الاثنين، 6 أبريل 2015

الذوقُ العام في حضارتنا!

حين كتب المستشرق الجاد مايكل كوك كتابه المهم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، كان دافعه من وراء هذا العمل الذي استمر معه لمدة عشر سنوات كاملة هي تلك الحادثة التي قرأ عنها في الصحف الأمريكية عن تلك المرأة التي اغتُصبت على مرأى من الجميع في محطة قطار شيكاغو سنة 1988م، وما تدخّل عشرات المشاهدين لإنقاذها أو ردع الجاني، "وماذا يعنيه ذلك في سياق المسئولية الأخلاقية والقانونية والدينية العامة"[1]. ثم انتقاله في بداية كتابه الآنف إلى قصة "صائغ مرو" الذي تصدّى لأبي مسلم الخراساني بطل الثورة العباسية؛ لردعه عن الظلم ففقدَ حياته استنادًا لاعتقاده بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقارنته بين تلك الحادثتين، وما ترتّب عليه من تتبع كوك على مستوى الطرائق الفيلولوجية - التي انتهجها من قبله مستشرقو القرن التاسع عشر والعشرون في دراساتهم حول التراث الإسلامي – في القرآن الكريم والحديث النبوي والمذاهب الفقهية والكلامية والمدارس الإسلامية المعاصرة، فخلص إلى تلك النتيجة التي فصّلها حجة الإسلام الغزالي (ت505هـ) في "إحياء علوم الدين"، في الفصل الذي عقده باسم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؛ إذ قال رحمه الله: "إن الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ هُوَ الْقُطْبُ الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين"[2].
الإطار الأخلاقي النظري
لقد رأى ذلك الباحث الأمريكي كوك أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو المبدأ الذي ميّز الأمة المسلمة عن أمته الغربية؛ فهو يعترف بصراحة تُحسب له أنه "ليست لدينا [في الغرب] في حياتنا اليومية مصطلح يشرح هذا الواجب، كما ليست لدينا نظرية عامة حول الأوضاع التي ينطبق عليها، والإرغامات التي تُسقطة. إن القيمة الأخلاقية موجودة عندنا، لكنها ليست من القيم التي أولتها ثقافتنا صياغة متطورة ومتكاملة"[3].
في المقابل، فإن من يبغي فهم قضية الذوق العام واللياقة في ديننا الحنيف لن يجد أفضل من مدخل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناه الأعم الأشمل، للفهم والاستيعاب، وربما الدهشة التي تُصيب القارئ والباحث على السواء لمدى الشمولية التي تُملس في هذا المبدأ الإلهي العظيم!
واستقاء هذا المبدأ كغيره من المبادئ الأخرى في الإسلام إنما يتكئ على القرآن الكريم والسنة النبوية، وهو مما لا يُحصى ولا يُحصر، والآية القرآنية الجامعة التي تكشف عن أن خيرية الأمة المسلمة إنما يرتبطُ بتمسّكها بهذه الوظيفة الحضارية والأخلاقية على المستوى الفردي والجمعي على السواء كاشفة لذلك؛ إذ قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[4]. وقد علّق الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – على هذه الآية بقوله: "سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن يُنتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها. ليدلها على أنها لا توجد وجوداً حقيقياً إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية، التي تُعرف بها في المجتمع الإنساني"[5].
والحق أن حجة الإسلام الغزالي كان من أوائل من عكفوا على فهم النظرية الأخلاقية في القرآن الكريم وأثرها العملي على الذوق والسلوك العام، وذلك في كتابه "جواهر القرآن"، وقد ردّ جوهر هذه النظرية إلى عُنصرين أساسيين يتصل أحدهما بالمعرفة، ويتصل الآخر بالسلوك، وانتهى إلى أن حصر في القرآن من النوع الأول سبعمائة وثلاثًا وستين آية؛ كما حصر من النوع الثاني سبعمائة وإحدى وأربعين آية[6].
أما الأحاديث النبوية الشريفة فهي كثيرة للغاية، لعلّ أشهرها قوله r: "من رأى منكم مُنكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبِه وذلك أضعف الإيمان"[7]، وهذا الحديث الشريف من جوامع الكلم في قضية الذوق العام واللياقة؛ إذ تركُ الحرية للمفسدين أو المنحلين على إطلاقها مفسدة للمجتمع؛ والإنسان بطبعه متعجّل للمعصية قبل الطاعة، كما أخبرنا تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[8]، ولو لم يجد هؤلاء المفسدون من يقف لهم آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، لاستشرى فسادهم.
من النظرية إلى العمل!
إن أهمّ ما يميّز الحضارة الإسلامية أنها كانت على المستوى العملي نموذجًا فذًا لتطويع الحركة البشرية فكرًا ومادةً لخدمة الوحي الشريف؛ ونظرًا لأن قضية الذوق والسلوك العام، كانت قد تجلّت في آي الذكر الحكيم، وأقوال وأفعال النبي r وخلفائه من بعده؛ فقد برزت بمرور الوقت، ونضوج الفكرة، مسألة الاحتساب كسلوك واقعي، وانتقل الأمر من طور الفردانية إلى عمل مؤسسي جاد له ضوابطه وقواعده الواضحة، بل لم يتوقف الأمر عند ذلك إذ صار الاحتساب وظيفة لا غنى للدولة الإسلامية عنها، ثم شُرع في وقت لاحق في الكتابة المتخصصة عن الدور الأخلاقي والتعريف المنطقي لهذه المؤسسة، فظهرت مؤلفات الاحتساب في حقل الآداب والأخلاق العامة، وربما وجدناه في حقل السياسة الشرعية وآدابها.
أما الأمثلة التاريخية على هذا فأكثر من أن تُحصى في مجلد فضلاً عن مقال، لقد حكى الإمام ابن كثير في "البداية والنهاية" أن رجلا يُدعى "أبا الحسين النوريَّ اجتاز بزورق فيه خمر مع ملاَّح (بحَّار) فقال: ما هذا؟ ولمن هذا؟ فقال له: هذه خمر للمعتضد [الخليفة العباسي]. فصَعِدَ أبو الحسين إليها فجعل يضرب الدنان (أوعية ضخمة) بعمود في يده حتى كسرها كلها إلا دنًّا واحدًا تركه، واستغاث الملاح، فجاءت الشرطة، فأخذوا أبا الحسين، فأوقفوه بين يدي المعتضد، فقال له: ما أنت؟ فقال: أنا المحتسب. فقال: ومن ولاَّك الحسبة؟ فقال: الذي ولاَّك الخلافة يا أمير المؤمنين. فأطرق رأسه، ثم رفعه فقال: ما الذي حملك على ما فعلت؟ فقال: شفقة عليك؛ لدفع الضرر عنك. فأطرق رأسه، ثم رفعه، فقال: ولأي شيء تركت منها دنًّا واحدًا لم تكسره؟ فقال: لأني إنما أقدمتُ عليها فكسرتها إجلالاً لله تعالى، فلم أُبَالِ أحدًا، حتى انتهيتُ إلى هذا الدنِّ دخل نفسي إعجاب من قبيل أني قد أَقْدَمْتُ على مثلك فتركته. فقال له المعتضد: اذهب، فقد أطلقت يدك، فغيِّر ما أحببتَ أن تُغَيِّره من المنكر. فقال له النوري: الآن انتقض عزمي عن التغيير. فقال: وَلِمَ؟ فقال: لأني كنتُ أُغَيِّرُ عن الله، وأنا الآن أُغَيِّر عن شرطي. فقال: سَلْ حاجتك. فقال: أحبُّ أن تُخْرِجَني من بين يديك سالمًا. فأمر به فأُخْرِج فصار إلى البصرة، فأقام بها مختفيًا؛ خشية أن يشقَّ عليه أحدٌ في حاجة عند المعتضد، فلما توفي المعتضد رجع إلى بغداد"[9].
لقد تدخلت وظيفة المحتسب في كل ما من شأنه المحافظة على الذوق والسلوك العام، ومن أعجب ما نقرأ؛ ما وضعه ضياء الدين ابن الإخوة (ت729هـ) في كتابه "معالم القربة في طلب الحسبة" في فصل "في الحِسبة على مؤدِّبي الصبيان" حيث قال: "يُشترط في المعلِّم أن يكون من أهل الصَّلاح والعفَّة والأمانة؛ حافظًا للكتاب العزيز، حسن الخطِّ ويدري الحساب، والأولى أن يكون مُزوَّجًا، ولا يُفسح لعازبٍ أن يفتح مكتبًا لتعليم الصِّبيان إلَّا أن يكون شيخًا كبيرًا، وقد اشتهر بالدِّين والخير ومع ذلك فلا يؤذن له بالتَّعليم إلَّا بتزكيةٍ مرضيَّةٍ وثبوت أهليَّته لذلك. وينبغي للمؤدِّب أن يترفَّق بالصَّغير ... ولا يضرب صبيًّا بعصًا غليظةٍ تكسر العظم، ولا رقيقةٍ لا تؤلم الجسم بل تكون وسطًا ... وينبغي للمؤدِّب أن لا يستخدم أحد الصِّبيان في حوائجه وأشغاله الَّتي فيها عارٌ على آبائهم كنقل التُّراب والزِّبل وحمل الحجارة وغير ذلك، ولا يرسله إلى داره وهي خاليةٌ لئلَّا يتطرَّق إليه التُّهمة ..."[10]. وهذا الكتاب يُعدّ من أروع ما كُتب في قضية الذوق العام وضوابطها فضلاً عن مؤلفات أخرى سبقته مثل كتاب "نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة" للشيزري (ت590هـ).
لا ريب أن نظام الحسبة في الإسلام – كما يقول العلامة مصطفى الشكعة - "هو ذروة ما يمكن أن يفكِّر فيه الحكم الحصيف؛ للحرص على راحة الناس وأَمْنِهِم ودِعَتِهم، والحفاظ على رفاهيتهم، وتجنيبهم كل أسباب القلق والضيق، وحماية المجتمع أدبيًّا ومعنويًّا ومادِّيًّا، حمايةً مبسوطة كل البسط، غير محدودة بحدود، ولا مُقَيَّدة بقيود، إلاَّ حدود الأمن وقيود الذوق، ولا نكاد نجد حَكَمًا معاصرًا في أية دولة معاصرة يستعمل مثل هذا الأسلوب من أساليب حماية المواطنين في نطاق وظيفة بِعَيْنِهَا، مثل وظيفة الحسبة وصاحبها المحتسب"[11].

نُشر في مجلة الوعي الإسلامي، عدد جمادى الآخرة 1436هـ/ إبريل 2015م.



[1] مايكل كوك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي، مقدمة رضوان السيد ص20. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الثانية – بيروت، 2013م.
[2] الغزالي: إحياء علوم الدين 2/306. دار المعرفة – بيروت.
[3] كوك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ترجمة رضوان السيد وآخريْنِ ص25.
[4] (آل عمران: 110).
[5] سيد قطب: في ظلال القرآن 1/448. دار الشروق، الطبعة السابعة عشر – القاهرة، 1412هـ.
[6] محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن، ترجمة عبد الصبور شاهين ص5. مؤسسة الرسالة، الطبعة العاشرة – بيروت، 1998م.
[7] صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان (78). تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[8] (الشمس: 8).
[9] ابن كثير: البداية والنهاية 11/89.
[10] ابن الإخوة: معالم القربة في طلب الحسبة ص170، 171. دار الفنون، كامبردج.
[11] مصطفى الشكعة: معالم الحضارة الإسلامية ص84.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق