الخميس، 1 مايو 2014

كيف طغى الاستهلاك؟!



قديما حاول ابن خلدون في إطار الثقافة/المرجعية الإسلامية، وفي انعدام موجة العولمة والعلمانية التي تجتاح العالم اليوم، أن يقدم تصورًا عن أسباب انهيار الأمم والدول، فكان من جملة الأسباب التي تناولها في حديثه المهم ذاك، هو المالُ وفيضه، والإسرافُ ومآلاته فقال: "يعظمُ التّرفُ فيكثرُ الإسرافُ في النّفقاتِ وينتشرُ ذلك في الرّعيّة؛ لأنّ النّاس على دين ملوكها وعوائدها، ويحتاجُ السّلطانُ إلى ضربِ المكوس (الضرائب) على أثمان البياعات في الأسواقِ لإدرار الجبايةِ لما يراه من ترف المدينة الشّاهد عليهم بالرّفهِ، ولما يحتاجُ هو إليه من نفقاتِ سلطانِه وأرزاقِ جندِه، ثمّ تزيدُ عوائد التّرفِ فلا تفي بها المكوسُ وتكون الدّولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرّعايا"[1]. فكان الاضطهاد والقهر مآلا للترف، ثم سببا في انهيار الدولة في الرؤية الخلدونية للعمران والحضارة والاجتماع.
على أن العالم اليوم ذا المرجعيات الثقافية المتنوعة من المعذور في ضوئه أن نفسّر الظواهر الاجتماعية الغريبة من خلال عامل الترف والإسراف فقط كما تناوله ابن خلدون إذ صار الأمر أشد تعقيدًا وتركيبا بلا شك.
المرجعية وأداة التنفيذ
إن "العقلية الاستهلاكية هي تلك العقلية التي تُقبلُ على الاستهلاكِ متجاوزة درجة إشباع الحاجات الطبيعية الضروريّة للعيشِ إلى إشباعِ الحاجات الثانوية الغير ضروريةٍ"[2].
ويمكن أن نرى أبعاد هذه الظاهرة في البلاد العربية بالنظر إلى عدد من الإحصائيات؛ فمن خلال دراسة ميدانية مصرية أجراها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في فترة 2008 -2009، وصدرت عام 2012م بعنوان "تطوّر أنماط الإنفاق الأسري"، يتبيّن أن المصريّين ينفقون على الدخان والمكيفات بنسبة 2.7% سنوياً من إجمالي إنفاق الأسرة المصرية تقريباً، و2.7% على الاتصالات، و4.3%على المطاعم والفنادق (أي ما نسبته 9.7 %)، مقابل نسبة 2.9% للتعليم.
ومما أشار إليه تقرير صادر عن "الإدارة العامة للرقابة على الصادرات والواردات" في العام 2010 أن واردات مصر من السلع الاستهلاكية والترفيهية قد قاربت 5.4 مليار دولار، وهو ما يمثّل 8.16% من إجمالي الواردات، وأن الواردات الاستفزازية قد سجلت ارتفاعاّ بنسبة 5.2%.
ووفقاً لنتائج استطلاع لـ"ماستركارد" حول اتجاهات الإنفاق على المطاعم والترفيه في دولة الإمارات (2011م)، لا يزال الترفيه يحتلُّ صدارةَ التصنيفِ، بحيث يقوم واحدٌ من كلِّ اثنين من المستهلكين هناك بزيارةِ مراكزِ التسليةِ والمدنِ الترفيهية.
وكانت دراسةٌ لشركةِ الأبحاث "يورو مونيتور انترناشيونال" قد أشارَت إلى أن سوق مستحضرات التجميل قد زاد بنسبةٍ تصل إلى 300% خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وبلوغ إجمالي مبيعات أدوات التجميل في المنطقة العربية 2.1 مليار دولار، ما جعل هذه المبيعات الأعلى في معدّلات استهلاك مستحضرات التجميل على مستوى العالم، شكّلت النساء الخليجيات النسبة الأكبر منها[3].
 والسؤال المهم هو كيف ترسّخ هذا الاستغراق في الاستهلاك وصار من المسلّمات؟!
إن هذا السؤال وغيره من الأسئلة التي تحاول الإجابة عن الظواهر السلوكية والاجتماعية وأسبابها تبحثُ غالبًا في محورين أساسيينِ؛ الأول: الثقافة أو المرجعية السائدة. والثاني وسائل تنفيذ هذه المرجعية.
فالمرجعية التي انبعثت الثقافة الاستهلاكية منها هي العلمانية التي اخترعت العولمة، ذلك أن العلمانية وهي تجلٍّ للتطرف الغربي تجاه الدين والمرجعية القيمية عموما، قد جعلت الكسب والمادة هي الغاية في ذاتها، وجل المدارس الاقتصادية الأوربية التي ظهرت في ظل المرجعية العلمانية من المدرسة الطبيعية الفيزيوقراطية إلى الرأسمالية الكلاسيكية لم تخرج عن هذه المضامين[4].
 يقول "روبرت داونز" عن "آدم سميث" شيخ المذهب الرأسمالي الاقتصادي وكتابه الأشهر "ثروة الأمم" وأحد أبرز المؤسّسين للأفكار الاقتصادية المعاصرة: "النظرية الأساسية في كتاب "ثروة الأمم" نظرية ذات نزعة ميكافللية، وهي أن العامل الأول في نشاط الإنسان هو المصلحة الشخصية، وأن العمل على جمع الثروة ما هو إلا مظهرٌ من مظاهرها، وبذلك قرّر أن الأنانية والمصلحة الشخصية تكمن وراء كل نشاط للجنس البشري، وصارح الناس باعتقاده أنها ليست صفات ممقوتة يجب الابتعاد عنها، وإنما هي على العكس عوامل تحمل الخير إلى المجتمع برمته، وفي رأيه أنه إذا أُريد توفير الرفاهية للأمة فلابدّ من ترك كل فرد يستغل أقصى إمكانياته لتحسين مركزه بشكل ثابت منظّم دون تقييد بأي قيد"[5].
في ظل هذه الأفكار الأنانية التي تجعل الغاية مبررة للوسيلة، وتجعل المادة لب الكون، ظهرت المؤسسات والشركات التي تتنافس على حساب الأمم وثقافتها وصحة أبنائها وثرواتها بلا رقيب[6]، بل تحالفت معها أنظمة قوية، فظهر ما يسمى بمنظومة "الدولة/الشركة" أو "الكُربورقراطية" كما يُسميها "جون بركنز" في "اعترافات قرصان اقتصاد"، إذ يقول: "تسعى الإدارة الأمريكية إلى تقسيم العالم إلى مناطق اقتصادية نوعية تخدم كل منها على حدة أغراض الشركات الأمريكية (فنزويلا والمكسيك والخليج للنفط، أمريكا الوسطى والكاريبي للعمالة الرخيصة وتجميع المنتجات، والصين للاستهلاك ..)، وكما سعت من خلال مجموعة الدول الصناعية الكبرى، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية إلى إنشاء منظومة لحكم العالم بشكل غير مباشر أُعطيت فيها للنخب السياسية ورجال الأعمال وقادة الرأي في العالم النامي حق المشاركة فيها والاستفادة منها بشرط الدفاع عن الليبرالية بالمفهوم الأمريكي، وطُلب من أكثر من مائة دولة من العالم الثالث فتح أسواقها أمام الشركات متعددة الجنسيات والابتعاد عن السياسات المساندة للقطاع الاقتصادي الوطني تحت شعار "حرية التجارة" والذي كانت له آثارٌ مدمرة على اقتصاديات الدول"[7].
تسلُّعُ الإنسان!
إذن للثقافة الاستهلاكية مرجعية ووكلاء، مرجعيةٌ تؤسِّسُ للتنافس بلا رقيب ولا تهدف إلا للربح على حساب الإنسان والبيئة، ووكلاء من شركات عالمية متحالفة مع أنظمة كبرى لها ترسانة عسكرية وإعلامية تنتشر في العالم تدافعُ عن هذه المصالح وما ينبثق عنها من ثقافات -كالثقافة الاستهلاكية - ليل نهار، وبلا كلل[8]!
في ظل هذه الآلة الجبارة من الإعلام والعسكرة والاقتصاد، شُكِّل الإنسانُ ذو البعد الواحد كما يقول دكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله؛ هذا الإنسانُ "نتاج المجتمع الحديث، مجتمع ذي بُعدٍ واحد يُسيطرُ عليه العقل الأداتي والعقلانية التكنولوجية، شعاره بسيط جدا هو التقدم العلمي والصناعي والمادي، وتعظيم الانتاجية المادية، وتحقيق معدلات متزايدة من الوفرة والرفاهية والاستهلاك، وتُهيمنُ على هذا المجتمع الفلسفة الوضعية التي تُطبِّقُ معايير العلوم الطبيعية على الإنسان، وتُدرك الواقع من خلال نماذج كميِّة ورياضية، وتظهر فيه مؤسسات إدارية ضخمة تغزو الفرد وتحتويه، وتُرشِّدُه وتُنمِّطه وتُشيئه وتوظِّفه لتحقيق الأهداف التي حدّدتها، ويذهب ماركوز إلى أن المجتمعات الاستهلاكية تتسم بهيمنة المؤسسات الرأسمالية على السلطة وسيطرتها على عملية الإنتاج والتوزيع بل صياغة رغبات الناس وتطلعاتهم وأحلامهم، فهي تنجح في خلق طبيعة ثانية مشوَّهة لدى الإنسان؛ إذ يتركز اهتمامه على وظيفته التي يضطلع بها، وتتركز أحلامه على السلع، ويرى ذاته باعتباره منتجاً ومستهلكا وحسب، دون أدنى إحساس بأية غائية كبرى أو هدف أعظم، ويرى أن تحقُّق ذاته إنما يكمن في حصوله على السلع"[9]!
بكلمات المسيري رحمه الله تتلخص مشكلة ثقافة الاستهلاك في الإنسان المتسلّع ذي البعد الواحد الذي لا يرى السعادة إلا في الاستهلاك ومزيد من الاستهلاك، وحلّ هذه المشكلة يتلخص في تغيير البنية الثقافية والإعلامية من جذورها في بلادنا، وفي إعادة السؤالِ عن مرجعيتنا الدينية والقيمية، هل هي متحققة أم تم إقصاؤها؟!

نُشر في مجلة الوعي الإسلامي عدد رجب 1435هـ/مايو 2014م


[1] مقدمة ابن خلدون ص366. الطبعة الثانية، دار الفكر – بيروت، 1988م.
[2] طارق حسن السقا: مقال بعنوان "العقلية الاستهلاكية ومستقبل الأمة". موقع صيد الفوائد على الشبكة العنكبوتية.
[3] الإحصائيات نقلا عن نشرة مركز البحوث والدراسات التابع لمؤسّسة الفكر العربي, العدد: 139, التاريخ: 9/1/2012.
[4] راجع: جون كينيث جالبيرت: تاريخ الفكر الاقتصادي، ترجمة أحمد فؤاد بلبع ص71، وص87. سلسلة عالم المعرفة، العدد261 – الكويت، 2000م.
[5] روبرت داونز: كتب غيرت وجه العالم ص73، نقلا عن العلمانية لسفر الحوالي ص275. طبعة دار الهجرة.
[6] نورينا هيرتس: السيطرة الصامتة، الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية، ترجمة صدقي حطّاب ص66 – 70. منشورات سلسلة عالم المعرفة، العدد 336 – الكويت، 2007م.
[7] جون بركنز: الاغتيال الاقتصادي للأمم، اعترافات قرصان اقتصاد، ترجمة شريف دلاور ص15. الهيئة العامة المصرية للكتاب – القاهرة، 2012م.
[8] شريف دلاور: السطو على العالم، التنمية والديمقراطية في قبضة اليمين المتطرف ص97، 98. الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة، 2012م.
[9] عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة 1/144، 145. دار الشروق، الطبعة الأولى – القاهرة، 2002م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق