الأحد، 16 فبراير 2014

محمد الطاهر بن عاشور .. إمام مجدد



في عام 1879م = 1296هـ وُلد علامة تونس محمد طاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، الشهير بالطاهر بن عاشور، لأُسرة لها باع في العلوم الدينية، فجدُّه العلامة محمد الطاهر الذي سُمي الحفيد على اسمه كان عالمًا كبيرًا في عصر البايات وقت أن كانت تونس تحت حُكم العثمانيين، ولمكانته العلمية والشرعية الكبيرة فقد ولي قضاء تونس سنة 1267 هـ ثم الفُتيا سنة 1277هـ فنقابة الأشراف، وقد ترك من خلفه عددًا من المؤلفات وبعض الحواشي في مجالات كالنحو والفقه وغيره[1].
نشأته وحياته
وفي ظل هذه الأسرة العلمية التي تعود أصولها إلى أشراف الأدارسة في المغرب والأندلس شبّ الحفيد الطاهر بن عاشور محبًا للعلم عاكفًا عليه، فقد حفظ القرآن الكريم صغيرًا ثم أُلحق بالدراسة في جامع الزيتونة العريق الذي يناظر الأزهر في مصر، حتى تخرّج على أكابر أشياخ عصره.
كان الزيتونة في ذلك الحين قد بدأ في خطواته الجادة في عملية إصلاح التعليم على أيدي مدرسين آمنوا بفكرة التجديد والإصلاح، ثم سرعان ما تخرّج ابن عاشور من هذا الصرح سنة 1896م = 1310هـ، ولنجابته فقد عُيّن مدرسًا فيه، ثم لم تمض إلا سنوات قليلة حتى عُيّن مدرسًا من الطبقة الأولى بعد اجتياز الاختبار الخاص بها سنة 1903م.
وكان الطاهر قد اختير للتدريس في المدرسة الصادقية سنة 1900م، وكان لهذه التجربة المبكرة في التدريس بين الزيتونة ذات المنهج التقليدي والصادقية ذات التعليم العصري المتطور أثرها في حياته، إذ فتحت وعيه على ضرورة ردم الهوة بين تيارين فكريين ما زالا في طور التكوين، ويقبلان أن يكونا خطوط انقسام ثقافي وفكري في المجتمع التونسي، وهما: تيار الأصالة الممثل في الزيتونة، وتيار المعاصرة الممثل في الصادقية، ودون آراءه هذه في كتابه النفيس "أليس الصبح بقريب؟" من خلال الرؤية الحضارية التاريخية الشاملة التي تدرك التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الإسلامي والعالمي[2].
كان الزيتونة مثار إعجاب كبار المصلحين في العالم الإسلامي في ذلك الوقت وعلى رأسهم الإمام محمد عبده ورشيد رضا وغيرهم، وكان الشيخ محمد عبده رحمه الله قد زار تونس من قبل، ثم زيارته الثانية التي كانت حدثًا ثقافيًا كبيرًا في الأوساط العلمية والدينية سنة 1903م.
وفي هذه الزيارة الثانية تقابل الشاب النابه الطاهر ابن عاشور مع الإمام محمد عبده، وقد تأثّر الشاب بفكر الإمام ومنهجه في الإصلاح الذي كان يتلخص في التربية والتقويم الاجتماعي، وقد تجلى هذا التأثير في كتاب ابن عاشور "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام".
وفي عام 1907م عُين ابن عاشور نائبًا أول لدى النظارة العلمية في جامع الزيتونة، فبدأ في تنفيذ بعض الإصلاحات التي رآها ضرورية، فكتب لائحة في إصلاح التعليم وعرضها على الحكومة فنفذت بعض ما فيها.
وفي عام 1910م اختير ابن عاشور عضوًا في لجنة إصلاح التعليم الأولى بالزيتونة، ثم عضوًا في لجنة إصلاح التعليم الثانية سنة 1924م، ثم عُين شيخًا لجامع الزيتونة سنة 1932م، وكان لديه حلم بأن ينفّذ ما نادى به من الإصلاحات الضرورية في عملية التعليم، لكنه جوبه بعراقيل فاستقال بعد سنة ونيف من منصبه.
أعيد تعيينه شيخا لجامع الزيتونة سنة (1364هـ = 1945م)، وفي هذه المرة أدخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليم الزيتوني؛ فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد المعاهد التعليمية.
وعند استقلال تونس من الاحتلال الفرنسي سنة 1956م أُسندت إليه رئاسة الجامعة الزيتونية، على أنه سرعان ما اصطدم بالرئيس بورقيبة الذي أراد أن ينتزع منه فتوى بجواز إفطار العُمال في رمضان بحجة زيادة الانتاج، فقام في الإذاعة يبين للناس ولا يخشى في الحق لومة لائم، واشتهرت قولته القوية: "صدق الله وكذب بورقيبة" كان ذلك في العام 1961م.
ظل ابن عاشور منكبًا على العلم والتدريس حتى توفاه الأجل في 12 أغسطس سنة 1973م وقد تخطى التسعين بأربعة أعوام[3].
ابن عاشور في مصنفاته
ترك ابن عاشور عددا كبيرا من المصنفات النافعة أبرزها: "التحرير والتنوير" وهو تفسير بلاغي راقٍ للقرآن الكريم، و"أصول الإنشاء والخطابة"، و"موجز علم البلاغة"، و"أليس الصبح بقريب"، و"أصول النظام الاجتماعي في الإسلام"، و"الوقف وآثاره في الإسلام"، و"نقد لكتاب الإسلام ونظام الحكم"، و"مقاصد الشريعة الإسلامية"، و"شرح لمقدمة المرزوقي لشرح ديوان الحماسة" وغير ذلك من المصنفات والمقالات المطبوعة والمخطوطة في المجالات الشرعية والفكرية والأدبية المختلفة، نقف مع اثنين من هذه المصنفات وهما "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" و "مقاصد الشريعة الإسلامية":
-       في كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" وكان في الأصل مجموعة من المقالات التي كتبها الشيخ رحمه الله في مجلة "هُدى الإسلام" المصرية في العام 1935/1936م، يتناول الأوضاع الاجتماعية في العالم الإسلام، وأسباب انحرافها وكيفية معالجتها على أساس من الهدي النبوي الشريف، يقول في مقدمة كتابه رحمه الله: "ومن غرضي أن أوضّح الحكمة التي من أجلها بعثَ الله بهذا الدين رسوله محمدًا خاتمًا للرسل، أو عن الآثار التي أبقاها لنفع البشر، وهذا المهم لا يتأتّى إلا لمن علاقة الدين بالمدنية وتأثيرَه في ارتقاء الأمة، ويتطلب هذا المكسب الجليل النظرَ أولاً في تاريخ هذه الأمة وتطلُّعها للدين، وإلى الحال الذي كانت عليه زمن ظهوره"[4].
-       وفي كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية" الصادر في تونس لأول مرة سنة 1946م جدّد ابن عاشور فرعًا كبيرًا من فروع علم أصول الفقه بعد عزوف الناس عنه وجعله مستقلا، وكشف بعد أكثر من خمسة قرون على وفاة المقاصدي الكبير أبو إسحق الشاطبي (ت790هـ) صاحب "الموافقات" و "الاعتصام" عن أهمية المقاصد الشرعية للفرد والمجموع والأمة، وبيان الحكَم والغايات والأسرار من التشريع الحكيم، يقول: "إني قصدتُ في هذا الكتاب خُصُوصَ البحث عن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات والآداب التي أرى أنها الجديرةُ بأن تُخصّصَّ باسم الشريعة والتي هي مظهرُ ما راعاه الإسلام من تعاريف المصالح والمفاسد وترجيحاتها، ممَّا هو مظهرُ عظمة الشريعة الإسلامية بين بقية الشرائع والقوانين والسياسات الاجتماعية لحفظ نظام العالم وإصلاح المجتمع"[5].
ولا نستطيعُ في هذا المقام الضيق أن نستقصي بقية مؤلفات العلامة ابن عاشور رحمه الله، فأحسب أن الأستاذ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة قدّم للقراء والباحثين ملخصًا ممتازًا ووافيًا يشرح ويقدم فيه مصنفات ابن عاشور رحمه الله في المجلد الثاني من أعماله الكاملة التي نشرتها وزارة الثقافة التونسية منذ أعوام قليلة، وحسب شبابنا أن ينقِّبوا ويبحثوا عن سيرة هؤلاء الأفذاذ وأعمالهم وتراثهم، فهي خليقة بإعطائهم دفعة قوية لشحذ الهمم، ورفع العزائم للسير على دربهم، فرحم الله علامة تونس وإمامها الأكبر محمد الطاهر بن عاشور.

نُشر في مجلة الوعي الشبابي الإلكترونية


[1] خير الدين الزركلي: موسوعة الأعلام 6/173. دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة – دمشق، 2002م.
[2] خالد النجار: محمد الطاهر بن عاشور، مقال بشبكة الألوكة الإلكترونية.
[3] محمد الحبيب بن الخوجة: الأعمال الكاملة، شيخ الإسلام الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور 1/160- 163. الدار العربية للكتاب – تونس، 2008م
[4] ابن عاشور: أصول النظام الاجتماعي في الإسلام نقلاً عن محمد الحبيب بن الخوجة: الأعمال الكاملة، شيخ الإسلام الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور 1/668، 669.
[5] ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية ص174، 175. تحقيق محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس، الطبعة الثانية – الأردن، 2001م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق