الثلاثاء، 25 نوفمبر 2014

لماذا سقطت بغداد العباسية (2) ؟

رأينا في مقالنا السابق كيف اختارت الحاشية خليفة ضعيف الرأي، مهيض الجناح، سهل القياد، وأرغمت الأسرة العبّاسية وعلى رأسها أعمام الخليفة الجديد على المبايعة قسرًا بعد منع الطعام، والإقامة الجبرية، ورأينا كيف ساهمت هذه الحاشية الفاسدة في إقصاء الخافجي وهو الشخصية التي ينتابها الغموض، خلا ما وصفت به في مصنفات ذلك العصر بالقوة والنجابة والشجاعة، ومن ثم كان عاقبة هذا الاختيار الفاسد وخيمة فيما بعد، ليس على العراق فقط أو بغداد بل على أجزاء واسعة من العالم الإسلامي!
لقد ازدادت حالة العراق الداخلية سوءًا في زمن المستعصم؛ ففضلا عن كونه ساذجًا في أمور الحكم والرعية كان تسلط أعوانه عليه، وطمعهم فيه، وعملهم على الاستئثار بالسلطة دونه السبب في التنازع والشقاق ومن ثم السقوط في الهاوية في نهاية الأمر، ومن هنا كان استهتار العامة بالحكومة وكثرة الفتن، وتفشي القلاقل، فضلا عن بخل المستعصم وجمعه للأموال من العوامل الأساسية لهذا الانهيار!
حاشية متنازعة!
فعلى صعيد التنازع بين كبار رجال الدولة؛ ظهرت عند موت الخليفة المستنصر والد الخليفة المستعصم قوى نظامه في ثوب التآمر، وكان أبرز رجاله الأمير الكبير إقبال الشرابي قائد الجيوش العباسية منذ عام 626هـ وقد توفي سنة 653هـ، والدوادار الصغير مجاهد الدين أيبك وكان من كبار أمراء الجيش العباسي يرأس فرقة مكونة من 10 آلاف جندي وقتله هولاكو لما استولى على بغداد سنة 656هـ، وأستاذ دار الخلافة أي القائم على مدينة الحكم والخلافة مؤيد الدين بن العلقمي (ت656هـ) والذي أصبح وزيرًا للمستعصم منذ عام 642هـ.
هؤلاء الثلاثة اتفقوا فيما بينهم على البيعة للمستعصم ليتمكن كل منهم من الاستئثار بالسلطة لنفسه؛ لكن ذلك كان له الأثر السيء فيما بينهم كذلك، إذ كان سببًا في العداوة والمكر والتنازع وهو ما ظهر أثره على الخليفة والخلافة كلها؛ منذ بداية تعيين ابن العلقمي وزيرًا سنة 642هـ.
يبدو أن مجاهد الدين أيبك كان يتمنى أن يكون وزيرًا للخليفة المستعصم؛ فضلا عن ذلك رأى أن ابن العلقمي بدأ ينافسه في التقرب من الخليفة بل تطورت العلاقة إلى أصبح ابن العلقمي محببًا من الخليفة وكاتم أسراره الأمر الذي دفع مجاهد الدين لإبعاد ابن العلقمي بكل ما أوتي من قوة، ورأى أن خير طريقة هي إرهابه، وقد سلك لهذا الغرض طريقًا غير شريف إذ جمع حوله كثيرًا من اللصوص والعيارين وأخذ يهدد أمن العاصمة، ولما أعيته الحيل أخذ يدبر لخلع الخليفة نفسه؛ وإقامة آخر مكانه؛ غير أن ابن العلقمي كان فطنًا لهذه المحاولات اليائسة من مجاهد الدين؛ فأعلم الخليفة بها وطلب منه أن يقضي على مدبرها.
أثر التنازع !
لكن الخليفة انصاع للأقوى فيهما مجاهد الدين أيبك، بل استدعاه وأخبره بما نقله إليه ابن العلقمي، وأكد له أن ثقته منوطة به، بل كتب له مرسومًا يجدد له الثقة فيه، وأن كل ما قاله عنه ابن العلقمي كذب وخداع، بل أكثر من ذلك أمر بذكر اسمه في الخطبة بعد اسم الخليفة وتخلى بمنتهى السهولة عن ابن العلقمي[1]!
وكان لتقريب مجاهد الدين أكبر الأثر في حنق ابن العلقمي على الخليفة والخلافة كلها، لأن مخططه للسيطرة على الخلافة ولنشر التشيع في العاصمة بدا أنه سقط من على ارتفاع شاهق، وإن ظل برغم ذلك قريب منه، مدبر للمكائد مدة 14 عامًا متوالية؛ ولنا وقفة معه بعد قليل.
وقد كان لهذا النزاع الذي استمر أعومًا طويلة، والبلاهة التي امتاز بها المستعصم الأثر الكبير على إضعاف قوام الجيش وقوته ومعداته، فرغم القوة التي كان قد وصل لها الجيش في العدد والعتاد في خلافة المستنصر والتي ظهرت جلية حتى الأعوام الأولى لخلافة ولده المستعصم والتي انتصر فيها الجيش العباسي في بعقوبا شمال بغداد على التتار سنة 643هـ[2] إلا أن هذا الوضع قد تغير إلى الأسوأ مع الشح وسوء التقدير الذين وصف بهما الخليفة الأخير، للدرجة التي وبّخ هولاكو – عند احتلاله بغداد – المستعصم بسببها؛ فقد ذكر بعض المؤرخين أن المستعصم حينما وقع في الأسر ومُنع عنه الطعام وشعر بالجوع أمر هولاكو أن يُقدم إليه الكنوز؛ فقال له: إن الكنوز لا تُزيل جوعًا، فرد عليه هولاكو بقوله: "إذا كانت الكنوز لا تسد الرمق، وإذا كانت لا تحفظ الحياة؛ فلماذا لم تعطها لجنودك ليحموك أو إلى جنودي ليُسالموك"[3].
وأيًا ما كان صحة هذا الحوار المنقول بين المستعصم وهولاكو فإن عدد الجيش العباسي قد تقلص بالفعل، قال أبو الفداء في "المختصر في أخبار البشر": "كان عسكر بغداد يبلغ مائة ألف فارس، فقطعهم المستعصم ليحمل إلى التتر متحصل إقطاعاتهم، وصار عسكر بغداد دون عشرين ألف فارس"[4].
ولا شك أن إستراتيجية تقليل عدد الجيش توفيرًا للأموال، ولحمل جزء منها إلى التتار كان من مشورات ابن العلقمي التي وجدت بلا شك هوى عند المستعصم المحب للمال بطبعه؛ بل يؤيد ذلك قول الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك: "لو مكنني أمير المؤمنين المستعصم لقهرتُ التتار، ولشغلت هولاكو بنفسه"[5]. الذي يبدو منه بلا شك أن المستعصم كان عازفًا عن سماع نصيحة قادة جيوشه، غير آبه لهم، بل يأمرهم بلزوم أماكنهم وعدم مجاهدة التتار. ولا شك أن هذه كارثة في القيادة بكل تأكيد، ولذلك لا نستغرب الوصف المتكرر في تراجم المؤرخين والباحثين عنه والتي تصفه كلها بالخليفة "ضعيف الرأي"!
قال ابن الفوطي: "كان الخليفة قد أهمل حال الجند ومنعهم أرزاقهم وأسقط أكثرهم من دساتير ديوان العرض[6]، فآلت أحوالهم إلى سؤال الناس، وبذل وجوههم في الطلب في الأسواق والجوامع، ونظم الشعراء في ذلك الأشعار فمما قاله المجد النشّابي[7] من قصيدة جاء فيها:
يا سائلي ولمحض الحقّ يرتاد ... أصخ فعندي نشدان وإنشاد
أما الوزير فمشغول بعنبره *** والعارضان فنسّاج ومدّاد
وحاجبُ الباب طورًا شاربٌ ثملٌ *** وتارة هو جنكي وعوّادُ
وشيخ الإسلام صدر الدين همّته *** مقصورة لحُطام المال يصطادُ
وا ضيعة الملك والدّين الحنيف وما *** تلقاه من حادثات الدّهر بغدادُ
أين المنية مني كي تُساورني *** فللمنية إصدار وإيرادُ
هتك وقتل وأحداث يشيب بها ... رأس الوليد وتعذيب وأصفاد[8]
كل هذا قد صاحبه سوء الخدمات واضطراب الأمن في العاصمة، للدرجة التي غرقت فيها في جمادى الأولى سنة 654هـ وكان هذا الغرق سببًا في سوء الأوضاع الاجتماعية بل وتدمير العتاد الحربي الذي كان في الخزائن آنذاك، يقول اليونيني: "أصابها غرق عظيم حتى دخل الماء من أسوار بغداد إلى البلد وغرق كثير من البلد ودخل الماء دار الخليفة وسط البلد وانهدمت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون داراً وانهدم مخزن الخليفة وهلك من السلاح شيء كثير وعادت السفن تدخل إلى وسط البلد وتتخرق أزقة بغداد"[9].
مع هذا الخراب الذي لحق بالعاصمة ومؤنها وعتادها، تجدد المناوشات بين السنة والشيعة وقد وصلت إلى أعلى ذروتها في سنة 655هـ أدى لتدخل الخلافة – وهذه من المرات القليلة التي تتخلى فيها عن حيادها – إلى توجيه ضربة قاسية لحي الكرخ الشيعي، يقول ابو الفداء في تاريخه: "جرت فتنة بين السنية والشيعة ببغداد، على جاري عادتهم، فأمر أبو بكر ابن الخليفة وركنُ الدين الدوادار العسكرَ، فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء، وركبوا منهن الفواحش، فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي، وكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد"[10].
باختصار لا نرى في نهاية هذا المقال أفضل من وصف الدكتور الصلابي لشخصية المستعصم وسياسته التي يقول فيها: "كان الضعف القيادي في شخصية المستعصم من الأسباب والمقدمات في زوال الدولة العباسية، لم يحسن اختيار الوزراء، وليست له قدرة على المتابعة والمحاسبة وكان يقاد ولا يقود، وكان سلوكه هذا سبباً لجرأة بعضهم عليه واستغفاله وتحديه فازدادت الفتن في زمانه وازداد التذمر وازداد تدهور الحياة الاقتصادية وانتشار الغلاء وسيطر اللصوص والشطار العيارون ينهبون ويسلبون أمام الشرطة وصاحبها أو بالتواطؤ معه والخليفة لا يحاسب صاحب الشرطة ولا يحاسب الوزير الذي هيمن على حميع الأمور في البلاد وولاياتها التي انفصلت واستقلت، والوزير ابن العلقمي يمهد للانقلاب، حتى يسهل تمرير المؤامرة لازالة السيادة الإسلامية، واسقاط الخلافة، لقد غابت القيادة الحكيمة الربانية والتي تحدث عنها المولى عز وجل في كتابه وبين صفاتها وأخلاقها لكي تعمل الأمة على إيجادها، ولكن الأمة تركت حقها في الاختيار، وتأثرت مع الزمن والوقت بمعاول هدم روح المبادرة، والمحاسبة والمتابعة والوقوف ضد أخطاء الحكام، وأصبح الخليفة محمي بقداسة وهمية صنعت لهذا المنصب مع مرور الزمن، والابتعاد عن روح الشريعة ومقاصدها الغراء"[11].




[1] مصطفى بدر: محنة الإسلام الكبرى ص133، 134.
[2] الدياربكري: تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس 2/372.
[3] مصطفى بدر: محنة الإسلام الكبرى ص135.
[4] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر 3/194.
[5] الذهبي: سير أعلام النبلاء 32/371.
[6] أحد الدواوين المتعلقة بالشئون العسكرية في زمن العباسيين المتأخر.
[7] هو مجد الدين أسعد بن إبراهيم بن الحسن الكاتب الإربلي ولد سنة 581هـ استوطن بغداد وكان أحد شعراء الديوان، كان مقدامًا على الهجو والسب، كثير التعرّض بأرباب الدولة، سلم من وقعة المغول سنة 656هـ لكنه توفي في آخر السنة نفسها. الحوادث الجامعة هامش ص350.
[8] ابن الفوطي: الحوادث الجامعة ص350، 351.
[9] اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1/8.
[10] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر 3/193.
[11] الصلابي: المغول بين الانتشار والانكسار ص212.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق