الثلاثاء، 14 أكتوبر 2014

من تاريخ الجامع الأموي

الجامع الأموي من جملة المآثر العظيمة للخلافة الأموية في دمشق؛ فقد أشرف على بنائه الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان (ت96هـ)، وقد أنفق عليه ملايين الدراهم والدنانير، وكان لهذا المسجد مكانة كبرى ليس لكونه مسجد الأمويين، ومحضن الدمشقيين، وإنما لنشاطه ومهامه الجمة التي لم تتوقف عند الصلاة والخطابة وفقط، وإنما في تربية أبناء وبنات المسلمين وتعليمهم.
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله – وهو الذي تعلّم وتربّى بين جنباته - : "لكل موجود إن حقّقتَ حياة: الجبال والأنهار، والمدن والعمارات، كلها حية تولد وتموت، وتشبّ وتهرم، وتصحُّ وتمرض. هذا الأموي الذي جئتُ أعرض عليكم خطوطاً من صورته، وملامح من تاريخه، له حياة طويلة، ولحياته تاريخ طويل. تاريخ لا يدري إلا ببعضه التاريخ، لأن الأموي وُلد قبل أن يُكتب التاريخ. لا نعرف ولا يعرف أحد مَنْ الذي وضع الحجر الأول فيه، ولا متى شُيّد، فكأنه قام ليصل الأزل بالأبد، صارع النار والدمار، وثبت على الأدهار والأعصار، تكسّرت على جدرانه موجات القرون كما تتكسّر الأمواج على صخرة الشاطئ، ثم ترتد عنه ميتة وهو حي قائم، ذهب أمية[1] بمالها وسلطانها، ولبث وحده يُخلّد في الدنيا اسم أمية، فكان أبقى من كل ما نالت أمية من مال ومن سلطان.كان معبداً من أكثر من ثلاثة آلاف سنة، تداولته أيدي اليونان والرومان وأقوام كانوا قبلهم، ثم صار للمسيح، ثم انتهى لمحمد.
كنيسة صارت إلى مسجد ... هدية السيد للسيد[2]"[3].
 لقد أُعجب بالجامع كثير من الرحالة، لاسيما المغاربة والأندلسيين منهم؛ فقد انبهروا بمكانته وعظمته فضلاً عن علم وثقافة المعلّمين والخريجين منه، ومن هؤلاء الرحالة الذين دونوا إعجابهم بهذا المسجد نجد ابن جبير البلنسي محمد بن أحمد الكناني (ت614هـ) الذي قال عنه: "وفي هذا الجامع المبارك مجتمع عظيم، كل يوم إثر صلاة الصبح، لقراءة سبع من القرآن دائماً، ومثله إثر صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية، يقرأون فيها سورة الكوثر الخاتمة. ويحضر في هذا المجتمع الكوثري كل من لا يجيد حفظ القرآن. وللمجتمعين على ذلك إجراء (أي مرتب وعطاء من المال) كل يوم يعيش منه أزيد من خمس مئة إنسان. وهذا من مفاخر هذا الجامع المكرم. فلا تخلو القراءة منه صباحاً ولا مساءً. وفيه حلقات للتدريس للطلبة، وللمدرسين فيها إجراء واسع، وللمالكية زاوية للتدريس في الجانب الغربي، يجتمع فيها طلبة المغاربة، ولهم إجراء معلوم"([4]).
فهذا من عجائب الحضارة الإسلامية وجمالها؛ إذ يُعطى المتعلم مالاً على مواظبته وثباته وليس للمعلم وفقط، ومثلما يُنفق على هؤلاء الكبار لتشجيعهم على حب القرآن وتلاوته والمدوامة على حضور مجالسه، تهتم المؤسسات الرسمية والاجتماعية والوقفية على أولاد المسلمين الملتحقين بهذا المسجد، فنرى ابن جبير قائلاً: "وعند فراغ المجتمع السّبُعي من القراءة صباحاً يستند كل إنسان منهم سارية ويجلس أمامه صبي يلقنه القرآن. وللصبيان أيضاً على قراءتهم جراية معلومة. فأهل الجدة من آبائهم ينزهون أبناءهم عن أخذها وسائرهم يأخذها وهذا من المفاخر الإسلامية. وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير، يأخذ منه المعلم لهم ما يقوم به وينفق منه على الصبيان ما يقوم بهم وبكسوتهم؛ وهذا أيضاً من أغرب ما يحدث به من مفاخر هذه البلاد. وتعليم الصبيان للقرآن بهذه البلاد المشرقية كلها انما هو تلقين، ويعلمون الخط في الأشعار وغيرها، تنزيهاً لكتاب الله عز وجل عن ابتذال الصبيان له بالإثبات والمحو. وقد يكون في أكثر البلاد الملقن على حدة والمكتب على حدة فينفصل من التلقين التكتيب، لهم في ذلك سيرة حسنة. ولذلك ما يتأتى لهم حسن الحظ، لأن المعلم له لا يشتغل بغيره، فهو يستفرغ جهده في التعليم والصبي في التعلم كذلك، ويسهل عليه لأنه بتصوير يحذو حذوه"([5]).
 وبعد قرن من رحلة ابن جبير يمر خلفه ابن بطوطة محمد بن عبد الله الطنجي (ت779هـ) بدمشق، ويعجب العجب ذاته، وينبهر بما انبهر به سلفه ابن جبير، فيتناول الجامع الأموي في رحلته، ونشاطه العظيم في مسيرة التربية والتثقيف في العصر المملوكي، وعن نظامه الإداري والتعليمي يقول: "هو أعظم مساجد الدنيا احتفالاً، وأتقنها صناعة، وأبدعها حسناً وبهجة وكمالاً، ولا يعلم له نظير، ولا يوجد له شبيه"([6]).
ولقد تحدث ابن بطوطة عن المعلمين ومناهج التعليم في الجامع الأموي، وقد أثنى عليها كثيرًا بقوله: "ولهذا المسجد حلقات للتدريس في فنون العلم. والمحدثون يقرءون كتب الحديث على كراسي مرتفعة. وقراء القرآن يقرءون بالأصوات الحسنة صباحاً ومساء، وبه جماعة من المعلمين لكتاب الله يستند كل واحد منهم إلى سارية من سواري المسجد يلقن الصبيان ويقرئهم. وهم لا يكتبون القرآن في الألواح تنزيهاً لكتاب الله تعالى، وإنما يقرءون القرآن تلقيناً. ومعلم الخط غير معلم القرآن، يعلمهم بكتب الأشعار وسواها، فينصرف الصبي من التعليم إلى التكتيب، وبذلك جاد خطه لأن المعلم للخط لا يعلم غيره"([7]).
وقد أدى الجامع الأموي دورًا عظيمًا في حركة التربية والتعليم طيلة العصر المملوكي، وظل حتى العصر الحديث قائمًا بهذا الدور، مثله مثل الأزهر في مصر، وخرّج أجيالاً كبارًا، وكان ممن درسَ درّس في الجامع الأموي في العصر المملوكي مجموعة من كبار العلماء مثل العلامة ابن كثير (ت774هـ) ومن قبله العلامة أبو الحجاج المزي (ت742هـ) والذهبي وابن تيمية وغيرهم.
واللافت أن هذا الجامع شهد وسيشهد الكثير من حركة التاريخ والمسيرة الإسلامية، فإن كان قد شهد صعود الحضارة الإسلامية في بواكيرها، فسيكون شاهدًا على عودة هذه الحضارة إلى عزّها، وإنه لمن اللافت أن المسيح ابن مريم u سينزل في منارته الشرقية المعروفة بالبيضاء ليلة قتله للمسيح الدجّال، كما أخبر بذلك نبينا r في حديثه الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه[8]، وما نزول عيسى عليه السلام في هذا المسجد مع المهدي إلا لمكانته وشرفه ورفعته، فيا لفخر أهل الشام به، فك الله كربه وكربهم!

نُشر في مجلة الوعي الشبابي الإلكترونية



[1] يقصد الأمويون وعلى رأسهم الوليد بن عبد الملك بن مروان الخليفة المتوفى سنة 96هـ.
[2] البيت لأحمد شوقي.
[3] علي الطنطاوي: الجامع الأموي في دمشق ص10.
([4]) رحلة ابن جبير ص220.
([5]) رحلة ابن جبير ص220.
([6]) رحلة ابن بطوطة 1/306.
([7]) رحلة ابن بطوطة 1/314.
[8] انظر: صحيح مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجّال وصفته وما معه، حديث رقم 2937. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

هناك تعليق واحد:

  1. Harrah's casino site - Live! Casino Review and Bonuses
    Harrah's is a massive, dynamic, and luckyclub.live exciting casino, where you can play the games you love. From table games, progressives to live poker.

    ردحذف