الأحد، 4 مايو 2014

بيتُ المقدس من الاسترداد إلى التسليم (2)



تناولنا في مقالنا السابق كيف آل التنازع الأيوبي الأيوبي إلى التردّد في اللحظاتِ المفصلية، والضعف السياسي العام، فضلا عن الانتكاس العسكري في بعض الأحيان، وكثيرة ما كانت هذه اللحظات الحرجة في تاريخِ الأيوبيين!
 على أنّ انتقال الحملة الصليبية من الشامِ إلى مصر، كان يعني ببساطة ضرب واستنزاف القوة الأيوبية الحقيقية التي كانت سندًا وعوناً وسببًا مباشرًا من قبل لاسترداد بيت المقدس، وهذا ما ينقله المؤرخ المعاصر والقريب لتلك الأحدث جمال الدين بن واصل (ت697هـ) بقوله: "لما طالت مدة اجتماع الفرنج بمرج عكّا اجتمعوا للمشورة في ماذا يبدءون بقصده، فأشار عقلاؤهم بقصد الديار المصرية أولاً، وقالوا: إنّ الملك الناصر صلاح الدين إنما استولى على الممالك، وأخرج القدس والساحل من أيدي الفرنج بملكه ديار مصر، وتقويته برجالها، فالمصلحة أن نقصد أولاً مصر ونملكها، وحينئذٍ فلا يبقى لنا مانع عن أخذ القدس وغيره من البلاد"[1].
تلك هي مصر التي كانت هدفًا مبكرًا لاستردادها من قِبل السلاجقة والزنكيين من بعدهم، الذين رأوا في الوحدة معها قوة تطحن الصليبيين، وكم كانوا على وعي وإدراك لهذه الحقيقة؛ فمن القاهرة انطلقت آخر عمليات الاستراد الإسلامي بالقضاء على آخر جيب للصليبيين في الشام بقيادة السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون سنة 690هـ.
الحملة الصليبية الخامسة والعرض الأول للتسليم
لكننا ونحن في بدايات العام 615هـ، ودمياط الثغر المصري المهم على ساحل البحر المتوسط يتعرّض إلى هجوم عنيف وقوي من القوات الصليبية فيما عُرف بالحملة الصليبية الخامسة، والسلطان العادل الأيوبي يُنازع الموت في أيامه الأخيرة، فإن المشهد يتقدمه نائبه في مصر وولده الملك[2] الكامل محمد بن العادل الأيوبي.
وقد كان العادل وهو في الشام وقد علم أن الحملة الصليبية قد قصدت مصر في شدة من القلق والاضطراب، حتّى إنه "تقدّم إلى من عنده من العساكر بالتوجّه إلى مصر، فتوجّهوا إليها أولاً فأولاً، حتّى لم يبق عنده من العسكر إلا القليل، واجتمعت العساكر عند الملك الكامل، وأخذوا في مقاتلة الفرنج ومدافعتهم عن دمياط، وعظُم عند الملك العادل قصد الفرنج لمصر، وخاف عليها خوفا شديدًا"[3].
وصل الصليبيون إلى الجهة الغربية من دمياط في شهر صفر سنة 615هـ، وبعد محاولات مضنية لم يتمكنوا من العبور، وبرغم تعدد محاولاتهم لقطع سلسلة دمياط التي كانت تحجز المراكب والسفن العسكرية عن جواز النيل وعبوره إلى داخل البلاد من البحر المتوسط عند الأزمات، وفشلهم إلا أنهم نجحوا في قطعها، لكن على الفور استعاض عنها الكامل بجسر من المراكب والسفن الكبيرة سرعان ما أمر بإغراقها حتى لا تتمكن سفن الصليبيين من العبور إلى دمياط، لكن وفاة العادل في شهر جمادى الآخرة سبّب انتكاسة معنوية في الصفوف، ذلك أن كبار الأمراء في الجيش الأيوبي في مصر كانوا يميلون إلى الملك الفائز إبراهيم بن العادل، وهذا ما استشعره الكامل الذي فرّ بدوره إلى الجنوب حيث منطقة أشموم طناح، مما تسبّب في انهيار معنويات الجيش وانسحابه لتخلو دمياط إلى الصليبيين ويدخلوها في شهر ذي القعدة من نفس العام.
على أن إمدادات المعظّم عيسى والأشرف موسى لأخيهم الكامل، وإعادة تموضع الكامل وجنوده بالقرب من المنصورة على النيل قد رفع من معنويات الجيش، فضلاً عن نفي الفائز إلى سنجار والأمير المشطوب أحمد بن علي الذي تزعّم الفتنة، مما ساعد على إلحاق الهزيمة بالصليبيين وتوقيعهم اتفاقية مصالحة تم بموجبها انسحابهم من مصر سنة 618هـ[4].
لكن الكامل في خضم هذه الأحداث، وقبيل معركة المنصورة كان قد أرسل إلى الصليبين عرضًا سخيًا للغاية وهو "تسليم بيت المقدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية في مقابل تسليمهم دمياط والخروج من مصر، ولكنّ الصليبيين لم يرضوا بهذا بل طلبوا زيادة على ذلك بتسليم حصن الكَرك وثلاثمائة ألف دينار تعويضا عن تخريب بيت المقدس"[5]، وهو العرض الذي رفضه الفرنج بشكل قاطع، وكان لحسن الحظّ سببًا في إعادة بثّ روح المقاومة والقتال والمواجهة!
شخصية الكامل
لقد كان عرض الكامل محمد السخي بتسليم بيت المقدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية للصليبيين غريبًا للغاية، صحيح أنه خشي أن ينتصر الصليبيون عليه في موقعة المنصورة فيدخلوا القاهرة وتسقط مصر كلية في أيديهم، لكن تسليم بيت المقدس بالتحديد كان أمرًا لافتًا للغاية في تلك المباحثات؛ غريبا للدماء والأموال والسنين التي صرفها المسلمون من قبله لاستنقاذها من العدو!
إذن يجب أولاً أن نتعرّف على طبيعة شخصية الكامل، لقد كان الكامل محبًا للسلام والاستقرار والهدوء، يقدّم التفاوض والتغاضي وأمنه الشخصي والموازنات السياسية على سفك الدم والتصادم، قريباً من العلماء والفقهاء، ذكيًا ماكرًا محبًا للسيطرة في ذات الوقت. قال ابن واصل: "كان الملك الكامل ملكًا جليلاً، حازمًا مهيبًا، سديد الآراء، حسن التدبير لممالكه، عفيفًا عن سفك الدماء، حليمًا، وبلغني عن حلمه أنّ رجلاً من شعراء مصر كان بمنزلة من الأدب تعرّض لهجوه مرارًا، وهو يُغضي عنه ولا يُعاقبه، فبلغ من لآمة ذلك الشاعر حين رأى السلطان لا يُقابله على فعله أن قال:
وما تركُهم للقتلِ حلمًا وإنّما *** يروْنَ بقاء المرءِ في عصرِهم أشقى
فبلغَ الكامل ذلك، فلم يلتفت إلى قوله"[6].
وبهذه الحالة المركبة التي عليها شخصية الكامل كان والده قد قرّبه منه؛ ليس لأنه الابن الثاني من حيث الترتيب، والأول والأقرب بعد وفاة أخيه ممدود الابن البكر للعادل في حياته فقط، ولكن كما يذكر سبط ابن الجوزي (ت654هـ): "لِما رأى في ثباته وعقله وسداده في إصداره وإيراده"[7]. ولذلك ما لبث الكامل أن دانت له البلاد حتى إنّ ابن خلّكان (ت681هـ) يقول: "اتسعت المملكة للملك الكامل. ولقد حكي لي من حضر الخطبة يوم الجمعة[8] بمكة - شرفها الله تعالى-  أنه لما وصل الخطيب إلى الدعاء للملك الكامل قال: صاحب مكة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، ورب العلامتين، خادم الحرمين الشريفين، أبو المعالي محمد الملك الكامل ناصر الدين خليل أمير المؤمنين"[9]. وهو بهذه الهمّة العالية، والحلم الزائد، والتودد إلى الفقهاء، وسعة الملك؛ "كثير السياسة"[10] كما يذكر العلامة المقريزي في خلاصاته التي عهدناه عليه.
لقد غلبت اللعبة السياسة على تفكير الكامل ولبّه، هذه اللعبة التي رغم ذكاء صاحبها، وقوته لم يستفد بها من الوقوع في المحذور، محذور الخلاف الأيوبي الأيوبي، حيث التنازع الذي يُزعزع من أركان الدولة وهيبتها، أراد السيطرة التامة على البيت الأيوبي، لكن هذه الإرادة أتت ببعض النتائج الوخيمة.
لقد "أضحى للملك الكامل من النفوذ والسلطان ما جعله يفرض على أمراء الشام بأن يلتزموا الهدوء والسكينة، ولم يخرج عن طاعته إلا الملك المعظّم صاحب دمشق، الذي سعا سنة 1225م/622هـ بعد أن نجح الملك الكامل في عزله عن سائر الأمراء الأيوبيين إلى اتخاذ حليف من خارج البيت الأيوبي، فاتصل بخوارزم شاه الذي أصبحت أملاكه تجاور أملاك الأيوبيين، بل إنه عمد إلى الإغارة على بلاد الجزيرة ونهبها، والواقع أن أحد أمراء البيت الأيوبي هو الذي استقدم الخوارزمية لمساعدته"[11].
ومنذ ذلك التاريخ في سنة 622هـ وحتى وصول الحملة الصليبية السادسة بقيادة الإمبراطور الألماني فردريك سنة 626هـ كان الصراع الأيوبي يدور في إطار من الضغط الخوارزمي على الشام وفلسطين، وتغير الأحلاف بين بني أيوب بين الحين والحين؛ فقد كانت "خطورة هذا الصراع تكمن في التجاء كل من الطرفين المتنازعين إلى الاستعانة بالقوى الخارجية، فلجأ المعظّم عيسى إلى جلال الدين منكبرتي واتفق معه ضد شقيقيه الأشرف والكامل. أما الملك الكامل فقد راسل الإمبراطور الألماني فردريك الثاني هوهنشتاوفن، وأرسل له مبعوثاً من طرفه هو الأمير فخر الدين عثمان"[12].
وكانت نتيجة هذا الصراع أن دخل المعظّم عيسى بن العادل في حلف مع سلطان الدولة الخوارزمية المرهقة جلال الدين منكبرتي حتّى إنه قطع الخطبة لأخيه الكامل، ولبس خلعة منكبرتي ما يعني إعلان تبعيته وولائه للخورازميين، وعلى الجانب الآخر تحالف الأشرف والكامل مع الغازي فردريك بدلاً من محاربته وصدّه!!
وبالرغم من أن حملة فردريك كانت لا قيمة لها من ناحية العدد والعتاد، بل كان فردريك نفسه محرومًا من البابا غريغوري السابع في روما لأمور سنقف معها في مقالنا القادم، وهو الأمر الذي جعل الأمراء الصليبيين يعزفون عن مساعدته عند وصوله إلى بلاد الشام وفلسطين، بالرغم من ذلك بدت اللحظة مناسبة وذهبية لهذا الإمبراطور؛ وذلك نتيجة الشقاق الداخلي الأيوبي، والضغوط الخوارزمية الخارجية، وربما الخطر المغولي الذي كان سببًا آخر لرضوخ الكامل لأي اتفاق مع الصليبيين؛ ومع ذلك كان تسليم بيت المقدس في اتفاق هدنة لمدة 10 سنوات كاملة عملاً شنيعًا كما يصف بعض المؤرخين المعاصرين لهذه الحادثة، نسفت عند بعض معاصريه تاريخه السياسي والأمني والإداري أيضاً، وهذا ما سنقف معه في مقالنا الأخير القادم في هذه السلسلة إن شاء الله.

* بيت المقدس من الاسترداد إلى التسليم (1)
* نُشر في الحملة العالمية


[1] ابن واصل: مفرّج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق جمال الدين الشيال 3/258. بدون تاريخ.
[2] كانت لفظة الملك تُطلق غالبًا لأولاد السلطان مع أبيهم، والأمير تُطلق على كبار الأمراء في الجيش والإمارات الأيوبية. انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق عمر عبد السلام تدمري 10/306. دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى – بيروت، 1997م.
[3] ابن واصل: مفرّج الكروب 3/261.
[4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/305- 311.
[5] محمد العروسي المطوي: الحروب الصليبية في المشرق والمغرب ص107. طبعة دار الغرب الإسلامي، بدون تاريخ.
[6] ابن واصل: مفرّج الكروب 5/156، 157.
[7] سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان في تاريخ الأعيان 8/393. مخطوطة شيكاغو، بتقديم المستشرق جيمس ريتشارد جيويت.
[8] لم يذكر السنة، والراجح طبقا لما سبقه من سياق الكلام أنها زيارة الكامل لمكة سنة 620هـ.
[9] ابن خلّكان: وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس 5/82، 83. دار صادر – بيروت، بدون تاريخ.
[10] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق محمد عبد القادر عطا 1/381. دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى – بيروت، 1997م.
[11] السيد الباز العريني: الشرق الأدنى في العصور الوسطى، الأيوبيون ص124. دار النهضة العربية، بدون تاريخ.
[12] إسمت غُنيم: الدولة الأيوبية والصليبيون ص88. دار المعرفة الجامعية – الإسكندرية، 1990م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق