الجمعة، 28 مارس 2014

بيت المقدس من الاسترداد إلى التسليم! (1)



قاد صلاح الدين يوسف بن أيوب جموع الناس في الشام ومصر والجزيرة لهدف واحد هو تحرير بيت المقدس، وتوحيد الأقطار الإسلامية جريًا على سنة خلفه نور الدين بن زنكي، وكان في انتقاله من الشام إلى مصر، ثم بإلغائه الدولة الفاطمية العبيدية وإعلان التبعية الاسمية للبيت العباسي دوره الكبير في تحقيق هدفه المنشود.

 ظل صلاح الدين طيلة بضع وعشرين عامًا كاملة ينتقل من موقعة إلى موقعة، ومن معركة إلى أخرى لا يحركه إلا البيت المقدس، والمسجد الأقصى، ولا يرى أمامه إلا حظائر الخنازير التي تملأ باحاته، وجموع الصليبيين الذين لم يرعوا في المسلمين إلا ولا ذمة، استنزفت هذه المعارك فيها الأمة من الأموال والأنفس ما لا يُحصيه إلا الله!
ولو عرف صلاح الدين أن ابن أخيه الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب سيضيّع هذا الجهد العظيم بغباء منقطع النظير، أو بحسابات سياسية ضيقة على أقل توصيف، دون ضربة سيف أو رمح أو سهم، لما وسعه أن نفاه بله قتله، وقد كان من ألطاف الله أن مات صلاح الدين قبل أن يرى هذه المأساة المستبشعة، ولم يكن الوصول إلى هذا المصير باتفاق ساذج إلا مقتًا في العالم الغربي، ومأساة في العالم الإسلامي، بسبب السمات الشخصية التي اتسم بها الكامل من الهدوء والسكون وتقدم السلم على الحرب، هدوء زاد عن حده ليصل إلى الغباء والحماقة!
ذهابُ الريح!
إن أعجب ما في الدولة الأيوبية أن قيادييها الأقوياء يعدّون على الأصابع، صلاح الدين يوسف على رأسهم وأخوه العادل أبو بكر محمد وحفيد أخيه الصالح نجم الدين أيوب وربما الناصر يوسف بن العزيز محمد آخرهم، لكن كثيرين هم من يمكن أن يُوصفوا بالسذاجة والضعف والحمق أيضا؛ فمنذ وفاة صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة 589هـ بدأ النزاع الأيوبي بين ابنيه الأفضل علي والعزيز عثمان، وسرعان ما استغل عمهما العادل أبو بكر بن أيوب هذا الخلاف ليسيطر على مقاليد الأوضاع في الجزيرة والشام ومصر، على أن وفاة العادل سنة 615هـ قد جدّد المأساة بين أولاده خصوصا الثلاثي المعظّم عيسى والأشرف موسى والكامل محمد الذين قُسّمت المملكة الأيوبية بينهم، وظل الخلاف على أشده، تارة يتحد الأشرف والمعظّم على الكامل وتارة العكس، وتارة يستعين أحدهم بالقوات الخوارزمية وفلولهم في الجزيرة وديار بكر، وتارة يستعينون ببقايا الصليبيين في الشام، ولم يكفهم أنهم ابتلوا بالحملة الصليبية الخامسة على الشام ومصر، وحصار دمياط وموقعة المنصورة سنة 615هـ.
ظل الإخوة الأعداء على هذا المنوال إلى أن تُوفي المعظّم عيسى سنة 624هـ، وتوفي الأشرف موسى سنة 635هـ صاحب البلاد الجزرية في شمال شرقي الشام والعراق وبعض بلاد الأكراد والكامل محمد صاحب مصر وفلسطين في نفس العام سنة 635هـ.
ومثلما حدث مع أبناء صلاح الدين وأبناء العادل يحدث للمرة الثالثة مع أبناء الأبناء الخلاف ذاته، فقد خلف الملك الناصر داود أباه المعظم عيسى على الشام فكانت حدود دولته من حمص إلى العريش، وسُرعان ما أخذ عمه الملك الأشرف دمشق منه بصلح مع الملك الكامل وأُعطي الناصر داود بدلا منها الكرك والشوبك ونابلس وبيسان، وأعُطي الكامل الرقة وما يحيط بها، وظل الأيوبيون على خلافهم يتناقلونه كابرًا عن كابر، وحفيدًا عن أب حتى في ظل اجتياح التتار لبغداد، ولطالما أرسل إليهم الخليفة العباسي للوساطة والصلح، فبرغم خلافهم وتناحرهم على الملك ومناطق النفوذ إلا أنهم كانوا أفضل تماسكًا من غيرهم الذين سُحقوا كالخوازمية وموالي السلاجقة في الموصل وسلاجقة الروم في الشمال، ولعل هذا الذي دفع العباسيين إلى المصالحة بينهم مرارا.
على أن وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة 647هـ قد وضعت حدًا لهذا الخلاف الأيوبي، إذ سرعان ما استولى مواليه من المماليك الأتراك على سُدة الحكم بعدما قتلوا ولده تورانشاه سنة 648هـ، واستطاعوا أن يقفوا أمام هجمات أيوبي الشام بقيادة الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي وهو آخر ملوك بني أيوب الذي استطاع أن يستولي على معظم بلاد الشام من حلب إلى دمشق والكرك جنوبا، وسرعان ما قضى المغول على دولته وقتلوه سنة 659هـ.
يقول دكتور مصطفى بدر: "لو أنعمنا النظر في تاريخ الدول الأيوبية لوجدنا أن حروبًا كثيرة كانت تقوم بين أفراد البيت الأيوبي، وكان من نتائج هذه الحروب أن بعض أفراد هذه البيوت الحاكمة كان يمد نفوذه أحيانًا على أملاك البعض الآخر، ومثل ذلك ما حدث حين استولى الأشرف مظفر الدين موسى صاحب البلاد الجزرية على دمشق سنة 626هـ، ومثل ما حدث بعد ذلك حين مد الكامل صاحب مصر سلطانه على دمشق سنة 635هـ، وتبعه في ذلك العادل الثاني في نفس السنة ثم الصالح أيوب سنة 637هـ وسنة 643هـ بعد أن كان الصالح إسماعيل صاحبها قد استرد نفوذه فيها (637 – 643هـ)"[1]. هذا بخلاف اختلاف صغار الأمراء من أصحاب المدن الواحدة أو القلاع القليلة.
هذا النزاع الداخلي الذي استمر ما يزيد على 50 عامًا كاملة بعد وفاة صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة 589هـ أدى إلى نتائج خطيرة على الصعيد السياسي والعسكري؛ إذ "تخلّى الأيوبيون عن دورهم التاريخي في التصدي للصليبيين، وآثروا الالتزام بسياسة المهادنة حتى يتفرغوا لمنازعهم الداخلية، ومن ثم فإن دولتهم التي جاءت استجابة ناجحة للتحدي الذي فرضه العدوان الصليبي على المنطقة لأن مؤسس الدولة صلاح الدين التزم بسياسة الجهاد والهجوم على الصليبيين – هذه الدولة فقدت مبررات وجودها منذ أخذ ملوك بني أيوب وسلاطينهم يعزفون عن الهجوم ضد الصليبيين، ولجئوا إلى سياسة المهادنة والتعايش السلمي، ومن الأمور اللافتة للنظر في هذا السبيل أن الحروب التي خاضها الأيوبيون ضد الصليبيين كانت معظمها حروبًا دفاعية تأتي كرد فعل للهجمات أو الحملات التي شنّها الصليبيون ضد المسلمين في مصر والشام، وفي خضم أحداث الحملة الصليبية السابعة برزت قوة جديدة أثبتت قدرتها على التصدي للصليبيين وتزعم المنطقة العربية الإسلامية في مواجهتهم – تلك هي قوة المماليك"[2].
الحملة الصليبية الخامسة وبروز الكامل!
كان العادل أبو بكر محمد بن أيوب أميرًا قويًا ذا بأس وشكيمة، مرّسته التجاريب، وخضرمته السنون التي لازم فيها أخاه الناصر صلاح الدين يوسف، وناب عنه في عدة بلاد كمصر وحلب وغيرها، ولهذه المكانة التي عرفها له صلاح الدين في معارك الجهاد الأيوبي ضد الصليبين، أوصى أن يحكم الكرك والشوبك ومناطق أعالي العراق بعد وفاته، لكن النزاع الذي دار بين ابني صلاح الدين الأفضل علي والعزيز عثمان، والذي حاول معه العادل مرارًا أن يُصلح بينهما، ثم الإشكالية الأكبر التي تمثلت في أن دولة صلاح الدين لم تُقسم بين الأفضل والعزيز فقط، فقد نال الظاهر غازي ابن صلاح الدين الأصغر حكم حلب، وأخذ سيف الإسلام طغتكين أخو صلاح الدين حُكم اليمن، وسرعان ما عاد التناوش والتشرذم سيد الموقف، كان سببا مهما لتدخل العادل استغلاله للوضع.
على أن هذا التشرذم والتشاحن لم يكن ليُعجب الأمير الكبير المحنك العادل، فاستطاع أن يُقصي كل الأمراء الضعاف فصفى له حكم مصر والشام في ست سنوات فقط.
توفي العادل سنة 615هـ وقد قسم مملكته بين أبناءه الأربعة: الكامل محمد والمعظم عيسى والأشرف موسى والأوحد أيوب.
وقبل وفاة العادل أبي بكر تزامن مجيء الحملة الصليبية الخامسة التي وصلت عكا في سبتمبر من عام 1217م/ 614هـ، وكان ملك مملكة عكا الصليبية وكبيرهم في الشرق هو حنا برين الذي أرسل إلى بابا النصارى يطلب منه إعداد حملة صليبية لاسترداد بيت المقدس.
وقد "استجاب البابا إنوسنت الثالث للدعوة فأرسل مندوبيه للدعاية للحملة في شتى أرجاء الغرب الأوربي، وفي مجمع اللاتين الكنسي العام الذي عُقد سنة 1215م، شرح البابا إنوسنت الثالث أصول مملكة عكا، وترتيب بعض الوسائل للحصول على النفقات المطلوبة لتجهيز الحملة الصليبية المقترحة، وطرح البعض في هذا الاجتماع فكرة الاستيلاء على مصر كوسيلة لضمان نجاح الحملة التي تهدف إلى استعادة السيطرة الصليبية على مدينة بيت المقدس، وفي سنة 1216م وجّه البابا إنوسنت الثالث إنذارًا للسلطان العادل الأيوبي بقرب وصول الحملة التي تم إعدادها للاستيلاء على مصر إذا لم يُنقذ نفسه بتسليم مدينة بيت المقدس في هدوء، وفي تلك الأثناء مات البابا، ولكن خليفته على العرش البابوي واصل خططه بشأن الحملة الصليبية وأرسل يُطمئن حنابرين والصليبيين في الشرق إلى أن الحملة قادمة في القريب العاجل"[3].
وقد وصلت الحملة الصليبية الخامسة بقيادة ملك المجر وملك النمسا، قال ابن الأثير في حوادث سنة 614هـ: "في هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر من رومية الكبرى وغيرها من بلاد الفرنج في الغرب والشمال، إلا أن المتولي لها كان صاحب رومية، لأنه يتنزل عند الفرنج بمنزلة عظيمة، لا يرون مخالفة أمره ولا العدول عن حكمه فيما سرهم وساءهم، فجهز العساكر من عنده مع جماعة من مقدمي الفرنج، وأمر غيره من ملوك الفرنج إما أن يسير بنفسه، أو يرسل جيشا، ففعلوا ما أمرهم فاجتمعوا بعكا من ساحل الشام. وكان الملك العادل أبو بكر بن أيوب بمصر، فسار منها إلى الشام، فوصل إلى الرملة، ومنها إلى لُد، وبرز الفرنج من عكا ليقصدوه، فسار العادل نحوهم، فوصل إلى نابلس عازما على أن يسبقهم إلى أطراف البلاد مما يلي عكا ليحميها منهم"[4].
ولم يستطع العادل مواجهتهم في الشام لتفرق جنوده في البلاد المختلفة، وظل الصليبيون ينهبون كل ما تصل إليه أيديهم "من بيسان إلى بانياس وكذلك صيدا والشقيف ... وإذ لم تأت الحرب في البلاد الشامية بفائدة تُذكر؛ فقد قرّر ملك المجر الرجوع إلى بلاده، أما ملك بيت المقدس (مملكة عكا) – حنابرين – فقد قرّر مع بقية الصليبيين التوجه إلى البلاد المصرية واحتلالها باعتبارها المستولية على بيت المقدس، وكانت خطة الصليبيين مبنية على مهاجمة مدينة دمياط الواقعة على الفرع الشرقي لدلتا النيل: على معنى أنهم يحتلونها ثم يسايرون فرع النيل إلى القاهرة"[5].
وكان الكامل محمد نائبًا عن أبيه العادل في مصر، فتولى مهمة صدهم ومفاوضتهم، وتلك قصة نستكملها في مقالنا التالي، لنتعرف على أول عرض له بتسليم بيت المقدس طوعًا سنة 615هـ، ولنرى كيف يمكن أن يضيع مشروع المقاومة لأوهام في عقول القيادة أو لتنازعها فيما بينها!

نُشر في موقع الحملة العالمية


[1] مصطفى طه بدر: محنة الإسلام الكبرى ص61. الهيئة العامة المصرية للكتاب، الطبعة الثانية – القاهرة، 1999م.
[2] قاسم عبده قاسم وعلي السيد علي: الأيوبيون والمماليك ص104.عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية – القاهرة، 1995م.
[3] قاسم عبده قاسم وعلي السيد علي: الأيوبيون والمماليك ص91.
[4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق عمر عبد السلام تدمري 10/302. دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى – بيروت، 1997م.
[5] محمد العروسي المطوي: الحروب الصليبية في المشرق والغرب ص106. دار الغرب الإسلامي -1982م.

هناك تعليق واحد:

  1. The Best Mobile Casinos - Jackson, MS - JTM Hub
    Our recommended casinos 서귀포 출장마사지 include: Caesars Palace, 김제 출장마사지 Harrah's, William 남양주 출장안마 Hill, Las Vegas, Caesars Palace: 영주 출장샵 New York City's first 김제 출장안마 casino.

    ردحذف