا في ألمانيا[6].
الطنطاوي في كُتبه!
ترك الشيخ الطنطاوي مجموعة نافعة من الكتب والمؤلفات، بعضها في موضوع معين، وبعضها جمع مقالاته المتنوعة، منها: "أبو بكر الصديق"، و"أخبار عمر" و"أعلام التاريخ" و"بغداد: مشاهدات وذكريات" و"تعريف عام بدين الإسلام" و "الجامع الأموي في دمشق" و"حكايات من التاريخ" و "دمشق: صور من جمالها وعِبَر من نضالها" و"ذكريات علي الطنطاوي (8 أجزاء)"، وغيرها مما جمعه حفيده بعد وفاته مثل "فتاوى علي الطنطاوي" و "فصول في الثقافة والأدب" وغير ذلك..
ولابد لنا قبل أن نختم هذا المقال السريع عن الشيخ وحياته أن نقف مع أسلوبه وحكمته وذكرياته من أحد كُتبه، إذ يقول عن جهاده وجهاد أهل الشام ضد المحتل الفرنسي: "خمس وعشرون سنة كاملة لا تنقصُ يوما ولا تزيد يومًا، حملنا فيها ألوان الأذى، وذقنا فيها الموت من كل طبق، وعلى كل خوان، ورأينا النار تأكل دورنا، والقنابل تهدم رؤوس منازلنا، فتهدّمت بيوت من أبهى وأغلى وأحلى بيوت دمشق، وقضى فتيةٌ من أجمل وأكمل وأنبل فتيتها، وأبصرنا أيامًا سودًا، ومصائبَ شدادًا، ولكنا ما جبُنّا ولا خفنا، وكنا عزلا أقلة، وكانت قريعتنا فرنسا القوية العظيمة ذات الحول والطول، فقارعنا فرنسا ولقينا بصدورنا الرصاص، وهجمنا بالخناجر على الدبابات، وقابلنا بالحجارة الرشاشات، وصبرنا فانتصرنا"[7]. رحم الله الشيخ الداعية المجاهد علي الطنطاوي.


[1] ذكريات علي الطنطاوي 1/20. طبعة دار المنارة للنشر، الطبعة الأولى – السعودية، 1985م.
[2] ذكريات علي الطنطاوي 2/15 وما بعدها.
[3] ذكريات علي الطنطاوي 4/159 وما بعدها.
[4] ذكريات علي الطنطاوي 7/107 وما بعدها.
[5] ذكريات علي الطنطاوي 8/241 وما بعدها.
[6] ذكريات علي الطنطاوي 8/50 وما بعدها.
[7] علي الطنطاوي: دمشق، صور من جمالها وعبرٌ من نضالها ص77. طبعة دار المنارة، الطبعة الثانية – السعودية، 1987م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق