الاثنين، 12 يناير 2015

لماذا سقطت بغداد العباسية (3)؟

ظل المستعصم كدأبه غارقًا في لهوه وعبثه، غير مبال بما يحيق بالخلافة التي كانت قد انحصرت في بغداد وما يجاورها، من خطر التتار القريبين جدا منه، يقول ابن الطقطقى في "الفخري": "في آخر أيّامه قويت الأراجيف[1] بوصول عسكر المغول صحبة السّلطان هولاكو فلم يحرّك ذلك منه عزما، ولا نبه منه همّة، ولا أحدث عنده همّا، وكان كلّما سمع عن السّلطان (هولاكو) من الاحتياط والاستعداد شيء ظهر من الخليفة نقيضه من التّفرط والإهمال، ولم يكن يتصور حقيقة الحال في ذلك، ولا يعرف هذه الدّولة- يسّر الله إحسانها وأعلى شأنها[2]- حقّ المعرفة ... وما زالت غفلة الخليفة تنمي ويقظة الجانب الآخر تتضاعف، حتّى وصل العسكر السلطاني إلى همذان وأقام بها مُديدة، ثمّ تواترت الرّسل السّلطانيّة إلى الدّيوان المستعصميّ، فوقع التعيين من ديوان الخليفة على ولد أستاذ الدّار، وهو شرف الدين عبد الله بن الجوزيّ، فبعث رسولا إلى خدمة الدّركاه[3] السلطانيّة بهمذان، فلمّا وصل وسمع جوابه علم أنه جواب مغالطة ومدافعة، فحينئذ وقع الشّروع في قصد بغداد وبثّ العساكر إليها"[4].
ومهما يكن من رسالة ابن الجوزي فإننا على الجانب الآخر نرى أبو الفداء الأيوبي (ت732هـ) يؤكد أن اتصالات سرية تمت بين ابن العلقمي والمغول شجعهم فيها على غزو العراق، قال: "أرسل ابن العلقمي إلى التتر أخاه، يستدعيهم، فساروا قاصدين بغداد في جحفل عظيم"[5].
الخروج المغولي الكبير!
لقد تمكن المغول في أيام جنكيزخان وابنه أجطاي وحفيده كيوك من نشر نفوذهم فيما وراء النهر وخوارزم وخراسان وفارس وهمذان والري وأذربيجان وبلاد الكرج وأرمينية في القوقاز، كما اعترف بسيادتهم سلطان الروم السلاجقة في الأناضول بل ووصل نفوذهم إلى شمال الشام، ولم يبق خارجًا عن دائرة نفوذهم في غرب آسيا إلا بلاد الإسماعيلية الباطنية في قوهستان والعباسيون في العراق.
لكن مع ارتقاء مُنكوخان بن تولي سنة 650هـ - بعد أن وضع حدًا للنزاع بين بيتي خغطاي وأجطاي، وبعد أن ثبت مركزه وقتل أحفاد أجطاي الذين دبروا المؤامرة ضده – أخذ يعيد المجد المغولي القديم، ويُحيي الحماس في نفوس قومه؛ فأعد العدة لإرسال حملتين؛ إحداهما إلى الصين والأخرى إلى فارس والعراق.
وما يهمنا هي حملة الغرب التي قضت على الخلافة العباسية بالكلية بعد ذلك؛ فقد أسندها الخان الأعظم مُنكو إلى أخيه هولاكو وعنى بها عناية فائقة وذلك منذ سنة 651هـ؛ والأدلة على ذلك كثيرة منها أنه وضع تحت تصرف هولاكو جيشين كبيرين كلاهما حقق نجاحات قوية؛ فالأول كان قد أرسله إلى إيران. والثاني إلى كشمير وهندستان. كما أمده بألف من الرجال ذوي الخبرة في آلات إدارة الحرب وقاذفات النفط وكانوا قد أُحضروا من بلاد الخطا من ما وراء النهر لهذه المهمة، وقد كانت بعض هذه الآلات عبارة عن جاذبات أقواس ميكانيكية تدور بعجلات ويمكنها أن تقذف ثلاثة أقواس في وقت واحد، وكل قوس منها يرمي سهامًا يبلغ طول الواحد منها ثلاثة أو أربعة أذرع. وعين فرقة خاصة من الأسرة الحاكمة ذاتها لحماية هولاكو في مهمته تلك، ثم لم يُهمل في الوقت ذاته تموين الجيش؛ فخصص لكل جندي ألف كل ما يحتاجه من المأكل والمشرب[6].

ومن ثم لم يكن أمام المغول بعد استيلائهم على أملاك الدولة الخوارزمية بالكلية سنة 628هـ أي قوة تستطيع اعتراض طريقهم نحو الغرب وكان الحكام المسلمون يعرفون تمام المعرفة أهمية الدولة الخوارزمية، كحاجز قوي بينهم وبين المغول، لكن سقوطها فتح الباب واسعًا لمزيد من توسعات المغول، ومن ثم حرص منكو خان على إعداد حملة هولاكو إعدادًا محكمًا يكفل لها النجاح كما ذكرنا، ثم رسم لأخيه الخطة التي كان عليه أن يتبعها حيث قال له: إنك الآن على رأس جيش كبير وقوات لا حصر لها فينبغي أن تسير من توران إلى إيران وحافظ على تقاليد جنكيز خان وقوانينه في الكليات والجزيئات وخص كل من يطيع أوامرك ويتجنب نواهيك في الرقعة الممتدة من جيحون حتى أقاصي بلاد مصر بلطفك وبأنواع عطفك وأنعامك، أما من يعصيك فأغرقه في الذلة والمهانة مع نسائه وأبنائه وأقاربه وكل ما يتعلق به، وابدأ بإقليم قهستان في خراسان، فخرب القلاع والحصون، فإذا بادر خليفة بغداد بتقديم فروض الطاعة، فلا تتعرض له مطلقًا، أما إذا تكبر وعصى فالحقه بالآخرين من الهالكين، كذلك ينبغي أن تجعل رائدك في جميع الأمور العقل الحكيم والرأي السديد، وأن تكون في جميع الأحوال يقظًا عاقلاً، وأن تخفف عن الرعية التكاليف والمؤن، وأن ترفه عنهم، وأما الولاية الخربة، فعليك أن تعيد تعميرها في الحال، وثق أنك بقوة الله العظيم سوف تفتح ممالك الأعداء، حتى يصير لك فيها مصايف ومشاتي عديدة، وشاور دقوز خاتون في جميع القضايا والشئون.
وخرج هولاكو على رأس جيشه من قراقورم عاصمة المغول في سنة 651هـ/1253م وفي طريقه لقي مساعدة كاملة من أمراء المغول الذين أعدوا له المأكل والمشرب في جميع المراحل وحرصوا على أن ينظفوا الطريق التي تقرر أن يسلكها الجيش المغولي من الحجارة والأشواك كما أعدوا السفن له لعبور الأنهار الكبيرة، كما قام الأمراء والنبلاء في تلك النواحي بحشد أعداد كبيرة من الجند للإنضمام إلى جيش هولاكو، وفي شهر شعبان سنة 653هـ وصل جيش هولاكو إلى سمرقند، وأمضى بها أربعين يومًا ثم توجه إلى مدينة كش، وهناك وصله كافة الأمراء والأكابر في خراسان وقدموا خضوعهم وهداياهم له وأقام بهذه المدينة قرابة شهر وجه خلالها عدة رسائل إلى الملوك والسلاطين في البلاد المجاورة طلب منهم معاونته في تحطيم قلاع الإسماعيلية والقضاء عليهم وفي مقابل ذلك تعهد لهم بأن يبقيهم على ولايتهم ولا يتعرض لهم بسوء، وهددهم بأن امتناعهم عن مساعدته يجرهم إلى الهلاك وأنه سينزل بهم ما ينزل بالإسماعيلية[7].
مرَّ سقوط بغداد على يد المغول بمرحلتين:
الأولى مرحلة المراسلات بين الجانبين وفشلها.
 والثاني الاقتحام العسكري.
فأما المرحلة الأولى التي تمثَّلت في المكاتبات والمراسلات بين هولاكو والخليفة المستعصم، فقد بدأت منذ القضاء على الإسماعيلية في نهاية عام 654هـ، وبعد انتقال هولاكو بجيشه من قزوين إلى همذان.
وبعد إعداد العدة في همذان وصحرائها، وفي 9 ربيع الآخر سنة 655هـ وصل هولاكو إلى دينور قاصدًا بغداد، ومن هناك رجع إلى همذان مرة أخرى في 12 رجب من السنة ذاتها، وفي 10 رمضان أرسل رسولاً إلى الخليفة مزودًا بالتهديد والوعيد[8].
لقد كان هولاكو حانقًا على الخليفة المستعصم لأنه لم يمده بالمساعدة والعون للقضاء على عدو مشترك كالإسماعيلية، أو حتى لإظهار خضوعه واعترافه بسيادة المغول، ولم يشأ هولاكو أن يخالف وصية أخيه الأكبر خان المغول التي أمره فيها ألا يعتدي على الخليفة العباسي طالما خضع له، لكن المستعصم لم يشغله ما حدث بين المغول والإسماعيلية من حروب، ولم يملك المبادرة لتحقيق المصلحة التي تستوجبها اللحظة الفارقة تلك، قال ابن العبري: "وكان (هولاكو) في ايام محاصرته قلاع الملاحدة (الإسماعيلية) قد سيّر رسولا الى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة فأراد ان يسيّر ولم يقدر ولم يمكّنه الوزراء والأمراء وقالوا: ان هولاكو رجل صاحب احتيال وخديعة وليس محتاجا الى نجدتنا وانما غرضه إخلاء بغداد عن الرجال فيملكها بسهولة"[9].
مراسلات بائسة!
واللافت أن الخليفة كان مشتت الانتباه بين كبار رجال دولته خاصة بين رأي الوزير ابن العلقمي وقائد الجيش مجاهد الدين أيبك وأمير علم الخليفة وحرسه الخاص سليمان شاه بن برجم.
وبعد انتصار هولاكو أرسل إلى الخليفة يقرعه ويوبخه بسبب عدم انصياعه لما أمره به من إرسال الجنود والعتاد لمعاونته؛ فأشار ابن العلقمي بإرسال هدايا قيمة لعلها تهدئ من غضب هولاكو، وقد عزم الخليفة بالفعل على إرسال هدية فخمة "وعندما أخذوا في تجهيز ما يسيّرونه من الجواهر والمرصعات والثياب والذهب والفضة والمماليك والجواري والخيل والبغال والجمال قال الدويدار الصغير وأصحابه: ان الوزير انما يدبّر شأن نفسه مع التاتار وهو يروم تسليمنا إليهم فلا نمكنه من ذلك. فبطل الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة واقتصر على شيء نزر لا قدر له"[10].
ومع ذلك منّى الخليفة نفسه بعلاقات طيبة مع المغول فبعدما تقاعس عن أداء الهدايا لهولاكو "قال: لا خوف من المستقبل؛ لأن بيني وبين هولاكوخان وأخيه منكو قآن روابط ودية، ومحبة صميمية لا عداوة ونفرة، وحيث إني أحبهم فلا شك أنهم يحبونني ويميلون إليّ، وأحسب أن الرسل قد بلّغوني عنهم كذباً، وإذا ظهر خلاف فلا خشية منه؛ لأن كل الملوك والسلاطين على وجه الأرض بمنزلة جنود لنا، فهم مطيعون ومنقادون فلا خوف من تهديد المغول ووعيدهم، ولو أنهم ممتنعون بقوة وشوكة ... فهم بالنسبة للعباسيين لا أهمية لهم"[11].
هكذا كان الخليفة الحالم المتخم بغيابات الوهم، الجاهل بأربعين سنة ماضية قتل فيها المغول عشرات الآلاف من رعايا الدولة الإسلامية في شرق العالم الإسلامي!!
لقد اشتاط هولاكو غضبًا من هذا الفعل المتدني الذي لا يليق به، فأرسل مرة أخرى يقول: "لقد أرسلنا إليك رسلنا وقت فتح قلاع الملاحدة وطلبنا مدداً من الجند، ولكنك أظهرت الطاعة ولم تبعث الجند وكانت آية الطاعة والاتحاد أن تمدنا بالجيش عند مسيرنا إلى الطغاة، فلم ترسل إلينا الجند والتمست العذر ولا بد أنه قد بلغ سمعك على لسان الخاص والعام، ما حل بالعلم والعالمين على يد الجيش المغولي، منذ عهد جنكيز خان إلى اليوم، والذي حاق بأسر الخوارزمية والسلجوقية وملوك الديالمة والاتابكية وغيرهم ممن كانوا ذوي عظمة وشوكة، وذلك بحول الله القديم الدائم، ولم يكن باب بغداد مغلقاً في وجه أية طائفة من تلك الطوائف، واتخذوا منها قاعدة وملكاً لهم، فكيف يغلق في وجهنا رغم مالنا من قدرة وسلطان؟ ولقد نصحناك من قبل، والآن نقول لك احذر الحقد والخصام.."[12].
وشرط عليه قائلا: "لا بدّ من مجيئه (أي المستعصم) هو بنفسه او يسيّر أحد ثلاثة نفر: إما الوزير وإما الدويدار وإما سليمانشاه". وبالفعل طلب الخليفة منهم "المضيّ فلم يركنوا الى قوله فسيّر غيرهم مثل ابن الجوزي وابن محيي الدين فلم يجديا عنه.."[13]. ويظهر من رفض الثلاثة الكبار للذهاب إلى هولاكو مدى ضعف ووهن المستعصم وقلة هيبته بين كبار رجال دولته.
ويبدو أن رسالة شرف الدين بن الجوزي لم تكن إلا مزيدًا من سكب البنزين على النار، فبدلاً من تهدئة خاطر هولاكو والإذعان ولو الظاهري له، أرسل يقول: "إن ملايين من الخيالة والرجالة على استعداد للحرب رهن إشارتي حتى إذا حلت ساعة الانتقام جففوا مياه البحر"[14].
وكان مما جاء فيها أيضًا: "أيها الشاب الحدث ... المتمني قصر العمر، ومن ظن نفسه محيطاً ومتغلباً على جميع العالم مغتراً في يومين من الإقبال، متوهماً أن أمره قضاء مبرم، وأمر محكم، لماذا تطلب مني شيئاً لن تجده؟ ألا يعلم الأمير أنه من الشرق إلى الغرب وأنه من الملوك إلى الشحاذين ومن الشيوخ إلى الباب ممن يؤمنون بالله ويعملون بالدين، كلهم عبيد هذا البلاط وجنود لي. إنني حينما أشير بجمع الشتات سأبدأ بحسم الأمور في إيران ثم اتوجه منها إلى بلاد توران، وأضع كل شخص في موضعه، وعندئذ سيصير وجه الأرض مملؤ بالقلق والاضطراب"[15].


نُشر في الحملة العالمية
[1] الشائعات.
[2] سنرى بعد قليل كيف أن ابن الطقطقى معجب بدولة التتار بل ومدافع قوي عن ابن العلقمي!
[3] يقصد القصر المغولي في همذان.
[4] ابن الطقطى: الفخري في الآداب السلطانية ص334، 335.
[5] أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر 3/194.
[6] مصطفى بدر: محنة الإسلام ص148.
[7] الصلابي: المغول بين الانتشار والانكسار ص180.
[8] عبّاس العزّاوي: تاريخ العراق بين احتلالين 1/155.
[9] ابن العبري: تاريخ مختصر الدول ص269.
[10] ابن العبري: تاريخ مختصر الدول ص270.
[11] عباس العزاوي: تاريخ العراق بين احتلالين 1/160 نقلا عن جامع التواريخ للهمذاني.
[12] الصلابي: المغول بين الانتشار والانكسار، نقلا عن جامع التواريخ ص191.
[13] ابن العبري: تاريخ مختصر الدول ص270.
[14] مصطفى بدر: محنة الإسلام ص159.
[15] الصلابي: المغول بين الانتشار والانكسار، نقلا عن جامع التواريخ ص192.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق