الخميس، 13 مارس 2014

غلو العلمانية



كلما ذُكر الغلو والتعصب، كلما جاءت إلى الأذهان صورة الإسلامي طويل اللحية، متجهم الوجه، ضيق الأفق، الناقم على مجتمعه وناسه، والحق أن هذه الصورة الذهنية الشائهة لعبت وسائل الإعلام والنشر العلمانية أكبر الأدوار في ترسيخها في الثلاثين عاًما الأخيرة، فلم تخلُ بلد من البلدان الإسلامية والعربية من سطوة هذه الصورة الشائهة، وهي إن كان لها صدىً على الأرض وفي الواقع، إلا أنه لا يمكن أن يُركز عليه بهذه الصورة التي لم تقل غلوًا وتعصبًا هي الأخرى، فيؤخذ الصالح بالطالح حتى كاد أن يصبح الإسلامُ ذاته مرادفًا للإرهاب والعنف والغلو والتعصب في بلده وبين أهله وناسه!
علم الاجتماع والغلو
يهتم علم الاجتماع النفسي بدراسة الاتجاهات والعلاقات داخل المجتمع، ويندرج موضوع "الاتجاهات التعصبية" في لب حقله المعرفي والدراسي؛ فالاتجاهات التعصبية السلبية على وجه التحديد كأحد شكلي الاتجاهات بين الجماعات (التعصب الإيجابي والتعصب السلبي) لها قدر كبير من الأهمية لما يترتب عليها من آثار سلبية على جوانب عديدة تشمل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في سائر المجتمعات الإنسانية، وتنعكس هذه الآثار السلبية على المجتمعات في عمومها، مثلما تعود على الأفراد تمامًا، وهناك العديد من المجتمعات التي عانت وما زالت تعاني، فالتعصب إذا وصل إلى درجة معينة من الحدة يُصبح عاملاً من عوامل تقويض وحدة المجتمع، وينُم عن اضطراب في ميزان الصحة النفسية الاجتماعية مما يُفسد المجتمع ويُهدد كيانه[1].
وأحد الأسباب الجوهرية التي تقود الفرد داخل المجتمع إلى التعصب الإيجابي أو السلبي إنما يعود إلى الأفكار والقيم التي يعتنقها الفرد، أو التي تسود في المجتمع فينشأ عليها، فقد أوضحت "بعض الدراسات أن التعصب العنصري لدى الأطفال لم يكن دالاً على خبراتهم في موضوعات التعصب، بقدر ما كان دلاً على ما يسود ثقافتهم من قيم معينة. بمعنى آخر؛ فإن اتجاه الطفل الأبيض نحو الطفل الأسود لم يكن انعكاسًا لتعامله مع الأسود بقدر ما كان انعكاسًا لتعامل الطفل الأبيض مع الاتجاهات السائدة عن هذا الطفل الأسود"[2].
أسباب الغلو العلماني
إن العلمانية ما نشأت أصلا إلا من الصراع المسيحي في القرون الأوربية الوسطي، والقيم والفلسفة التي كانت قد انتشرت وترسّخت حول الدين المسيحي وسطوة رجال الكنيسة وتحكمهم في الحياة والأفكار والناس.
يقول الدكتور محمد عمارة: "لقد ظلت المسيحية منذ نشأتها وعبر قرون طويلة من حياتها في المجتمعات الأوربية دينًا لا دولة، وشريعة محبة لا تقدم للمجتمع مرجعية قانونية ولا نظامًا للحكم، ورسالة مكرسة لخلاص الروح، وتدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وعبر القرون حكمت العلاقة بين الكنيسة والدولة نظرية "السيفين" أي السيف الروحي أو السلطة الدينية للكنيسة، والسيف الزمني أو السلطة المدنية للدولة؛ فلما حدث وتجاوزت الكنيسة حدود رسالة الروح ومملكة السماء، فاغتصبت السلطة الزمنية أيضًا، وأضفت على الدنيا قداسة الدين، فدخلت بالمجتمعات الأوربية مرحلة الجمود والانحطاط وعصورها المظلمة، وفي مواجهة هذا الانحطاط الحضاري، كانت "الثورة العلمانية" التي فجرتها فلسفة التنوير الأوربي، والتي أقامت قطيعة معرفية مع فلسفة الحكم الكهنوتي، وأسست النزعة العلمانية الحديثة على التراث الأوربي القديم، التي أحلَّت العقل والتجربة محل الدين"[3].
ونظرًا لهذه الملابسات التاريخية التي نشأت في ظلها العلمانية، فقد كان من أخطر مبادئها وأهدافها نزع القيمة المرجعية عن تنظيم الحياة البشرية والروحية، وقد تراوحت العلمانية بين عداء الدين بالكلية أو حجره في زاوية ضيقة من زوايا الإنسان، وهي بهذا المنظور لا شك أنها تعادي الإسلام والإسلاميين بكل قوتها، ولم تلق بالاً للفارق الجوهري بين الإسلام والمسيحية.
وقد استمر الصدام المباشر بين العلمانية والإسلام عبر أجيال مختلفة من المؤلفين والمفكرين ممن نالوا أعلى الشهادات الجامعية من الجامعات الأوربية، ولم يفتأ هذا الصراع أن يهدأ منذ مائة عام على الأقل حتى اليوم.
لكن من اللافت أن الخطاب العلماني "المدني" المقدم للجماهير في الأعوام الأخيرة قد شهد تغيرًا ملحوظًا في الشكل دونما تغير في المضمون والغلو، فقد "اكتنفته أربعة ظروف رئيسية شكلت أضلاع الوعاء الجوهري لتناميه، ألا وهي: مناخ سبتمبر، والضخ الفرنكفوني، وحفاوة وسائل الإعلام، ورد الفعل تجاه البغي الإلكتروني، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعرّض الاتجاه الإسلامي إلى حالة محاكمة عالمية شرسة حدث من انسيابه ودويه وتراجعت معها شعبيته بشكل ملموس، وفي ظل هذا الفراغ الجزئي الذي خلفه انكماش الحالة الإسلامية برزت أبحاث المدرسة الفرانكفونية/المغاربية كإجابة جديدة نجحت في استغلال الظرف الأمني وحققت اكتساحًا استثنائيا في فترة قصيرة"[4]. فقد ابتعدت هذه المدرسة العلمانية بخطابها التقليدي عن الصدام المباشر للشريعة إلى إعادة تفسير التراث الإسلامي بأدواتها هي ووفق هواها ومنطلقاتها، فلبّست على كثير من المثقفين مضامينها وأفكارها.
نموذج من الغلو العلماني
يُعد المستشار محمد سعيد العشماوي من أبرز منظري العلمانية في النصف قرن الأخير في مصر والعالم العربي، وقد شهدت كتاباته هجومًا شرسًا وحادّاً وعنيفًا على الإسلام وتراثه وفكره وصحوته، فقد وقف في أواخر السبعينيات أمام مشروع تقنين "الشريعة" الإسلامية والعمل به، واعتبر القانون المصري الوضعي القائم في كثير من أسسه ومبادئه على القوانين والمبادئ الفرنسية أنه لا يختلف كثيرًا عن الشريعة الإسلامية.
بل يرى العشماوي أن عصر الرسالة والخلافة الراشدة قد دخلت فيه يد الاختلاف والتغاير والتباين والتناقض، وهو قول يصيب ذات الإسلام في عقيدته وشريعته، ويرجع سبب هذا التبدل والتغير إلى "اتجاه عسكري" للعهد النبوي، فيقول: "ويرى بعض المؤرخين أن الإسلام تشكَّل في صيغة حربية عندما بدأت أول سرية للمسلمين على قوافل تجارة قريش فيما بين الشام ومكة، ويرى آخرون أن الاتجاه العسكري في الإسلام بدأ منذ غزوة خيبر". وهو لا يقنع بطعن الإسلام – بادعاء تحوله إلى دين عسكري وصيغة حربية – بفعل الرسول وصحابته، وإنما يُدافع عن يهود خيبر، ويعيب على الرسول r والمسلمين قتالهم، فيقول: "ذلك أن أهل خيبر لم يكونوا من المشركين أهل مكة الذين عادوا النبي والمؤمنين وأخرجوهم من ديارهم، كما أن أهل خيبر لم يكونوا قد أساءوا إلى النبي أو إلى الإسلام بشيء". وحتى يُوهم القارئ أن هذا الاتهام ليس من عنده وأنه رأي "لبعض المؤرخين" وأنه على العكس منهم، لا يتفق معهم فيه، أضاف إضافات توجه المطاعن إلى الوحي الإلهي ذاته، وليس فقط إلى الرسول r والمؤمنين[5]. وقد أحسن الدكتور محمد عمارة إذ فكك فكر العشماوي المتهافت في كتابه المهم "سقوط الغلو العلماني" ووقف معه بتؤدة وهدوء.
ستظل العلمانية على غلوها وتعصّبها، شأنها شأن كل الفرق الفكرية التي ناهضت الإسلام وتراثه في القديم والحديث، لكن إذا كان الإسلام قد ثبت أمام الأفكار المناهضة له قديما وعبر تاريخه الطويل، فهو سيثبت بلا ريب أمام فكر العلمانية المتهافت في واقعنا المعاصر، ليس لقوة بنيان الإسلام ونُظمه وفكره فقط، بل لأن في العلمانية آفة فنائها!
*نشر في مجلة الوعي الإسلامي: عدد شهر جمادى الأولى 1435هـ / مارس 2014



[1] معتز سيد عبد الله: الاتجاهات التعصبية ص13. منشورات سلسلة عالم المعرفة – الكويت، مايو 1989م، إصدار رقم 137.
[2] محيي الدين حسين: القيم الخاصة لدى المبدعين ص54، 55 نقلاً عن الاتجاهات التعصبية. دار المعارف – القاهرة، 1981م.
[3] د محمد عمارة: العلمانية بين الغرب والإسلام ص6، 7. دار الوفاء للطباعة والنشر، الطبعة الأولى – المنصورة، 1996م.
[4] إبراهيم السكران: مآلات الخطاب المدني ص12، 13.
[5] د محمد عمارة: سقوط الغلو العلماني ص17، 18. دار الشروق، الطبعة الثانية – القاهرة، 2002م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق