الجمعة، 24 أكتوبر 2014

بيت المقدس من الاسترداد إلى التسليم 5

دخل فردريك بيت المقدس في عام 626هـ، ولزمه في يوم دخوله قاضي نابلس شمس الدين النابلسي الذي يقول: "لما قدم الأنبرطور القدس لازمتُه كما أمرني السلطان الملك الكامل، ودخلتُ معه إلى الحرم الشريف فرأى ما فيه من المزارات، ثم دخلتُ معه إلى المسجد الأقصى فأعجبته عمارته وعمارة قبة الصخرة المقدسة، ولما وصل إلى محراب الأقصى أعجبه حُسنه وحُسن المنبر، وصعد في درجة أعلاه، ثم نزل وأخذ بيدي وخرجنا من الأقصى، فرأى قسّيسًا وبيده الإنجيل، وهو يريد دخول الأقصى فصاح عليه صيحة منكرة وقال: ما الذي أتى بك إلى هاهنا، والله لئن عاد أحد منكم يدخل إلى ها هنا بغير إذني لآخذن ما في عينيه، نحن مماليك هذا السلطان الملك الكامل وعبيده، وإنما تصدّق علي وعليكم بهذه الكنائس على سبيل الإنعام منه، ولا يتعدّى أحد منكم طوره. فمضى ذلك القسيس وهو يرعد خيفة"[1].
هذه الرواية التي ينقلها ابن واصل الحموي عمن سلّم مفاتيح مدينة بيت المقدس إلى فردريك تكشف كيف كان فردريك داهية ماكرًا، خدع سلطان المسلمين وبعض قضاة المسلمين بهذا المنطق المعسول، كلام .. مجرد كلام كان سببًا في تسليم بيت المقدس إلى الصليبيين الذين – وللمفارقة – لم يرضوا بتسليم منقصوص لم تُسفك فيه دماء المسلمين!
ردود الفعل المعارضة في العالم الإسلامي
لقد كانت ردة فعل العالم الإسلامي على هذا التسليم عنيفة وقوية للغاية، وسنتتبع بعض روايات المؤرخين الذين عاصروا هذه الأحداث دون غيرهم من المتأخرين، فيقول ابن الأثير ت630هـ: "وتسلم الفرنج البيت المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه، يسر الله فتحه وعوده إلى المسلمين بمنه وكرمه، آمين"[2].
وإن أول من تألّم من هذا التسليم هم المقدسيون أنفسهم، فينقل المؤرخ ابن واصل ت697هـ عن والده الذي كان آنذاك في القدس للزيارة قادمًا من مكة قوله: "لما وقعت الهدنة بعث السلطان من نادى في القدس بخروج المسلمين وتسليمه إلى الفرنج ... قال: لما نودي بالقدس بخروج المسلمين وتسليم القدس إلى الفرنج وقع في أهل القدس الضجيج والبكاء، وعظم ذلك على المسلمين، وحزنوا لخروج القدس من أيديهم، وأنكروا على الملك الكامل هذا الفعل، واستشنعوه؛ إذ كان فتح هذا البلد الشريف واستنقاذه من الكفّار من أعظم مآثر عمّه الملك الناصر صلاح الدين"[3].
وفي دمشق التي كانت محاصرة آنئذ أمر الملك الناصر داود الإمام شمس الدين سبط العلامة ابن الجوزي وكان خطيبا مشهورا ومسموعا في دمشق وقتها أن يصدح بنقد هذا الفعل الشنيع، و"يذكر فيه فضائل بيت المقدس، وما حل بالمسلمين من تسليمه إلى الفرنج، ففعل ذلك، وكان مجلساً عظيماً، ومن جملة ما أنشد قصيدة تائية ضمنها بيت دعبل الخزاعي وهو:
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
فارتفعَ بكاء الناس وضجيجهم"[4].
ويذكر سبط ابن الجوزي ت654هـ نفسه في تاريخه "مرآة الزمان" تلك الأجواء بقوله: "وصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الفرنج فقامت القيامة في جميع بلاد الإسلام، واشتدّت العظايم بحيث إنه أقيمت المآتم، وأشار الملك الناصر داوود بأن أجلسَ بجامع دمشق وأذكرُ ما جرى على البيت المقدس فما أمكنني مخالفته، ورأيتُ في جملة الديانة الحمية للإسلام وأفقه، فجلستُ بجامع دمشق، وحضر الناصر داوود على باب مشهد علي وكان يومًا مشهودًا لم يتخلّف من أهل دمشق أحد، وكان من جملة الكلام: انقطعت عن البيت المقدس وفود الزائرين يا وحشة المجاورين، كم كان لهم في تلك الأماكن من ركعة، كم جرت لهم على تلك المساكن من دمعة، تالله لو صارت عيونهم عيونا لما وفّت، ولو تقطّعت قلوبهم أسفًا لما أسفت، أحسن الله عزاء المؤمنين، يا خجلة ملوك المسلمين، لمثل هذه الحادثة تُسكبُ العبرات، لمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظمُ الحسرات..."[5].
أما المؤرخ أبو شامة ت665هـ فيقول: "في أول ربيع الآخر [سنة 626هـ] جاء الخبر بأن الكامل أخلى البيت المقدس من المسلمين وسلّمه إلى الفرنج وصالحهم على ذلك وعلى جملة من القرى فتسلموه ودخلوه مع ملكهم الانبرور، وكانت هذه من الوصمات التي دخلت على المسلمين، وكانت سببًا في أن توغّرت قلوب أهل دمشق على الكامل ومن معه، ووجد بها الناصر طريقًا في الشناعة عليهم"[6].
تلك الروايات المعارضة لهذا الفعل المستقبح لا تحتاج إلى تعليق، فهي مفهومة ممن رأوا البيت المقدس يُسلم إلى الصليبيين بسلمية مفرطة، وودية ممجوجة!!
ردود الفعل المؤيدة في العالم الإسلامي
على الجانب الآخر ثمة بعض المؤرخين وعلماء المسلمين من أيدوا أو اقتنعوا بما فعله الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب بتسليمه بيت المقدس، لقد رأوه من منطق المصلحة المتحققة العامة للمسلمين، أو دفع ضرر مخافة تحقق ضرر أكبر يحق لإمام المسلمين وملكهم أن يفعله وفقًا لما يراه، فمنطق أقل الخسائر أو حتى المصلحة المتحققة ذكره كل المؤرخ والقاضي ابن أبي الدم الحموي ت 642هـ والمعاصر لهذه الأحداث، وكذلك المؤرخ والقاضي ابن واصل الحموي ت697هـ.
فابن أبي الدم الحموي في مختصر تاريخه الذي نشره الدكتور سهيل زكّار في موسوعته الشاملة في الحروب الصليبية لأول مرة يقول مفصّلا ومؤيدًا ومسوّغًا لتسليم بيت المقدس لفردريك بقوله: "كان الانبروز طاغية الفرنجة وعظيمهم خرج بجمع كثير إلى الجزائر والسواحل، وخيف على بلاد الإسلام منهم، فاجتهد السلطان الملك الكامل رأيه وصالحهم صلحًا تامًا رآه مصلحة للمسلمين وغنيمة لهم، فكان راعي هذه الأمة المحمدية، وسلطان الملة الإسلامية، ومن أعزّ الله تعالى به الدين وأهله، والمأمون عليهم، والناصح المشفق عليهم، ففعل ما رآه مصلحة وغبطة ترجّحت في نظره راعاها، وصالح الفرنج على أن يسلّم إليهم البيت المقدس حرسه الله تعالى وحده، من غير تسليم شيء من أعماله ولا بلاده قليلاً ولا كثيرًا، وشرط عليهم أن لا يجددوا فيه شيئًا ولا سورًا ولا دورًا ولا يتجاوزوا خندقه، وأن تقام فيه الجمعة للمسلمين المقيمين به، ولا يُمنع مسلم من زيارته كيف أراد، ولا يؤخذ من زائر مال أصلا، وكان ذلك إن شاء الله تعالى من أكبر مصالح المسلمين وأعظمها مما لا يخفى عن ذي بصيرة، فإن البيت المقدس موضع عبادة لإقامة العبادة على حسب اعتقاد الناس، فسلّم السلطام الملك الكامل ذلك إليهم مع تهدّمه وعدم حصانته حفظًا لبقية الثغور والبلاد، ونزله منزلة مسجد يتردّد إليه المصلون، وعقد معهم عقد الهدنة الشرعية المدة المرعية في نظر سلطان المسلمين وملكهم ومتولي أمورهم، واندفع عن المسلمين بذلك شر عظيم، وخوف وحصل الأمن مدة الهدنة فلا مصلحة للمسلمين أعلى من هذه المصلحة، ولا غبطة لهم أعظم من هذه الغبطة، ودخل البيت المقدس أناس قليلون من الفرنج لا شوكة لهم ولا عدد ولا عُدة ... ومتى مهّد السلطان الملك الكامل بلاد المشرق، واتفقت كلمة الملوك استعاد البيت المقدس من يد من هو فيه من الفرنج في يوم واحد بل في ساعة واحدة"[7].
لكن ورغم استيلاء الكامل على بلاد الشرق وكل فلسطين بالإضافة إلى قاعدة ملكه في مصر، فإنه لم يسترد بيت المقدس كما قال ابن أبي الدم في حديثه الآنف هذا، بل ظل محترمًا للاتفاق الذي أبرمه مع فردريك حتى وفاته في العام 635ه، ولا أدري أية مصلحة تحققت على المسلمين بتسليم بيت المقدس وفق هذا التسويغ الذي أراد ابن أبي الدم الحموي أن يقنع به القارئ، فلم يأت فردريك إلى بلاد الإسلام إلا وهو في أضعف حالاته المعنوية فهو المحروم من الكنيسة، فضلا عن رجوع أغلب من جاءوا معه بحيث لم يتجاوز عدد قواته في أوجها عن أحد عشر ألف مقاتل، وفي أضعف حالاته وقت التسليم لم يزيدوا عن خمسمائة فارس، فأي بلاء دفعه الكامل عن المسلمين، وأي مصلحة عامة دخلت على المسلمين، اللهم إذا كان ابن أبي الدم يقصد مساواة المصلحة الشخصية للكامل في أطماعه في بلاد الشام والاستيلاء عليها حتى ولو دفع بيت المقدس للصليبيين ثمنا لها مع المصلحة العامة لعموم الناس، فذلك تدليس وأي تدليس!
أما ابن واصل فيسوق مسوّغات الكامل دون تعقيب عليها في دلالة واضحة لتأييده لها فيقول: "لكن علم الملك الكامل رحمه الله إن الفرنج لا يمكنهم الامتناع بالقدس مع خراب أسواره، وإنه إذا قضى غرضه واستتبت الأمور له كان متمكنًا من تطهيره من الفرنج وإخراجهم منه، وقال السلطان الكامل: إنا لم نسمح لهم إلا بكنائس وآدر خراب، والحرم وما فيه من الصخرة المقدسة وسائر المزارات بأيدي المسلمين على حاله، وشعار الإسلام قائم على ما كان عليه، ووالي المسلمين متحكّم على رساتيقه وأعماله"[8].
نعم سياسيًا كان اتفاقًا شكليًا، لم يكن للصليبيين أية قوة حقيقة أو شوكة، كان يُمكن أن يقنع الناس الذين استشنعوا هذا الفعل بتسويغ الكامل ومبرراته لو كانت المدينة المسلّمة للصليبيين غير مقدسة كبيت المقدس، التي بها أول القبليتن وثالث الحرمين، تلك التي فتحها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم تُفتح لأحد غيره.
وفي "التاريخ الصالحي"[9] يُجلي ابن واصل رأيه بوضوح فيقول: "اقتضى الحال أن الأمر انبرم بين السلطان رحمه الله والفرنج على أن يُسلّم إليهم البيت المقدس داخل الخندق فقط، ولا يكون لهم من بلده إلا قريات معدودة، وإنما فعل ذلك لأن الفرنج كانوا في كثرة من العدد وأمدادهم متواصلة إليهم من البحر، وخاف على البلاد من غائلة العدو، فرأى تسليمه إليهم إلى أن تقوى كلمة الإسلام ويحصل الاتفاق بينهم، وكان ذلك من المصلحة فإن الإمام يجوز له تسليم بلد من البلاد الإسلامية إلى الكفار إذا رأى في ترك التسليم إليهم ضررًا ظاهرًا لا يمكن تلافيه"[10].
فأي أمداد متواصلة للصليبيين هذه التي ذكرها ابن واصل، وجل المؤرخين الصليبيين يذكرون انسحاب الداوية والاسبتارية وغيرهم من معاونته أو حتى مجرد الوقوف معه بسبب حرمان الكنيسة له؟! وأي اتفاق كان سيحصل بين الأيوبيين، والكامل سرعان ما ذهب ليستكمل الحصار على دمشق مع أخيه الأشرف، ولم يجف مداد اتفاق تسليم بيت المقدس للصليبيين بعد؟!
إن هذا المنطق السياسي الذي يستهين بمقدسات المسلمين لأجل مطامع شخصية، وتوسّعات الكامل ليحظى بالمكانة والشهرة ما كان أغناه عنه لو جعل البيت المقدس في أحواز المسلمين كما كان، ألم يعلم الكامل أن عمه صلاح الدين ومن معه ومن قبله من ملوك الإسلام قد بذلوا من الأموال والأنفس في سبيل استرداد بيت المقدس ما لا يُمكن إحصاؤه!
 وبرغم المميزات التي امتازت بها أسرة فردريك وأولاده من بعده بانفتاحها على المسلمين في صقلية ثم في صداقتها للكامل وولديه العادل الثاني والصالح أيوب من بعده بل حتى عصر السلطان الظاهر بيبرس، رغم ذلك الود الذي كان سببا في خسرانهم لملكهم وقتل آخرهم منفريد بن فردريك، فإنهم ظلوا في نهاية الأمر على دينهم وولائهم لحضارتهم التي أُجبر فردريك على احتلال بيت المقدس مرة أخرى لأجلها.
لقد كان كل من ابن أبي الدم الحموي وابن واصل الحموي من المقربين من السلطة الأيوبية، لذا يمكن أن نستكشف سرّ تفهّمهم هذا بل وتبريرهم لتسليم بيت المقدس، وهذا يبين لنا طبيعة المؤيدين للتسليم والمعارضين له، فالمعارضون هم عامة الناس والعلماء الذين قدّموا الدين على السياسة، والمؤيدون هم المقربون من الساسة والسلطة، وتلك طامة كبرى مستمرة، فكم من بلية ابتلي بها المسلمون بسبب عالم السلطة، وتزداد البلية حينما نرى أن من سلّم مفاتيح بيت المقدس إلى فردريك هو قاضي نابلس شمس الدين النابلسي الذي أمر المؤذنين ألا يرفعوا الأذان في الليلة الأولى لفريدريك في بيت المقدس احترامًا له على ما يروي هو نفسه وينقله عنه ابن واصل في تاريخه[11]، مأساة أن يكون السلطان فوق الشرع!  
نُشر في موقع الحملة العالمية





[1] ابن واصل: مفرّج الكروب 4/244.
[2] ابن الأثير: الكامل 10/435.
[3] ابن واصل: مفرّج الكروب 4/243.
[4] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر 3/142.
[5] سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان في تاريخ الأعيان 8/432.
[6] أبو شامة: الذيل على الروضتين ص154.
[7] زكار: الموسوعة الشاملة في الحروب الصليبية 21/290.
[8] ابن واصل: مفرّج الكروب 4/243، 244.
[9] عن التاريخ الصالحي انظر: سهيل زكار: الموسوعة الشاملة في تاريخ الحروب الصليبية 21/8، 9.
[10] سهيل زكار: الموسوعة الشاملة في الحروب الصليبية 21/580، 581.
[11] ابن واصل: مفرّج الكروب 4/244، 245.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق