الأحد، 5 أكتوبر 2014

بيت المقدس من الاسترداد إلى التسليم 4

نزل الإمبراطور فردريك الثاني في عكا في أواخر عام 625هـ طبقا لروايات المؤرخين المسلمين كابن الأثير والملك المؤيد أبو الفداء وابن نظيف الحموي وغيرهم، أو في عام 626هـ و 627هـ طبقا لروايات المؤرخين النصارى التي استقصاها الدكتور سهيل زكار في موسوعته الشاملة أو حتى ستيفن رانسيمان في تاريخ الحروب الصليبية.
على أن هذا النزول وإن كان مرحبًا به قبل وفاة المعظّم عيسى سنة 624هـ، بل سعى الكامل إليه مرارًا من خلال سفارات رسوله الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ إلى فردريك إلا أن الوضع قد تغيّر الآن بعد وفاة المعظّم ووصول ولده الضعيف الملك الناصر داود إلى الحكم.

لقد خرج الكامل من مصر في شوال من عام 625هـ طالبًا بلاد أخيه المعظّم وهي دمشق وما جاورها إلى غاية نابلس وبيسان وبيت المقدس والخليل وغيرها من بلاد فلسطين، وسرعان ما نزل على تل العجول بالقرب من غزة وأرسل من قبله من استولى على بيت المقدس وغيرها وعيّن عليها من يدينون بالولاء له، الأمر الذي جعل الناصر داود يستغيث بعمه الأشرف موسى صاحب البلاد الجزرية في الشمال الشرقي، وهو ما جعل الأشرف يأتي بفرقة عسكرية قليلة العدد "جريدة" إلى دمشق سريعًا، فدخلها وهدّأ من روع ابن أخيه ووعده خيرًا.
واللافت أن ابن الأثير يقرر أن مجيء الكامل محمد من مصر لم يكن لمجرد الطمع في بلاد ابن أخيه وإنما كان غرض الاستيلاء عليها حمايتها من الصليبيين الذين ما لبثوا أن استعرضوا قواهم في بلاد الشام عقب وفاة الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق، وهو يصرّح بهذا لأخيه الأشرف موسى في رسالة له بقوله: "إنني ما جئتُ إلى هذه البلاد إلا بسبب الفرنج، فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه، وقد عمّروا صيدا، وبعض قيسارية، ولم يُمنعوا، وأنت تعلم أن عمنا السلطان صلاح الدين فتح البيت المقدس، فصار لنا بذلك الذكر الجميل على تقضي الأعصار وممر الأيام، فإن أخذه الفرنج، حصل لنا من سوء الذكر وقبح الأحدوثة ما يناقض ذلك الذكر الجميل الذي ادخره عمنا، وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله تعالى؟"[1].
فهل هذه الحمية الواضحة في رد الكامل على أخيه الأشرف حقيقة أم مجرد حيلة أراد بها أن يسوّغ مجيئه من مصر إلى الشام والاستيلاء عليها؟!
لقد قرر كل من الأشرف والناصر أن يواجها الكامل في نهاية المطاف، فسبق الأشرف ابن أخيه إلى ملاقاة الكامل عسى أن يتوصّل إلى حل لهذا الإشكال، لكن سرعان ما اقتنع الأشرف بحجج الكامل في تل العجول، وأبرما سويًا اتفاقًا "على أخذ دمشق من ابن أخيهما الناصر داود، وتعويضه عنها بحران والرها والرقة من بلاد الملك الأشرف، وأن تستقر دمشق للملك الأشرف، ويكون له إلى عقبة أفيق[2] وما عدا ذلك من بلاد دمشق يكون للملك الكامل"[3] ، وعلم الناصر داود أن عميه اتفقا عليه فرفض اتفاقهما وعاد أدراجه سريعا إلى دمشق ليحصّنها من هجوم وحصار قادم.
وتبع الأشرف ابن أخيه وبدأ في حصار دمشق، وفي تلك الأثناء كان نزول الإمبراطور فردريك في عكا ويافا وبلاد الساحل، وقد أرسل إليه الكامل وفودًا للتصالح وعقد اتفاق، كان الغرض منها إطالة أمدها كيما يستطيع أن يستخلص دمشق من ابن أخيه الناصر داود.
موقف الجانبين وعقد التسليم
وبالرغم من أن موقف فردريك كان ضعيفًا بسبب الحملة التي شنتها الكنيسة عليه بإعلانها حرمانه، وتردد الاسبتارية والداوية وغيرهم من الصليبيين في الشرق من معاضدته ومساعدته في حملته الصليبية هذه، إلا أن الخلافات الأيوبية الأيوبية كانت كالعادة ورقة ضغط مهمة في يد فردريك.
أمر آخر فعله فردريك كان سببًا في إزعاج الكامل وهو استيلاؤه على صيدا وإقامة سور لها وكانت مناصفة بين المسلمين والصليبيين، وعمله على زيادة الاستحكامات العسكرية والدفاعية على يافا، وحشد ما قدر عليه من الفرسان والخيّالة، ثم هجومه أثناء مفاوضاته مع الكامل على البلاد والقرى الإسلامية القريبة من البلدان الساحلية الأمر الذي أغضب الكامل كثيرا وأرسل يطلب من فردريك تعويضات عن هذه الخسائر[4].
إزاء إصرار فردريك على إبرام اتفاق سريع - في ظل حصار الأشرف لدمشق وإرادة الكامل أن ينجح هذا الحصار بسقوط دمشق - وهو الاتفاق الذي أراد فردريك بمقتضاه التسليم الكامل لبيت المقدس وبعض المدن التي استعادها الناصر صلاح الدين يوسف وهو ما رفضه الكامل بطبيعة الحال، كان على الكامل أن ينتهي من هذا التردد والاستفادة بالوقت، وخشية من فتح عداوة أكبر مع الصليبيين فأرسل مبعوثه الأثير والمحنك الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ واتفق الطرفان على:
1-              أن يتسلم فردريك القدس على ألا يجدد الصليبيون سوره أبدا، وألا يتعرّضوا لظاهر مدينة القدس.
2-              أن يكون للمسلمين وال عليها يكون مقامه في مدينة إلبيرة شمال القدس.
3-              ألا يدخل الصليبيون بيت المقدس إلا للزيارة فقط وأن يكون عليه قوّام المسلمين[5].
4-              ألا يتعرّض الصليبيون إلى المسجد الأقصى ولا قبة الصخرة ويكون الحكم في الرساتيق إلى والي المسلمين.
5-              أن يكون للصليبيين القرى الواقعة على الطريق من عكا إلى بيت المقدس مخافة أن يتعرّض لهم أحد من المسلمين[6].
6-              أن يستمر هذا الاتفاق بين الطرفين لمدة عشر سنوات ميلادية أي عشر سنوات وخمسة أشهر هجرية[7].
فردريك .. صليبي يتسلم القدس سلمًا!
في مارس من العام 1229م = جمادى الأول 627هـ[8] دخل الإمبراطور فردريك الثاني بيت المقدس في قلة من جنده ومؤيده، ليتوّج نفسه ملكًا لمملكة بيت المقدس، وليتسلم مفاتيحها من قاضي نابلس!
لقد كانت أجواء المفاوضات ودية للدرجة التي كان فردريك يرسل فيها بعض المسائل الرياضية والهندسية والطبية العويصة إلى الكامل ليرى هل وصل علماء المسلمين في بلاطه إليها أم لا، وكان الكامل يرسل بجواب هذه الأحاجي إلى الإمبراطور، لقد أراد فردريك بيت المقدس ليحفظ ناموس ملكه في صقلية وشمال إيطاليا وألمانيا، ولترجع إليه هيبته في العالم المسيحي كما أسرّ هو نفسه في مباحثاته إلى الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ بذلك، وفي المقابل أراد الكامل أن يقتسم أملاك المعظّم عيسى في الشام وفلسطين بينه وبين أخيه الأشرف موسى، ولم يتحقق للطرفين ما أراده إلا من خلال عقد اتفاق.
لقد كان تسليم الكامل بيت المقدس تسليمًا منقوصًا من الناحية السياسية والعسكرية، لكنه في نهاية الأمر تسليم لملك صليبي وإن تربّى في صقلية ذات الغالبية المسلمة وحتى لو تشرّب ثقافة المسلمين وأُعجب بها، وفي المقابل لم يُعجب العالم الصليبي هذا التسلم المنقوص لبيت المقدس، لقد أرادوه تسلما بالسيف والدم والتنكيل التام في المسلمين كما فعلوا أول مرة في العام 492هـ.
لقد صدق رانسيمان حين قال: "ما من معاهدة لقيت ما لقيته هذه المعاهدة مباشرة من الرفض من المسلمين والمسيحيين؛ إذ جزع العالم الإسلامي، ففي دمشق لقي الناصر متعة في أن يُعلن الحداد العام لما تعرّض له الإسلام من خيانة، بل إنّ أئمة الكامل جهروا بأنه أساء إلى الإسلام وما قام به الكامل من ردّ قاصر بأنه لم يتنازل إلا عن دور وكنائس خربه، بينما استخلص للإسلام مشاهده كاملة ولم يكن إلا سلوى تافهة، كما أن قوله بأنه لا زالت للمسلمين السيادة العسكرية في الإقليم لم يكن فيما يبدو عذرًا كافيًا"[9].
وعلى الجانب المسيحي فقد "أعربوا عن حزنهم بأن بيت المقدس لم تسترد بقوة السلاح، وامتعضوا لاحتفاظ المسلمين بمشاهدهم، وتذكروا جميعاً ما جرى من مفاوضات في الحملة الصليبية الخامسة حين تقرر رفض عرض الكامل بالتنازل عن كل فلسطين؛ لأن الخبراء العسكريين أشاروا إلى أن بيت المقدس لم تكن لتبقى في أيدي المسيحيين ما لم يُضف إليها إقليم ما وراء نهر الأردن فكيف تستطيع بيت المقدس عندئذ أن تبقى ولم يربطها بالساحل سوى شريط ضيق من الأرض؟ فلم يحدث من الابتهاج والسرور ما كان الإمبراطور فردريك يتوقعه. فما من أحد اقترح رفع قرار الحرمان من الكنيسة عن الرجل الذي أدّى للعالم المسيحي هذه الخدمة الكبيرة"[10].
هكذا رآها المؤرخ الانجليزي الحذق رانسيمان "خدمة كبيرة" فعلها فردريك للعالم الصليبي بأن ردّ لهم بيت المقدس دون ضربة سيف، لقد كان نصرا وإن رآه غلاة الصليبيين منقوصًا، وفي مقالنا الأخير القادم من هذا التطواف سنقف إن شاء الله مع ردة فعل العالم الإسلامي آنذاك أمام هذا التسليم، فمن المتوقع أن نرى ردة فعل قوية أرخ لها المؤرخون، وخلّدها الشعراء، لكن لم يكن من المتوقع أن نرى من يُبرر لتسليم بيت المقدس من بعض الفقهاء والقضاة!





[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/432.
[2] قال ياقوت الحموي عنها: "قرية من حوران في طريق الغور في أول العقبة المعروفة بعقبة أفيق، والعامة تقول فيق، تنزل من هذه العقبة إلى الغور، وهو الأردن، وهي عقبة طويلة نحو ميلين". معجم البلدان 1/233. دار صادر، الطبعة الثانية – بيروت، 1995م.
[3] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر 3/140. طبعة المطبعة الحسينية مصر.
[4] ابن الأثير: الكامل 10/434، ورانسيمان: تاريخ الحروب الصليبية 3/330.
[5] من 1 إلى 3 انظر ابن واصل: مفرّج الكروب في أخبار بني أيوب 4/242.
[6] 4 و 5 انظر: أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر 3/141.
[7] انظر: رانسيمان: تاريخ الحروب الصليبية 3/331.
[8] عند ابن الأثير وغيره تسلم الصليبيون بيت المقدس في ربيع الآخر سنة 626هـ.
[9] رانسيمان: تاريخ الحروب الصليبية 3/332.
[10] رانسيمان: تاريخ الحروب الصليبية 3/332.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق