الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

صور من حضارة المسلمين في صقلية



إن تاريخ صقلية الإسلامي يكاد يشابه نظيره في الأندلس فقد شهدت الفتح الإسلامي على يد القاضي أسد بن الفرات المكلف من لدن الأغالبة أمراء تونس عام 212هـ، وشهدت عصرها الذهبي أيام الفاطميين العُبيديين ووزراءهم الكتاميين الصنهاجيين، ودام الحكم الإسلامي فيها لقرنين ونصف قبل أن يغلبهم النورمان (النورمانديون) في القرن الخامس الهجري، إلا أن الوجود الإسلامي ظلّ هناك لقرن آخر ونصف تحت حكم النورمان، اتّسم أول الأمر بالتسامح فسمحوا للمسلمين بإقامة شعائرهم على أن يخطبوا في الجُمع للخليفة العباسي البعيد الضعيف و ألا يخطبوا للخليفة الموحّدي القريب القوي، إلا أن الأمور تغيرت آخر الأمر إلى الاضطهاد حتى انتفضت المقاومة وتمت الدعوة في الصلاة للموحدين، وانعزل المقاومون بعد ذلك في الجبال (كما حدث في البشرّات بالأندلس) بزعامة المرابط ابن عبّاد، ثم ما لبث أن انهزم المسلمون ليتم تهجير اغلبهم إلى الشمال الأفريقي والأندلس و بعضهم إلى الجنوب الإيطالي وبقي من بقي منهم في صقلية مخفيًا إسلامه.
ولما زار الرحالة الشهير ابن حوقل صقلية في القرن الرابع الهجري، دُهش لانتشار الحركة العلمية والثقافية فيها، وللمستوى العالي في التربية في هذه الجزيرة التي كانت من أهم الثغور الإسلامية في البحر المتوسط، فقد دُهش لكثرة المساجد في بلرم (بليرمو) وحدها، وكانت بلرم يومئذ هي العاصمة ومجتمع أهل الأدب ومنتجع طلاب العلم من سائر أنحاء صقلية، فنشاط الحركة التعليمية فيها كان سبباً في الاستكثار من المساجد وانضاف إلى هذا ما قاله ابن حوقل من التكاثر بها، وأصبح غرض كل واحد من بناء المسجد "أن قال مسجد فلان لا غير"([1]). والحق أنه في هذه المساجد وفي المكاتب كثر المعلمون، حتى كان منهم في بلرمُ ما لا يقل عن ثلاثمائة معلم، وهذا عدد ضخم مقارنة بعد السكان، يُدلل على مقدار انتشار التعليم في هذه المدينة وحدها فما بالنا بباقي الجزيرة.
ومع كل ذلك فقد كان يزاول مهنة التدريس كثير من أعيان البلاد، ويتخرج في المدارس كثير من أولاد السراة والأغنياء([2]). وقد أطلعنا ابن حوقل على صورة راقية من صور الكتاب حين حدثنا عن واحد منها لم يكن ينفرد بالتعليم فيه معلم واحد بل يدرس فيه خمسة معلمين لهم من بينهم رئيس هو مدير الكتاب([3]).
هذه الكثرة في عدد المعلمين والمساجد والمكاتب تشير إلى نشاط تعليمي واسع، ومهما تكن الأسباب التي أدت إلى كثرة المعلمين، فالذي لا شك فيه أن المعلم في هذا العصر كان شخصية طاغية الأثر في حياة الناس، وكان أهل صقلية يرون المعلمين أنهم "أعيانهم ولبابهم وفقهاؤهم وأرباب فتاويهم وعدولهم، وبهم عندهم يقوم الحلال والحرام وتعقد الأحكام وتنفذ الشهادات وهم الأدباء والخطباء"([4]). وقد رأى ابن حوقل من هؤلاء المعلمين من يتولى خطبة الجمعة، وعرف منهم العدول، وسمى من توصل من بينهم إلى منصب القضاء. فكان هؤلاء المعلمون هم الذين يوجهون الرأى العام في أمور الدين والدنيا([5]).
والحق أن الفصل الذي عقده العلامة المحقق الدكتور إحسان عباس في كتابه الرائع "العرب في صقلية"، وعنون له بـ "هجرة الكتب إلى صقلية" من أجمل ما قرأتُ عن رحلة الكتب وقصتها في هذه الجزيرة الغناء، وهو يُشير إلى التزام الصقليين بالتربية الإسلامية في هذا الثغر المضطرب، وهو فصل أقتبسُ منه قوله: "كانت الكتب التي يتداولها الطلبة والأساتذة مما يرد على الجزيرة من بلاد المشرق والأندلس والقيروان أو مما يؤلفه الأساتذة أنفسهم. وإذا استطعنا أن نعرف الكتب الواردة التي راجت في صقلية، أو أمثله منها على الأقل، كان كذلك خير معين لنا على تصور الثقافة السائدة في الجزيرة، وعلى مدى الامتزاج والتفاعل في تلك الثقافة. وقد كانت الكتب ترحل كالناس في بطء وتتحرك من مكان إلى آخر في أناة، وربما كان انتقال كتاب من بلد إلى آخر حدثاً يستحق التاريخ. فليس بغريب أن يصرح ابن القطاع الصقلي حين سأله المصريون عن كتاب "الصحاح" للجوهري بان الكتاب لم يصل إليهم في صقلية([6]).
ويحدثنا ابن رشيق أن أول من ادخل كتاب "اليتيمة" للثعالبي إلى القيروان (وهو من الكتب الأدبية الشهيرة) هو أبو الفضل محمد بن عبد الواحد البغدادي الدرامي سنة 439هـ([7])، ولما رحل ابن البر الصقلي إلى المشرق كان كتاب اليتيمة أحد مروياته عن شيخه أبي محمد إسماعيل بن محمد النيسابوري، وعنه تلقاه في صقلية تلميذة ابن القطاع([8]).
وقد دخلت "المدونة" في الفقه المالكي عند فتح صقلية أو بعيد ذلك بقليل، وكان كل نشاط الفقهاء يدور حولها اختصاراً وشرحاً، وبياناً لما فيها من غريب، ونسجاً على منوالها. وظل الأمر كذلك حتى آخر أيام العرب في صقلية. وبديهي أن موطأ كان يدرس في صقلية أيضاً ويقوم بتدريسه محدثون أعلام، مثل الفقيه السمنطاري، وكان الطلبة لكثرة دروج الاسم على أفواههم يلفظونه بغير الهمز. ويستعملون إلى جانبه كتاب "الملخص" وهو كتاب ألفه القابسي ولخص فيه ما اتصل إسناده من حديث الموطأ، وكان الطلبة يسمونه الملخص بالفتح مع أن صاحبه سماه الملخص بالكسر([9]). وألف ابن جعفر القصري كتاباً سماه "تجديد الإيمان وشرائع الإسلام" يشتمل على نيف وستين جزءاً وفيه بحث في المعجزات فدخل صقلية وقرأه الناس([10]).
وفي القرن الخامس وردت إلى صقلية نسخة من كتاب "التقريب" وهو كتاب اختصر به البرالي البلنسي (البريلي بخط ابن بشكوال) كتاب المدونة وجمع فيه أقوال أصحاب مالك حتى قال فيه بعضهم: من أراد أن يكون فقيها من ليلته فعليه بكتاب البريلي وقرأه عبد الحق شيخ فقهاء صقلية في عصره وأراد أن يشتريه فلم يتيسر له ثمنه، فباع حوائج من داره واشتراه([11])، فلما عرف أهل صقلية ذلك زادت قيمة الكتاب في أعينهم، فاقبلوا عليه وتنافسوا في اقتنائه"([12]).

* نُشر في مجلة الوعي الشبابي الإلكترونية


([1]) ميشيل أماري: المكتبة الصقلية ص7.
([2]) ابن حوقل: صورة الأرض ص127
([3]) ابن حوقل: صورة الأرض ص130
([4]) ابن حوقل: صورة الأرض 1/127.
([5]) إحسان عباس: العرب في صقلية ص90.
([6]) القفطي: إنباه الرواة 1/ 536.
([7]) ابن بسام: الذخيرة 4/68.
([8]) ابن ظافر، بدائع البداية 1/ 92.
([9]) ابن مكي: تثقيف اللسان نسخة الآستانة الباب 36.
([10]) ابن بشكوال: الصلة رقم 379.
([11]) ابن فرحون: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب ص113.
([12]) إحسان عباس: العرب في صقلية ص92- 94.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق