الجمعة، 22 أغسطس 2014

من صور الصداقة في الأدب العربي



في تراثنا الأدبي ذخائر تؤرّخ للهامش، والهامش في عيون الساسة هم عامة الناس، تبتعدُ مصنفات الأدب عن جمود القصور وحياة الساسة، وإن كانت بين الخلفاء والسلاطين، فتقترب من الوجدان والمشاعر، وتستعرض تهامس الأحباب، وتسامر الخلان، وتسابق الأدباء.
وفي بحثنا في هذا الباب "الصداقة والصديق" قد هالنا ما وجدناه في عيون الأدب العربي من مادة تصلح لأن تكون مؤلفا كبيراً نظرا لضخامة ما رأيناه من مادّة، وكثرة ما استظرفناه واستطرفناه واستغربناه في هذا التجوال البديع، ولأهمية هذا التنوع فإننا نقف مع أربعة مصنفات نستعرض بعض ما فيها حول هذا الأمر في عجالة المضطرّ، واضطرار المتعجّل!
"أدب الكتاب" للصُّولي
كان محمد بن يحيى الصولي (ت335هـ) من أكابر أرباب الأدب في عصره، ولهذه المكانة التي تمتّع بها، فقد نادمَ ثلاثة من خلفاء بني العبّاس وهم الراضي والمكتفي والمقتدر، والنديم رجل من حاشية الخلفاء لا يُستغنى عنه في مجالسهم لإلمامه بالشعر والأدب وطريف الأخبار مما كان يحب الخلفاء أن يسمعوه في ذلك العصر.
وقد ألّفَ الصوليّ كتابه "أدب الكتاب" في عصر الخليفة الراضي بالله (ت329هـ)؛ فقسّمَه على ثلاثةِ أجزاء.
وفي الجزء المخصّص لمكاتبة الإخوان يستعرضُ الصولي نماذج مما كان في عصره في القرن الثالث والرابع الهجري بين الإخوان، وهو في هذا الباب يجمع كل ما قيل في هذه العلاقة بين الأصدقاء من قول مستطرف، وشعر مستظرف؛ مع التزامه بمنهج الرواية في عصره بسرد سلسلة السند كاملة في بعض الأحيان، فمثلا يقول: "حدثنا أبو العيناء قال: حدثنا الأصمعي قال: قال هشام: قد مرّت لذّات الدنيا كلها على يدي وفعلي، فما رأيتُ ألذّ من محادثةِ صديق ألقَى التحفظ بيني وبينه"[1]. وهكذا في بقية هذا الباب.
"الصداقة والصديق" لأبي حيان التوحيدي
في كتابه الطريف "الصداقة والصديق" يقف أبو حيان التوحيدي (ت400هـ) مع نماذج الأصدقاء في عصره، لقد كان صديقه زيد بن رفاعة كبير إخوان الصفا سبب تأليف هذا الكتاب، فهو الذي أخبر صديقًا ثالثًا لهما اسمه ابن سعدان بحكايات التوحيدي، وقد أصبح وزيرا بعد ذلك بقليل، فأشار بدوره لأبي حيان أن يلملم هذه الحكايات والأسمار التي كان يقصّها في كتاب، فامتثل لأمره، وجمع فيه ما استحسنه من الأخبار والأشعار التي تتصل بمواضيع الصداقة، قال: "ولو أردنا أن نجمع ما قاله كل ناظم في شعره، وكل ناثر من لفظه، لكان ذلك عسراً بل متعذراً، فإن أنفاس الناس في هذا الباب طويلة، لأنه لا يخلو أحد من جار أو معامل، أو حميم أو صاحب، أو رفيق أو سكن، أو حبيب أو صديق أو أليف أو قريب"[2].
 وافتتحه بتجربة شيخه أبي سليمان السجستاني في حياة الصداقة السامية التي عاشها مع صديقه القاضي ابن سيّار، فهو يسأله: "قلتُ لأبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني: إني أرى بينك وبين ابن سيار القاضي ممازجةً نفسية، وصداقةً عقلية، ومساعدةً طبيعية، ومواتاة خُلقية. فمِن أين هذا؟ وكيف هو؟ فقال: يا بني! اختلطتْ ثِقَتِي به بثقتِه بي، فاستفدنا طمأنينة وسكوناً لا يرثّان على الدهر، ولا يحولان بالقهرِ ..."[3].
واحتفظ في الكتاب بعشرات المراسلات بين معاصريه، وما عثر عليه من بديع مراسلات القدماء في الحنين إلى الأصدقاء؛ أعطت كتابه ميزات أخرى، وأهّلته ليكون في مقدمة الكتب المختارة في هذا الباب.
"التمثيل والمحاضرة" للثعالبي
اشتُهر الثعالبي (ت429هـ) بجاحظ نيسابور لنبوغه في الأدب العربي، فإذا كان الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر (ت255هـ) صاحب التصانيف الأدبية البديعة هو درة الأدب العربي في القرن الثالث الهجري؛ فإن الثعالبي عبد الملك بن محمد بن إسماعيل من أبرز من نبغوا وأبدعوا في هذه الصناعة حتى وصف بجاحظ نيسابور.
وكتابه "التمثيل والمحاضرة" من عيون كتب الأمثال في الأدب العربي، وقد تفنن الثعالبي في تبويبها ودراستها، وتناولها من أوجه مختلفة، امتازت بالتبويب البارع الذي أخضع له منهج الكتاب فأبعده عن النسق المعجمي لكتب الأمثال[4].
وفي الفصل الرابع من كتابه هذا وعنوانه "في سائر الفنون والأغراض" أفرد عنوانا مستقلا للأمثال التي تم تداولها من قبله وحتى عصره عن الصداقة والإخاء معنونَة ب "الإخوة والأصدقاء والمودة وما يتصل بها" نستعرض نتفًا منها فيقول: "العربُ: أخوك من صدقك لا من صدّقك. من اتخذَ إخواناً كانوا له أعواناً. عمرو بن العاص رضي الله عنه: من كثُر إخوانه كثر غرماؤه. المغيرة: التاركُ للإخوان متروك."[5]. وينقل في موضع آخر من الباب عن ابن المعتزّ العبّاسي الشاعر (ت296هـ) قوله: "إنما سُمِّي الصديقُ صديقاً لصدقِه لك؛ والعدو عدواً لعدوانه عليك لو ظفَرَ بك. إخوانُ السوءِ كشجرةِ النار يحرق بعضها بعضاً. علامةُ الصديق إذا أراد القطيعةَ أن يؤخِّر الجوابَ، ولا يبتدىء بالكتابِ. لا يفسدنك الظن على صديقٍ قد أصلحَك اليقين له. إذا كثُرت ذنوبُ الصديقِ تمحق السرورَ به، وتسلّطت التهم عليه. من لم يُقدِّم الامتحان قبل الثقةِ، والثقةَ قبل الأُنسِ، أثمرت مودّته ندماً"[6].
"التذكرة الحمدونية" لابن حمدون
يعود نسب  محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون (ت562هـ) إلى الحمدانيين من بني تغلب الذي حكموا شمال بلاد الشام في حلب وما جاورها في القرن الرابع الهجري، وقد كان هو ووالده وابنه من بعده ممن عملوا في وظائف مختلفة في الدواوين العبّاسية في بغداد، وفي جهازها الإداري بصفة خاصّة، وكان للكاتب في ذلك الزمن مكانة كبيرة، ولهذا المكانة فقد ترقت الأحوال بابن حمدون حتى وصل إلى مرتبة الوزير فلم يلبث أن يهنأ بها بسبب وشاية الوشاة والحُسّاد.
في هذه الموسوعة التي عكف على إخراجها وتحقيقها العلامة المؤرخ إحسان عبّاس، يخصص ابن حمدون الباب الحادي والعشرين عن "المودّة والإخاء والمعاشرة والاستزارة" وهو بابٌ لطيفٌ يقع في أربعين صفحة تقريبا من المجلد الرابع من الكتاب.
يستفتح ابن حمدون هذا الباب فيقول: "المودةُ والإخاء سببٌ للتآلف، والتآلفُ سببُ القوة، والقوة حصن منيع وركن شديد، بها يُمنع الضيم، ويُدرك الوتر، وتُنال الرغائب، وتنجح المطالب. وقد امتنّ الله - عزّ وجلّ - على قومٍ وذكّرهم نعمتَه عندهم بأن جمعَ قلوبهم على الصفاءِ، وردّها بعد الفرقةِ إلى الألفةِ والإخاءِ، فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً[7]}"[8].
فهو ينوّع بين النقولات المتعددةِ من بين أقوال النبي r والصحابة والتابعين ومشاهير الأدباء والناس، فهو ينقلُ: "قيل لابن السماك: أيّ الإخوان أخلقُ ببقاء المودّة؟ فقال: الوافرُ دينه، الوافي عقله، الذي لا يملّك على القُرب، ولا ينساك على البعد، إن دنوتَ منه راعاك، وإن بعدتَ عنه اشتاقك، لا يقطعه عنك عُسر ولا يسر، إن استعنته عضّدك، وإن احتجت إليه رَفَدك، وتكون مودّة فعلِه أكثر من مودّة قوله، يستقلّ كثير المعروف من نفسِه، ويستكثرُ قليل المودّة من صاحبِه"[9]. وينقل في موضع آخر قول أبي الأسود الدؤلي "في صديق له فَسَد ما بينهما:
بُليتُ بصاحبٍ إن أدنُ شِبرًا ... يُزدْني في تباعدِه ذِرَاعا
أَبَت نفْسِي له إلاّ اتباعًا ... وتأبى نفسُه إلاّ امتناعا
كِلانا جاهَدَ؛ أدنو ويَنْأَى ... فذلك ما استطعتَ وما استطاعا" [10]

* نُشر في مجلة الوعي الإسلامي الكويتية عدد شوال 1435هـ/أغسطس 2014م


 


[1] الصولي: أدب الكتاب، تحقيق محمد بهجة الأثري ص237. المكتبة السلفية – مصر، 1341هـ.
[2] التوحيدي: الصداقة والصديق، تحقيق إبراهيم الكيلاني ص160. دار الفكر العربي، الطبعة الأولى – بيروت، 1998م.
[3] التوحيدي: الصداقة والصديق ص30.
[4] موقع الورّاق على الشبكة العنكبوتية.
[5] الثعالبي: التمثيل والمحاضرة، تحقيق عبد الفتاح الحلو ص461، 463. الدار العربية للكتاب، الطبعة الثانية، 1981م.
[6] الثعالبي: التمثيل والمحاضرة ص464.
[7] (آل عمران: 103).
[8] ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، تحقيق إحسان عبّاس 4/350. دار صادر، الطبعة الأولى – بيروت، 1417هـ.
[9] ابن حمدون: التذكرة 4/377.
[10] ابن حمدون: التذكرة 4/373.

هناك تعليقان (2):