السبت، 14 يونيو 2014

بيت المقدس من الاسترداد إلى التسليم (3)



وقفنا في مقالنا السابق مع استمرار البيت الأيوبي في نزاعه الداخلي، لا سيما بين المعظّم عيسى أخي الكامل محمد الذي ابتدأ منذ العام 622هـ، وتحالفه الجديد مع جلال الدين بن خوارزم شاه سلطان الخوارزميين في بلاد فارس والكرج وأرمينية (ت628هـ) الذي سبّب إزعاجًا شديدًا بإغاراته للإمارات الأيوبية في بلاد الجزيرة وشمال الشام من قبل، لذا فإن هذا التحالف الجديد أدخل القلق الشديد على السلطان الأيوبي الكامل؛ ذلك أن أخاه عيسى أذعن لشروط الخوارزمي الذي أرسل له بدوره "خلعة لبسها وسار بها في شوارع دمشق وقطع الخطبة لأخيه الكامل، ولم يسكت الكامل عن هذا فأخذ يستعد للخروج إلى الشام لتأديب شقيقه المعظّم عيسى"[1].
مقدمات التسليم
كانت هذه الأجواء سببًا في زيادة التشاحن واتساع رقعة العداء بتوسع كل منهما في استجلاب أحلاف جديدة، ففي الوقت الذي تحالف فيه المعظّم عيسى صاحب دمشق وطبرية وبيت المقدس مع جلال الدين منكبرتي سلطان الخورازميين ومظفر الدين كوكبري أمير إربل وأعمالها، اتحد الأخوان الآخران الأشرف موسى صاحب بلاد الجزيرة وميّافارقين وخلاط[2]، والكامل محمد صاحب مصر ضد هذا الحلف الخطر، بل رأى الكامل أن يستدعي الإمبراطور الألماني فردريك لتعضيده لمواجهة هذا الخطر على أن يُسلّم له بيت المقدس، فقد "كتب الملك الكامل إلى الأنبرور ملك الألمان بأن يحضر إلى الشام والساحل ويُعطيه البيت المقدّس وجميع فتوح صلاح الدين بالساحل"[3].
وفي العام التالي 623هـ كانت النتيجة العملية لهذا الحلف بالاعتداء على أراضي الأشرف موسى فقد "سار مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل، إلى أعمال الموصل قاصدا إليها؛ وكان السبب في ذلك أنه استقرت القاعدة بينه وبين جلال الدين بن خوارزم شاه، وبين الملك المعظم صاحب دمشق، وبين صاحب آمد، وبين ناصر الدين صاحب ماردين، ليقصدوا البلاد التي بيد الأشرف ويتغلبوا عليها، ويكون لكل منهم نصيب ذكره، واستقرت القواعد بينهم على ذلك"[4].
لكن هذا التحرّك لم يُكتب له النجاح لانشغال الخوارزمي بتفكك جبهته الداخلية، وتوازن القوى إلى حد ما؛ على أن هذا التحرّك سرعان ما أثمر بمحاصرة حلف الخوارزمي والمعظّم عيسى مدينة خلاط التابعة لأخيه الأشرف موسى في المرة الأولى سنة 623هـ وقد رحل عنها لصلح مؤقت بين الأشرف والمعظّم، ثم تفاقم الخلاف من جديد حتى سقطت في العام 626هـ، وهذا ما سجّله النسوي باستفاضة في السيرة التي كتبها للسلطان منكبرتي[5].
ويُسجّل عبد الرحمن بن أبي شامة (ت665هـ) في "الذيل على الروضتين" أن الحلف الذي عقده الكامل والإمبراطور الألماني أثمر بدوره إرسال فردريك سفيرًا من ناحيته للمعظّم عيسى "يطلب منه البلاد التي كان فتحها عمّه صلاح الدين رحمه الله، فأغلظ له القول وقال: قل لصاحبك ما أنا مثل العزيز ما له عندي إلا السيف"[6].
وفي العام 624هـ توفي المعظّم عيسى وخلفه على دمشق ابنه الناصر داود، لكن مع ذلك استمرّ الخلاف الأيوبي الأيوبي لانخراط الناصر داود بدوره في هذا الصراع؛ إذ وقف بجوار الأمجد صاحب بعلبك ضد أطماع العزيز عثمان بن أبي بكر بن أيوب صاحب بانياس، وأدى هذا الأمر لاستنجاد العزيز بأخيه الكامل في مصر، وهوّن عليه أمر دمشق والاستيلاء عليها وطرد الناصر داود منها، خاصة أنه كان مع ذلك قد عسف بالدماشقة وتفرّغ للهو وسوء السيرة[7].
وبالفعل اقتنع الكامل برأي أخيه العزيز وتوجّه إلى دمشق لأخذها وكان الناصر قد استنجد بعمّه الأشرف موسى لحمايته، غير أن الكامل وهو في فلسطين وبلاد الساحل يُرتّب أوضاعها علم بمجيء طلائع الصليبيين إلى يافا على ساحل البحر المتوسّط، فعرّج من طريقه إلى دمشق من نابلس إلى يافا لملاقاة الإمبراطور[8].
على طاولة البابا!
أما قصّة مجيء الإمبراطور الألماني فردريك إلى ساحل الشام وفلسطين، فتلك قصة لها وجهان:
 الأول: الملابسات التي سقناها آنفًا باتصال الملك الكامل به، وإطماعه في المجيء إلى الشام للانضمام في حلفه في العام 623هـ ضد أخيه المعظّم عيسى نظير تسلمه بيت المقدس وبعض البلاد الساحلية التي استردّها عمه السلطان صلاح الدين الأيوبي من قبل، فلم يصل الإمبراطور إلا في هذا العام 625هـ بعد وفاة المعظّم عيسى، وهذا السبب بالتحديد – أي وفاة المعظّم عيسى – هو الذي يراه ابن الأثير (ت630هـ) باعثًا لمجيء هذه الحملة بسبب قوة موقف الصليبيين في المشرق وتشجيعهم لأقرانهم في الغرب للمجيء وذلك؛ "لأن المعظم كان حيا، وكان شهمًا شجاعًا مقدامًا، فلما توفي المعظّم، وولي بعده ابنه وملك دمشق، طمع الفرنج، وظهروا من عكا وصور وبيروت إلى مدينة صيدا، وكانت مناصفة بينهم وبين المسلمين، وسورها خراب، فعمّروها، واستولوا عليها. وإنما تم لهم ذلك بسبب تخريب الحصون القريبة منها، تبنين، وهونين، وغيرهما، فعظمت شوكة الفرنج، وقوي طمعهم"[9].
أما الوجه الآخر للقصة، والأسباب التي حملت فردريك على المجيء فيدور في كواليس إيطاليا وصقلية، وتعود إلى الآثار السلبية التي خلّفتها هزيمتهم في الحملة الصليبية الخامسة في دمياط سنة 614 -616هـ؛ فقد عاد أمراء تلك الحملة وألقوا عبء هزيمتهم على تخلّف فردريك الثاني عن مناصرتهم وبقائه في صقلية، لكن انعقد مجمع "فرينتينو" في مارس 1223م/ صفر 620هـ حضره البابا هورونيوس الثالث وبعض رؤساء الحملة السالفة، وحضر معهم فردريك الذي تعهّد بالزواج من ابنة حنا برين ملك بيت المقدس طبقا لتوصية المجمع، وترؤسه لحملة صليبية بعد عامين من انعقاد المجمع، وبعد انقضاء العامين رجا فردريك من البابا أن يؤخره لعامين آخرين، وبدلاً من ذلك أرسل وكيلاً له ليتمم زواجه من ابنة حنا برين ويجلبها إلى صقلية، وتم له ما أراد، وأعلن أنه صار ملكًا لبيت المقدس لأن ابنة حنّا برين هي الوريثة الشرعية لهذه المملكة، وهو بهذا الزواج قد صار ملكًا لبيت المقدس، وبغض النظر عن المشكلات التي ترتّبت على هذا اللقب وعدم اعتراف البابا به، فإن الحملة تأخرت لعامين آخرين حتى سبتمبر 1227م/ شوال 625هـ[10].
وفي تلك الأثناء وفردريك يقدم رجلاً ويؤخّر أخرى كانت رسالة الكامل الأيوبي قد وردت إليه للانضمام في التحالف الجديد مقابل تسليم القدس وبعض المدن الأخرى، الأمر الذي شجّعه على استغلال ذلك التشاحن الأيوبي الأيوبي ليأتي إلى الشام.
كان البابا هورونيوس الثالث قد توفي في مارس 1227م/ ربيع الثاني 625هـ وقد خلفه على كرسي الباباوية غريغوري التاسع وكان شيخًا طاعنًا في السن، لكن مع ذلك ذا بأس وقوة، لم تنطلِ عليه حجج فردريك الثاني، الأمر الذي دفع فردريك إلى الإبحار بحملته في أواخر 625هـ لكن مرض أحد أمراء الحملة ثم وفاته ثم انتقال المرض إليه أجبره على العودة إلى صقلية ليتمم علاجه، وقد ظن غريغوري أن فردريك يتلاعب به فأصدر على الفور حرمانًا بابويًا، وهو ما يعني سحب شرعية حكم فردريك الثاني وجعله منبوذا في الأوساط النصرانية الصليبية في أوربا وبلاد الشرق[11].
وبدلاً من مواجهة فردريك للبابا، أرسل خطابات لأمراء المشرق من الصليبيين يفنّد فيها مزاعمه بشأن تلكؤه وتأخره عن قياة الحملة الصليبية، وفي تلك الأثناء كانت ملكة بيت المقدس زوجته قد توفيت الأمر الذي سحب اللقب منه إلى ولده ووصيه كونراد، وبدلا من النكوص والقعود بسبب نبذه من البابا، قرّر في يونيه 1228م/رمضان 626هـ في خطوة جريئة وفي تحد واضح للبابا الذي حرمه من الكنيسة أن يعجّل بالرحيل للاستيلاء على بيت المقدس، خاصة أن الأمور كانت مهيئة بينه وبين الكامل الأيوبي من قبل[12].
هذا التعجّل والتحدي إنما كان القصد منه كسب تعاطف الجماهير الصليبية؛ إذ "لم يبق أمامه أي خيار، إن الأمر الوحيد الذي يصون ممتلكاته في الغرب هو أن يُحقّق نجاحًا في الشرق، فقد اعتبرت السيطرة على الشرق في جميع الأوقات المرحلة الأخيرة في تحقيق السيطرة على العالم، وهكذا طرح الإمبراطور بحملته الصليبية أمام الكنيسة برنامج سعيه من أجل الحصول على مركز عالمي"[13].
في تلك الأثناء كانت الأمور في مصر والشام قد تبدّلت سياسيًا وسلطويًا بوفاة المعظّم عيسى؛ فقد استولى الكامل على أملاكه في فلسطين، ولم يعد أمامه من خطر إلا خطر الناصر داود وهو شاب لاهث يمكن التغلّب عليه بسهولة، وبالرغم من أن طلائع الصليبيين كانت قد حطّت رحالها في ممالكهم على الساحل في كل من صور وعكا ويافا وغيرها، إلا أن تعريج فردريك على قبرص ليرتّب أوضاعها ويعيد إخضاعها، واستمرار الحرمان البابوي كانا عاملين مؤثرين في عدم التحرك الصليبي مؤقتًا، لكن عما قليل سيغادر فردريك قبرص، ويتجه إلى عكّا حيث تدور المباحثات بين الرجلين فردريك والكامل محمد، وهذا ما سنقف معه في مقالنا القادم والأخير إن شاء الله.

* بيت المقدس من الاسترداد إلى التسليم 1
* بيت المقدس من الاسترداد إلى التسليم 2

نُشر في الحملة العالمية



[1] إسمت غنيم: الدولة الأيوبية والصليبيون ص88.
[2] تقع هذه المناطق في جنوب شرق تركيا وشمال العراق وأذربيجان الآن.
[3] ابن العميد: أخبار الأيوبيين ص14.
[4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/410، 411.
[5] محمد بن أحمد النسوي: سيرة السلطان جلال الدين منكبرتي ص299 -328.
[6] أبو شامة: الذيل على الروضتين ص151.
[7] أبو شامة: الذيل على الروضتين ص153.
[8] ابن العميد: أخبار الأيوبيين ص15.
[9] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/430.
[10] سهيل زكار: الموسوعة الشاملة في الحروب الصليبية 34/31 – 38.
[11] هانز ماير: الحروب الصليبية، ترجمة عماد الدين غانم ص400 وما بعدها.
[12] ستيفن رانسيمان: تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة السيد الباز العريني ج3 ق1 ص317، 318.
[13] هانز مايز: الحروب الصليبية ص404.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق